بنتوس والحداثة

2019-11-10

حنّا عبّود*

هناك خلاف واختلاف حول كلّ شيء في الحداثة، ليس بين الحداثيّين والتقليديّين، بل بين الحداثيّين أنفسهم. ويغدو الخلاف والاختلاف متشنّجَين جدّاً عندما تجد كلّ مُشارِك في هذا الصخب متمسّكاً برأيه، ثابتاً في مَوقفه. وبما أنّ أركيولوجيا المعرفة هنا لا تقدِّم سوى أقوال الباحثين والرواة، وأقوال تُغامِر وتَبتكر، وأقوال تُثبت صدقها من أقوال مَن سبقها. فالمسألة على ما يبدو عبارة عن قول على قول.

فهذا يرى أنّ الحداثة عبارة عن جديد يتولّد في كلّ يوم، وآخر يرى أنّ الحداثة ظهرت بظهور النهضة الأوروبيّة أو عصر العقل، أو عصر التنوير، أو عصر التحليل ... وقد يربطون الحداثة بحدث، كما فعل هنري لوفيفر عندما جعلَ الحداثة تبدأ بثورة أكتوبر البلشفيّة، في حين حصر غيره بداية الحداثة في الثورة الأميركيّة، وآخر في الثورة الفرنسيّة في القرن الثامن عشر أو الثورة الصناعيّة في هذا القرن أيضاً. وربّما ربط بعضهم الحداثة بفردٍ من الأفراد، كما فعل بودلير عندما جعل إدغار ألن بو بوّابة الحداثة في الأدب، والصوت المُنذر بمَخاطر العصور التالية، وقد تَرجم له قصيدة "الغراب" أكثر من ستّ عشرة مرّة، وتوفّي وهو يقول إنّه لم يُحسن ترجمتها إلى الفرنسيّة. ويرى بعضهم أنّ الحداثة بدأت بمحاولة الكنيسة الكاثوليكيّة في العام 1907 على يد البابا بيوس العاشر، الذي قام بإصلاحات كثيرة حتّى تُماشي الكنيسةُ العصرَ الحديث. ويميل أرنولد هاوزر إلى اعتبار "التعبيريّة" فاتحة الحداثة، ليس في الرسم وحده، بل في معالِم كثيرة أخرى، سواء في الفنون أم العلوم لأنّها أعادت للروح الفرديّة حريّتها. ورأى الاقتصاديّون أنّ الحداثة تعود إلى زمنٍ أسبق بكثير ممّا أشاروا إليه، حتّى أنّ بعضهم أكَّد أنّ "الثورة الصناعيّة" في القرن الثامن عشر هي الفاعل الأكبر في الفكر البشري، فمنها انطلق كلّ فكرٍ حداثي، بينما كلّ المحاولات السابقة على هذه الثورة كانت محاولات خجولة. وهكذا يصعب حتّى سرد المؤلّفات التي تعاطت مع نظريّة الحداثة، المؤيِّدة لها والكافرة بها.

 كما اختلفوا في تحديد "ما بعد الحداثة" فبعضهم ذهب إلى أنّها مرحلة ظهرت في أوائل الحرب العالَميّة الثانية، حيث انتهت الحداثة وأثبتت- ربّما بسبب قيام هذه الحرب- أنّها فاشلة في استيعاب حقيقة النشاط البشري، وبعضهم الآخر أرجأ ظهور "ما بعد الحداثة" إلى ستينيّات القرن العشرين، أي بعدما تسيّدت النظريّةُ "البنيويّة" الساحةَ... والنقاش لا يزال جارياً.

وعندما أعلن بوش الأبّ عن "النظام العالَمي الجديد" ظهرت النظريّات المؤيِّدة والمُعارِضة لهذا النظام، ونُشرت كُتب لا حصر لها، في هذَين المجالَين. وربطَ المفكّرون بين العَولمة والحداثة ودارت معارك فكريّة لا تزال قائمة حتّى الآن، على الرّغم من أنّ نيكولاس بوريود Nicolas Bourriaud أصدر بياناً في العام 2009 أعلن فيه نعي "ما بعد الحداثة" وزعمَ أنّها لم تعُد صالحة لمُعالَجة أيّ شيء، وأحلّ محلّها بديلاً أسماه Altermodernism أو الحداثة التي تتخطّى نفسها بنفسها، أو الحداثة التي بتفاعلها الذّاتي تطوِّر ذاتها.

   

التطوّر عبارة عن صراع التناقضات، ينحرف إلى هذا الاتّجاه أو ذاك بحسب تدخُّل الإنسان المُهيمن، وفي هذه الحال، يبقى المسحوق مسحوقاً، والمهمَّش مُهمَّشاً، ما دام الأقوى مُنتصِراً أبديّاً

فإذا دخلنا ميدان نظريّات "ما بعد" من أمثال ما بعد الماركسيّة وما بعد البنيويّة (أو التفكيكيّة) وما بعد الفرويديّة وما بعد الفوضويّة، وما بعد الوجوديّة ... وقعنا بين وحشَي البحر سكيلا وخاريبديس، ونحتاج إلى مهارة جاسون حتّى نمرّ بين هذَين المضيقَين اللّذَين يُرعبان أعظم ربابنة البحار، ويندر أن يعود أحدهم بالجزَّة الذهبيّة، كما عاد جاسون، ومعه ميديا، مُعتقداً أنّه انتصر، فقتلته صارية السفينة التي أقلّته، بعد أن عاث فيها العثّ. ويبدو أنّ مركب الحداثة يشبه سفينة الأرغو، العائد المُنتصر منها يلقى حتفه العبثي، كما جرى مع القائد جاسون.

 تجلّيات الحداثة

من المحال نكران الحداثة، فهي تتخلّق في كلّ يوم، وتأتي بكلّ جديد. والحداثة من طبيعة التطوّر، يُمكن توجيهها، ولا يُمكن الإجهاز عليها. والتطوّر عبارة عن صراع التناقضات، ينحرف إلى هذا الاتّجاه أو ذاك بحسب تدخُّل الإنسان المُهيمن، وفي هذه الحال، يبقى المسحوق مسحوقاً، والمهمَّش مُهمَّشاً، ما دام الأقوى مُنتصِراً أبديّاً، ومن النادر جدّاً أن يكون الأقوى هو الأعدل أو الأرحم أو الأوعى.

كان الغرب، وبالتحديد بريطانيا والولايات المتّحدة، يدّعون أنّ "صيد العبيد" في أفريقيا وتشغليهم ضرورة حياتيّة. لم نسمع أفريقيّاً هاجر من تلقاء نفسه، وإنّما يؤخَذ عبداً، ليعمل مسخّراً.

فكان "صيد العبيد" مُرافِقاً للحداثة باسم الضرورة. واليوم، في عصر ما بعد الحداثة، صار الأفريقيّون يركبون البحار، وهُم يعرفون أنّهم سيعملون عبيداً في الغرب، يُقابَلون بالصدّ والقمع والإغراءات التافهة لإبقائهم في ديارهم، بدلاً من جعل ديارهم مَوطناً لائقاً، فالحداثة التي ابتدأت بصيد العبيد انتهت بصدّ العبيد، الذين اختاروا العبوديّة هذه المرّة بملء إرادتهم.

تجلّت الحداثة "الحديثة" منذ عصر النهضة، أو عصر الكشوفات الجغرافيّة وتجارة العبيد. ولو قارنّا بين العبوديّة في العصر اليوناني وعبوديّة عصر الكشوفات لوجدنا فارِقاً كبيراً جدّاً. فقد كان العبد قديماً يخضع لقوانين تضعها الدولة، في حين يجري تمزيق الحاضنة الأصليّة للعبيد، لتوفير جيوش احتياطيّة لآلة العمل الحديثة.

ويتساءل المرء في العصر الحالي عن الحداثة مندهشاً، لماذا كلّما تقدّمت الحداثة في الزمن ازدادت الحريّة للفرد (القويّ صاحب السلطة طبعاً) وتقلّصت لفردٍ آخر، وأُتيحت لشعب وحُرمت منها شعوب أخرى؟ لماذا يزداد الشمال ارتقاءً، ويزداد الجنوب انحطاطاً والحداثة واحدة؟

أسهَم في ذلك ثلاثة: العقل الفرنسي، والأخلاق الإنكليزيّة والحريّة الأميركيّة. العقل رأى أنّ استخدام البشر بهذه الطريقة سبيلٌ وحيد للتقدّم، والأخلاق حضَّت على الطاعة لضمان السِّلم الاجتماعي، والحريّة لتأمين الظروف المناسبة للأقوياء حتّى يُنجزوا "التقدّم" في دول الشمال، فإذا هُم اليوم لا يعرفون كيف يُعالجون مشكلات الجنوب التي تهدّدهم، حتّى بصورة مباشرة، فراحوا يفرّخون الثورات الداخليّة والانقلابات والصراع الدامي، عسى أن يجدوا متنفّساً ولو إلى حين، ريثما يتفتّق "العقل الحديث" عن حلّ مريح.

 من الإيمان إلى العقل

لا نشكّ في أنّ الحداثة الجارية تسير وفق القانون الذي يُعيده ويكرّره مفكّرونا الكِبار، وهو "الانتقال من الخيال إلى الواقع، من الإيمان إلى العقل، من الأسطورة إلى العِلم، من الوهم إلى الوعي". لكنّ المُسيطرين على العمليّة الاجتماعيّة، بكلّ أبعادها، لم يوجِّهوا هذا القانون لصالح البشريّة، بل وُجِّهت العمليّة كلّها من أجل "تطوير" العالَم وفقاً لاحتياجات الرؤوس الكبيرة. وكلّ هذا العِلم الذي نتباهى به- مع أنّنا لولا علوم القدماء، لما وصلنا إلى هذه التي ندعوها مَفخرتنا- ليس أكثر من أداة بأيدي العمالقة الذين هاجموا جبل أوليمبيا، وسحقوا آلهة العدالة والسِّلم والحريّة في الأرض. في تلك الأيّام الكلاسيكيّة لم ينجحوا.

وبهذا الاقتدار تحوَّل العُلماء إلى عبيد "أحرار" في خدمة الأسياد الكبار، وفي الوقت ذاته راحوا يتلون مراثي أرميا عن الدمار الذي تنتظره البشريّة، إنْ استمرّ هذا المَسار. كم أرسلوا مراثيهم مراراً إلى مؤتمرات قمّة الأرض حيثما عُقدت في مُدن القارّات الخمس، وانتهى آخرها كما انتهى أوّلها، فاختُتمت كما دُشِّنت.

أجراس بلا رنين

قالت لنا الحداثة إنّ التكوين (نشأة الكون) يبدأ من الشمس، فهي مَركز الكون وليس الأرض، فصدّقنا كلّ التصديق.

وقالت لنا إنّ الخلق (الحياة) ينشأ نشوءاً ولا يخلق خلقاً، ويخضع لقانون من داخله، من ولادة ونموّ وموت وتناسُل، وتوليد سلالات جديدة، فآمنّا كلّ الإيمان، وقالت إنّ الإنسان ليس على صورة الله ومثاله، بل على أسوأ صورة من الجشع والطمع والشراسة، فوافقنا كلّ الموافقة ...

   

الحداثة الجارية تسير وفق القانون الذي يُعيده ويكرّره مفكّرونا الكِبار، وهو "الانتقال من الخيال إلى الواقع، من الإيمان إلى العقل، من الأسطورة إلى العِلم، من الوهم إلى الوعي"

ولكنْ ماذا نستفيد من كلّ هذه المقولات التي سلَّمنا بصحّتها وسفَّهنا كلّ العقائد القديمة المقدَّسة التي كانت تؤمن بعكس ذلك؟ هل مَن كان يحرث الأرض مُعتقِداً أنّها مركز الكون دفعه خطأ تصوّره إلى البؤس، ومَن يحرث اليوم بالجرّارات الحديثة، مؤمِناً أنّ الكون له صورة مغايرة، دفعه صواب تصوّره إلى السعادة؟ وهل الذين كانوا يتعاملون بالسلع أتعس من الذين يتعاملون اليوم بأوراق البورصة؟ ما قيمة الحداثة إنْ لم تجلب الراحة والطمأنينة والأمان، وتُحرِّر العمل من الاستلاب والعبوديّة؟

بنتوس شفيع الحزانى

كان الربّ بنتوس يلهو عندما اجتمع الأرباب في الأوليمب لتوزيع الوظائف، فحضرَ متأخّراً وطالَب بوظيفة، ولمّا لم يبقَ من الوظائف مهمّة تُسنَد إليه، اقترحَ كبير الأوليمب زيوس أن تسند إليه وظيفة شفيع الحزانى، فيُساعدهم على البكاء، حتّى لا يقتل الحزنُ البشرَ، فكان بنتوس يأتي إلى الحزين ويثير مَشاعره إلى أن يذرف الدمع فيستريح.

اليوم فضحت الحداثة سرَّ هذا الربّ الصغير، فالجهاز العصبي هو ما يلتقط الحزن، ثمّ يجمع الدماغ الصور الحزينة السابقة فيذرف الحزين الدمع ويستريح. وبدلاً من أن تساعدنا هذه المعرفة "الحديثة" في التغلُّب على الحزن جاءتنا بالمزيد من الدماء والآلام والأحزان حتّى صرنا ننفجر من غير بكاء، لأنّ بنتوس، شفيع الحزانى ومخفِّف الآلام، دُفن مع بقيّة الأرباب في مراقد العقل الباردة. إنّ الحداثة قدَّمت لنا الموت انفجاراً، بدلاً من دمع بنتوس المعزّي.

 

  • باحث وناقد من سوريا






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي