جاذبية التنوير؟

2019-12-04

 واسيني الأعرج

يتوهم الحداثيون العرب إذ يظنون أن الحداثة مست المجتمع العربي بقوة من خلال الوسائط الحديثة؟ ما يحدث اليوم في التعامل مع كل مناحي العقل يبين إلى أي درجة أصبح الفكر مرتبطاً بالأقليات المجتمعية.

إن الجزائر العاصمة ليست هي كل الجزائر، بل هي جزء صغير منها. وتونس العاصمة ليست هي تونس بامتدادها الريفي والصحراوي، والرباط ليست المغرب قاطبة، والقاهرة ليست هي مصر كلها. ليست العواصم هي التي تحدد نتائج الانتخابات، ولكن الأطراف التي تعيش زمناً موحشاً خارج مدارات الحد الأدنى من الحياة الكريمة هي المتحكم، وهي - من حيث قناعاتها- كارهة للأنظمة المتسيدة كلياً، ورافضة للنخب الثقافية التي لم تقطع معها وظلت في مداراتها، وكلما رفعت من وتيرة عقلها النقدي تم ربطها بآليات التكفير ثم تصفيتها. صحيح أنه لا يمكننا أن نرفض نتائج انتخابات ديمقراطية، وبنتائج الانتخابات كحقيقة موضوعية لا يمكن تخطيها، ولكنها لا تحتم على المثقف القبول بالفكر الذي يتخفى وراءها والذي جاءت به هذه الانتخابات الديمقراطية.

ونعتقد أنه لو فتح باب الديمقراطية على مصراعيه فلن تكون النتائج في النهاية إلا في صالح الحركات التي جعلت من الدين مطية سياسية. ربما كانت تلك نقائص الديمقراطية نفسها التي جاءت بهتلر، وموسولوني، والدكتاتوريات اللاحقة، فهذا ما وصلت إليه اجتهادات البشر.

لهذا نقول إن القبول بنتائج الانتخابات والانصياع ديمقراطياً لها لا يحتم على المثقف مطلقاً القبول بنظام لا عقلاني، ومعاد لأي تأمل فكري، بل ويستطيع أن يتحول في أية لحظة من اللحظات إلى دكتاتورية كنسية تتحكم في أنفاسها محاكم التفتيش المقدس، الدينية؛ المشهد نفسه والأغلفة الدينية أيضاً نفسها وإن تغيرت المطية السياسية الدينية فقط.

من وظائف المثقف أن يبحث عن الفكر الذي يدفع بالبشرية إلى الأمام، وليس الذي يضعها في حالة الثبات والموت البطيء. وكما في كل التجارب البشرية الصعبة التي لا يشذ العالم العربي عنها، لا تقدم إلا بحماية الدين من التلاعبات السياسية ووضعه في مكانه الإنساني الفردي، وخارج الرهانات السياسية والسلطوية التي هي في النهاية بشرية.

الدين كقيمة متعالية يجب أن يظل خارج الحيل البشرية. لماذا تذهب الشعوب الإسلامية، والعربية بالخصوص، نحو اللعبة السياسية التي تستعمل الدين، وتنسى أن خلاصها الحقيقي في العلم والخيارات العقلانية؟ لا أعتقد أن المسألة صعبة. ويمكن الإجابة عنها بسهولة في سياقات الحاضر، بالرجوع إلى الأمم التي سبقت العالم العربي في مواجهاتها وهي تنتصر للعقل على حساب كنيسة دمرت كل سبل التنوير والمعرفة.

عندما تم اكتشاف قوانين الجاذبية، وحركة دوران الأرض، والرياضيات، كانت هذه المعارف تصطدم باللاعقل الذي تبنته الكنيسة التي كانت ترى أن الأرض منبسطة وثابتة وأنها مركز الكون، ولا تعرف بقوانين الجاذبية وتفسير الظواهر علمياً والتحكم في كثير منها، بدأت الصراعات والنقاشات لمقاومة كنيسة منغلقة على نفسها ومعارفها، وعوضت الدين كعبادة وجيّرته لأهدافها المرتبطة بالسلطة والهيمنة.

ثم تبع ذلك نوع من الاضطهاد الديني ضد العلماء وتسيد الظلامية، نيوتن، كوبيرنك، غاليليو، وغيرهم. العقل المضطهد والمنتج للفكر هو الذي صنع التنوير ونمطاً آخر من الحكامة انتهى إلى تطوير مفاهيم الديمقراطية، مع إعلان استقلال الولايات المتحدة واندلاع الثورة الفرنسية.

سيقول قائل إن التنوير الأوروبي جاء على أنقاض سواد القرون الوسطى، وهي نفسها عصر التنوير العربي. الكلام صحيح إلى حد كبير، لكنه لا يكفي. عصر التنوير العربي تم تدميره أولاً في عصره بمحاربة جميع التنويريين على مختلف الحقب، من طرف الحكام الذين رأوا في التنويريين من ابن رشد، إلى ابن خلدون، وابن طفيل، والغزالي، والفارابي… خطراً على المجتمع وعليهم. قبل أن تأتي الفترة العثمانية التي أجهزت على الفكر بعقلها الإنكشاري الذي عاش على العنف والترهيب والنهب. وتنهي المهمة الحقبة الاستعمارية الأوروبية التي عاش الإنسان فيها برتبة «الأهالي» أقل من رتبة الحيوان.

يجب ألاّ نخطئ ونستسهل الأمور. إن التنوير الأوروبي لم يأت هكذا كزيت فوق الماء، غير قابل للاختلاط، ولكنه جاء كثمرة لتطور حدث في الواقع. فقد كان مساحة لاختبارات معرفية كثيرة اخترقت أزمنة متتالية، وتجسداً لجهود كبيرة وتضحيات أكبر، من أجل انتصار العقل. كانت فلسفة الأنوار قاعدة حقيقية للتحولات التي حصلت لاحقاً في النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي، عصر الفلاسفة من أمثال سبينوزا، ولوك، وبايلي، ونيوتن، قبل أن يتطور هذا الفكر الحر في أوروبا كلها، ويجتاحها كلياً، ليصبح قرن الأنوار لحظة إنسانية لا يمكن القفز عليها. ونقل هذه اللحة إلى عالم فكري وحضاري آخر يحتاج بالضرورة إلى اشتغال حقيقي، واجتهادات تضمن استمرارها وانسجامها مع النسيج الفكري والثقافي، دون أن يعني ذلك تنازلاً لتسيد دكتاتورية الجهل واللاعقل.

لهذا، تبقى للأنوار خصوصية أوروبية قبل انتقالها داخل أوروبا والعالم. المحصلة، هي أنه على الصعيد العلمي والفلسفي، شهدت الأنوار انتصاراً نهائياً للعقل على الدين الملتبس بالسياسة والسلطة، وانتصار البرجوازية على النبالة والكنيسة. مهما كانت لدينا من ملاحظات على هذا العقل الذي تبنى في بعض اللحظات التاريخية العنف وكان وراء سباق التسلح، وحربين عالميتين مدمرتين، وإلقاء قنبلتين نوويتين على هيروشما ونكازاكي، وشرّع للاستعمارات، يظل هو القيمة المتعالية التي لا بديل للبشرية عنها.

انتقل المفهوم التنويري عربياً نحو ساحة خاملة معرفياً، راضية بما هو موجود، ولا تقبل أن تغير قناعاتها الغيبية التي ترسخت في ذهنها بشكل شبه نهائي، وكأن قدر الفكر أن يكون غيبياً أو لا يكون. وتحولت هذه القناعة إلى آلة حرب ضد من يخرج عنها وينتصر للعقل. وليس التكفير إلا وسيلة من وسائل اضطهاد العقل وقتله. وأعتقد جازمًا أن وراء ذلك، إضافة إلى تخلفنا المدقع، مخابر استعمارية تشتغل بهذا الاتجاه، تريد أن نظل –كعرب- على ما نحن عليه من تخلف ومن عداوة لكل حداثة تغير البنيات المتكلسة والقديمة. وتطور ذلك بشكل مجنون لتصبح الاعتداءات على الثقافة والاغتيالات والرعب التكفيري جزءاً من عمل اللاعقل.

السؤال الكبير.. لماذا وكيف توقف رواد التنوير العربي: ابن رشد، وعلي عبد الرازق، وقاسم أمين، وطه حسين، ونصر حامد أبو زيد، وغيرهم، عند حدود إعادة النظر في العقل الفقهي المغلق وعدم القدرة على التخطي، بل التراجع أحياناً نحو الفقهية الجديدة التي استفادت من المكاسب الأوروبية معرفياً، لا لتطوير المجتمعات، ولكن لضرب العقلانية العربية في الصميم؟







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي