العالَم العربي: مقبرة الكتب الميتة والأفكار

2019-12-09

خليل النعيمي*

الكِتاب العربي الحديث يولَد ميتاً، في أغلب الأحيان. وما دمنا نعتقد أن الكتاب «غلاف»، وأن أهميته تكمن في الزخم المعرفي الذي يحتويه، فإن معنى أنه «يولَد ميتاً» هو أنه لا يحمل إلاّ «معرفة ميتة». معرفة لا جدوى منها، ولا تستحق العناء، لا عناء إنجازها، ولا طباعتها، ولاقراءتها.

المعرفة التي نعنيها، هذه، لا يجهلها أحد. إنها شكل من أشكال الأنشطة الإنسانية الأكثر إنتشاراً. وهي تعتبر، من هذا المنظور، «سلطة مَنْ لا سلطة لهم»، لأن تَشارُكها المعمّم، وإن كان غير مجد، هو الذي يُعطيها هذا الموقع الخطير. وهي، على العكس مما يعتقد الكثيرون، ليست شيئاً نافلاً لا تأثير فعلياً له، لأنها، عَبْر«السيولة العفوية» التي تُسَهِّل احتواءها من العموم، تشكِّل نوعاً من استحواذ البلادة على العقل.

ومفعولها، هذا، «هَدّام»، أو هو تثبيطيّ كاسح، لأنها تدفعنا إلى «امتهان الراحة الفكرية»، وتسبب لنا الإدمان: إدمان التعرّف المستمر على ما نعرفه، من قبل. وبفعلها هذا، تضع الجَميع، على بساط واحد من «الجهل المقَنَّع». إنها تمثِّل، في الواقع، ما يمكن أن نسميه: «معرفة ضد المعرفة».

مهمَّة هذه النوع من «المعرفة الخاوية»، إذن، هي مَحْو البعد النقدي المتحَفِّز لدى الكائنات، والعمل من أجل سيادة الإبتذال. فهي كــ«معرفة مطمئنّة» إلى قوّة الجهل الذي تدعمه هي نفسها (أقصد مَنْ هُم وراءها)، وسهلة الإنقياد عند مَنْ هُم في مستواها الذهني الذي صنعَتْه بتكرّرها المستمر، تمنع العقول التي تغدو فريسة لها من اكتساب معارف جديدة.

فهي لا تُقارب « سوء الواقع»، إلاّ لماماً، ولا تَنْبش «خفايا الوجود»، وإنما «تُلامسها»، إذا تجرّأت، عن بعد. وباستنادها على «خبرتها السكونية» النافذة، صار بينها وبين «قَلب الوضع» غلاف واقٍ، هو «وعي كاتبها البليد» الذي ينشغل بوقائع زائفة لاعلاقة لها بما يعيشه، ويُهْمِل الواقع المثير الذي يعانيه، مفتعِلاً نظاماً معرفياً لــ« حقائقَ متخيَّلَة»، ومبتدعاً أحداثاً مراوغة لا وجود لها، ولا أهميّة.

    الكِتاب العربي الحديث يولَد ميتاً، في أغلب الأحيان. وما دمنا نعتقد أن الكتاب «غلاف»، وأن أهميته تكمن في الزخم المعرفي الذي يحتويه، فإن معنى أنه «يولَد ميتاً» هو أنه لا يحمل إلاّ «معرفة ميتة»

نتيجة لنهجها المبسِّط لجوهر الكائن، هذا، والذي لا يؤدي في النهاية إلاّ إلى «إعادةإنتاج ما أُنتج من قبل»، يمكن لهذه المعرفة الغريبة أن تُفرز نشاطات متعددة الأشكال والطيوف، مُضلِّلة، أومُرائية، أحياناً، وحتى مُغالية في التطرّف والحداثة، أحياناً أخرى، من أجل أن تظل مهيمنة على الفضاء العام. أما مدى تغلغلها الاجتماعيّ الثقافي فتصعب السيطرة عليه لأنها مدعومة من قوى التخلّف والركود التي هي مصدرها الرئيسي، وحاميها، وناشرها. وقد أعَدَّتْها، بشكل منهجيّ، لتكون قــــــادرة على تزييف وقائع الحياة، لذلك، فهي، لا تعرف كيف تصفّي حسابها مــــع واقعهــــا المزري، حاضراً، ولا تدرك أن جوهر الإبداع، تاريخــــياً، يقتضي أن يكون الكاتب متمتِّعاً بوعي ناجز، وقادراً على تحقيق قطيعة لا تراجُع فيــها، مع نفسه، أولاً، ومن ثمّ، مع الآخرين. فالكاتب ليس حوذياً مطيعاً يقودنا إلى حفل تهريجيّ، وإنما هو «قاطِعُ طُرقِ» أفكارٍ، ومفهومات، يجعلنا نرتعد عندما نقرأ، فيما يكتب، ما لم نكن نتوقعه .

وفي النهاية، لا تؤدّي تلك المعرفة البائسة، أيا كانت الأشكال التي تأخذها، والأنماط التي تستخدمها، إلاّ إلى تخدير الحس العام، واجتثاث الرغبة في التغيير، حتى لَنبدو، من شدّة بلادتنا، سعداء بما نحن عليه، وبالخصوص، مكتفين به.

وعملية الاكتفاء اللاتاريخية، هذه، والتي هي في الواقع عَوْز معرفيّ كاسح، هي ما تهدف اليه المؤسسات الثقافية السائدة التي تعمل من اجل أن تتَعَمَّم هذه الظاهرة، وأن تدوم. لماذا؟ لأن بقاء السلطة العربية المهيمنة، الآن، مرتبط بها، بهذه المعرفة الميتة بشكل عميق.

ويمكن لنا ان نتساءل، قبل أن نقلب مؤقتاً هذه الصفحة، عن أبعاد«الأوسمة الثقافية» التدجينية التي تمنحها وزارات الثقافة لمَنْ يدخلون في خانتها، وعن دور «جوائز الدُوَل التخديرية»، في هذا المجال! ولا ننْسَ الجوائز المشهدية الأخرى، وعروضها المجزية بكَرَم لا نظير له، حيث يَتُمّ استيعاب الباحثين عن الذهب، حثيثاً.

واليوم، وقد صار الناس كلهم في الشوارع من أجل إحداث تغييرات سياسية اجتماعية عربية عميقة، يحق لنا ان نسأل : هل التنديد بــ«السياسي»، وحده، هو المطلوب؟ هل يكفي ان يتغير «السياسيّ»، فقط، أم علينا ان نطالب، في الوقت نفسه، بتغيير«أدوات الهيمنة الثقافية» التي تسانده بقوّة؟ وهل يمكن، أصلاً، أن يختفي السياسيّ، ويبقى الثقافيّ حيّاً؟

  • روائي سوري






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي