مكتبة الإسكندرية تستعيد شخصية "المصري أفندي"

2019-10-11

محمد الحمامصي - الأسكندرية - احتفلت مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع الجمعية المصرية للكاريكاتير وجمعية القاهرة الخيرية الأرمينية العامة، بمرور 120 عاما على ميلاد الفنان الأرمني ألكسندر صاروخان (1878ـ1977)، حيث أقامت ندوة شارك فيها سامح فوزي رئيس قطاع الإعلام والاتصال، والرسام جمعة فرحات رئيس الجمعية المصرية للكاريكاتير، وسيلفيا نارديان حفيدة الفنان صاروخان، وعبدالله الصاوي الباحث في تاريخ وذاكرة الكاريكاتير.

وأكد سامح فوزي أن هذه الاحتفالية تأتي تقديرا لقيمة صاروخان الفنية، ودوره في ازدهار فن الكاريكاتير في مصر، مشيرا إلى أهمية توثيق أعمال صاروخان باعتباره أحد أهم صناع الكاريكاتير، كما أن أعماله تعتبر جزءا من ذاكرة المجتمع المصري وشاهدة على اللحظات السياسية الفارقة في تاريخ مصر.

واعتبر جمعة فرحات صاروخان مؤسّس الكاريكاتير المصري، حيث إن كل المحاولات التي سبقته كانت رسما عاديا وليست كاريكاتيرا. وأشار إلى أنه كان صاحب ريشة عظيمة، واتسمت رسوماته بالحيوية وكأنها تتحرك. وقد تتلمذ على يده عدد كبير من الفنانين، كما أن زملاءه تأثروا بفنه تأثرا كبيرا، لافتا إلى أنه استطاع أن يغيّر قواعد الرسم، وبعث روحا جديدة للإبداع من خلال فنه.

فيما أعربت سيلفيا نارديان عن سعادتها بإقامة هذا الحدث الذي يحتفي بصاروخان وإبداعاته. مؤكدة أن عام 2019 هو عام صاروخان، فقد شهد نشر مذكراته باللغة الأرمنية، إلى جانب إقامة معرض عن حياته وأعماله.

وقالت إن وجود صاروخان في مصر كان له دور كبير في نجاحه وتحقيق طموحاته، فبالرغم من أنه أتى إلى مصر وعمره 26 عاما، تحديدا عام 1924، ولم يعرف اللغة، إلا أنه انصهر في المجتمع بسرعة، كما أن المجتمع المصري ساعده على الاندماج لما يتسم به من كرم وتسامح وانفتاح على الآخر.

صاروخان يتوسط التوأم مصطفى وعلي أمين خلال عملهم بمجلة

وعرض عبدالله الصاوي مجموعة كبيرة من الصور النادرة عن حياة صاروخان وأعماله، وأعرب عن سعادته لعرض هذه الصور لأول مرة بمكتبة الإسكندرية، لافتا إلى أنها تأتي في إطار مشروع لتوثيق الكاريكاتير المصري.

وتضمنت الصور عددا كبيرا من أعمال صاروخان الشاهدة على تاريخه ومسيرته في مصر، ومنها أول رسم كاريكاتير لصاروخان عام 1924 وتناول أزمة الدقيق والعيش في مصر، وأول ظهور لشخصية المصري أفندي في “روز اليوسف”، وأول غلاف لمجلة “آخر ساعة”، إلى جانب عدد من الكتب والمجلات التي أصدرها صاروخان ومنها كتاب “هذه الحرب” ومجلة “لا كارافان” ومجلة “السينما الأرمينية”.

وأكد الصاوي أن صاروخان استطاع أن يعبر عن المشهد السياسي المصري والروح الوطنية من خلال الكاريكاتير، فقدّم أعمالا كثيرة عن ثورة يوليو وحرب أكتوبر، وبورتريهات لقادة وزعماء مصريين كسعد زغلول ومحمد نجيب وجمال عبدالناصر وغيرهم.

عبقرية تتشكل

شهدت احتفالية مكتبة الإسكندرية، بمرور 120 عاما على ميلاد صاروخان، إقامة معرض فني تضمن عددا من الأعمال التي شاركت بالمسابقة الدولية “صاروخان يعود من جديد”، والتي شارك فيها 180 فنانا.

وفي إطار الاحتفالية قدّم الباحث في العلوم السياسية ممدوح مبروك كتيّبا تتبّع فيه مسيرة حياة صاروخان، انطلاقا من ولادته ونشأته وتجليات ظهور موهبته في الرسم لأول مرة، انتهاء بوصوله مصر وبداية مشاركاته الكاريكاتيرية في الصحف المصرية.

ويقول مبروك “ولد ألكسندر هاكوب صاروخانيان في أول أكتوبر من العام 1878 ببلدة أرادانوج الواقعة أقصى شمال شرق تركيا التي كانت تقع ضمن مقاطعة باطوم؛ إحدى المناطق الإدارية في إقليم ما وراء القوقاز التابع للإمبراطورية الروسية. كان صاروخان الابن الثالث لأب كان يعمل تاجرا للأقمشة، في العام 1900، قرّر الأب الانتقال إلى عاصمة المقاطعة باطوم حتى يتسنى له العمل في تجارة النفط، بعد أن أصبحت باطوم ميناء رئيسيا على البحر الأسود. وفي باطوم ولد ابن ثان للأسرة هو ليفون. قام ألكسندر وأخوه ليفون بمحاولتهما الأولى في الرسم وهما طفلان صغيران، حيث كان يشجعهما الوالد الذي لم يكن يجيد الرسم هو نفسه”.

ويسترسل “وحين جاء الوقت المناسب ألحق ابنه ألكسندر بالمدرسة الروسية في المدينة، وكان يوجد بهيئة تدريسها مدرس روسي للرسم، وكان هذا المدرس أول المشجعين الحقيقيين لألكسندر. وفي العام 1900 انتقل الأب هاكوب بأسرته المكونة من زوجته وثلاث بنات وولدين إلى إسطنبول لتأسيس تجارة في النفط القوقازي. ومع بداية العام الدراسي 1909ـ1910 التحق الأخوان ألكسندر وليفون بمدرسة الآباء المخيطاريين، وفي هذه الفترة قاما بتأسيس صحيفة أسبوعية منزلية مكتوبة بخط اليد، وكان ليفون هو الذي يقوم بجمع المقالات وتأليفها ثم تحريرها وكتابة النصوص يدويا، في حين كان ألكسندر يقوم برسم الصور الكاريكاتورية”.

ويضيف مبروك أن في العام 1912 عاد الأب إلى باطوم تاركا صاروخان وأخاه ليتمّا تعليمهما بالقسم الداخلي في مدرسة الآباء المخيطاريين، ثم يعودا إلى باطوم ليلحقا بالأسرة. لكن الحرب العالمية الأولى حالت دون تحقيق ذلك؛ حيث إنها فجرت حربا مسعورة ضد الأرمن، فتم تهجير وتشريد 2.3 مليون منهم ممن يقطنون تركيا، بالإضافة إلى نقل 1.5 مليون آخرين، لذا لم يجد صاروخان وأخوه مفرا إلا أن يحبسا نفسيهما داخل مدرسة الآباء المخيطاريين مع عدد قليل من التلاميذ والمدرسين، لأن المدرسة منحتهم قدرا من الحماية.

وعندما انتهت الحرب قام صاروخان بتحويل اسم العائلة من صاروخانيان إلى صاروخان، وعمل مترجما للغات الروسية والتركية، والإنكليزية بالجيش البريطاني ثم موظفا لإحدى الشركات لمدة قصيرة، وأخيرا استطاع نشر رسومه الكاريكاتيرية في بعض الجرائد والمجلات الأرمنية، وأهمها صحيفة “جافروش”.

الانتقال إلى مصر

يحكي ممدوح مبروك قصة انتقال صاروخان إلى مصر بعد دراسته للفنون بمعهد الفنون الجرافيكية بفيينا. ويوضح “تعرف صاروخان في فيينا على عبدالقادر الشناوي الذي قصدها لدراسة فنون الطباعة؛ حيث كان ينوي إنشاء مطبعة في مصر وإصدار صحيفة أو مجلة أهلية، وكان يبحث في تلك الفترة عن فنان كاريكاتوري جيد يأخذه معه إلى مصر ليرسم في صحيفته أو مجلته، وقد أعجب الشناوي كثيرا بصاروخان وقرّر إحضاره إلى مصر.

وعندما عاد عبدالقادر الشناوي إلى مصر أرسل إلى صاروخان تذكرة سفر، ووصل بالفعل إلى الإسكندرية في أغسطس 1924 ولم يجد أحدا بانتظاره، وبعد سلسلة من المفارقات وجد صاروخان نفسه في بلد غريب، لكن الشناوي عاونه حتى اقتنص صاروخان فرصة عمل كمدرس رسم بمدرسة كالوسيديان ببولاق مع بداية العام الدراسي 1924، وبعد هذا التاريخ خرج عبدالقادر الشناوي من حياة صاروخان.

في العام 1932 أبدع صاروخان شخصية

ويشير مبروك إلى أن القاهرة كانت في تلك الفترة تضج بالعديد من الأرمن الذين شكلوا جالية ضخمة فرضت نفسها على الساحة الاقتصادية والاجتماعية، فتعرف صاروخان على عدد كبير منهم مثل محرري الصحف والمجلات والتجار وبعض الحرفيين، لكن أهمهم هو الزنكوغرافي أرام بربريان، الذي كان يقوم بإعداد كليشيهات أغلب الصحف والمجلات الصادرة بالقاهرة بجميع اللغات.

وكانت ورشة بربريان بمثابة ملتقى غير رسمي للصحافيين وأصحاب الصحف ودور النشر، ومن الورشة التي كانت تعقد في عابدين عرف الناس صاروخان رساما كاريكاتيريا متميزا، زينت إبداعاته العدد الأول من مجلة “السينما الأرمنية” الذي صدر في 24 يناير من العام 1924، ولم يضيع وقته، وظل يرسم يوميا حتى تمكن من تنظيم معرضيْن لرسومه الكاريكاتورية في القاهرة والإسكندرية، ولاقى خلالها نجاحا ملحوظا.

وفي نوفمبر 1927 كان اللقاء الأول بين صاروخان ومحمد التابعي في ورشة بربريان، ففي تلك الفترة كان محمد التابعي؛ رئيس تحرير مجلة “روز اليوسف” طامعا في دفع المجلة إلى الاهتمام أكثر بالسياسة، وكان في حاجة إلى رسام كاريكاتير موهوب يستجيب لموقف المجلة السياسي المناصر لحزب الوفد آنذاك، خاصة أن رسام المجلة الأصلي، وهو الإسباني سانتس، كان يرسم النكت على غلافها الأمامي، لكن سانتس كان رساما أساسيا لمجلة “الكشكول” ذات التوجهات السياسية المضادة تماما لتوجهات “روز اليوسف”.

أما صاروخان فكان يرغب في نشر رسومه في مجلة واسعة الانتشار مثل “روز اليوسف”، فأخذ يرسم وجوه الزعماء السياسيين بمساعدة التابعي وتشجيعه.وبالفعل رسم صاروخان أول غلاف للكاريكاتور السياسي على غلاف العدد 118 من “روز اليوسف” الصادر في 22 مايو 1928، كما ظهر أول كاريكاتور سياسي له منفذ بالحبر الأسود على الصفحة السابعة من العدد 1932.

شخصية نمطية

يلفت ممدوح مبروك إلى أن صاروخان منذ العام 1932 استطاع أن يكون من أوائل الرسامين الذين قدموا شخصية كاريكاتيرية نمطية في مصر تعبّر عن العقل والمزاج العام للشعب المصري، وهي شخصية “المصري أفندي”. ولم يكن صاروخان يعرف شيئا عن الشخصيات المصرية. ولم يكن يعرف اللغة العربية، فاقتبس شخصية المصري أفندي من صورة للرسام الإنكليزي ستروب في “الديلي إكسبريس”.

وكانت الصورة لرجل قصير يضع على رأسه القبعة، ويمسك في يده مظلة، وقام التابعي والسيدة روز اليوسف بتحوير هذه الصورة، فاستُعمل الطربوش بدلا من القبعة، واستُعملت المسبحة بدلا من المظلة. وعبرت شخصية المصري أفندي في كاريكاتور صاروخان عن طبقة الموظفين في مصر. كما لعبت دورا هائلا في السياسة المصرية في ذلك الوقت، وخاصة في المعارك مع الزعماء ورجال السياسة.

وفي العام 1934 احتد الخلاف بين محمد التابعي و“روز اليوسف”، فخرج التابعي من المجلة ومعه صاروخان لتأسيس مجلة “آخر ساعة”، وكان هو رسامها الأول، حيث زين المجلة برسومه الجميلة من أول عدد صدر في 15 يوليو 1934. وفي العام 1946 تنازل محمد التابعي عن مجلة “آخر ساعة” للأخوين علي ومصطفى أمين، اللذين ألحقاها بصحيفة “أخبار اليوم”، ليؤسسا مؤسسة صحفية كبرى هي “دار أخبار اليوم”.

انتقل صاروخان مع التابعي إلى “أخبار اليوم”، فظهرت أول صورة له على الصفحة الثالثة لهذه الصحيفة في عدد السبت 27 أبريل 1946. وتمثل هذه الصورة موكب محرّري كل من “آخر ساعة” و”أخبار اليوم”، وقد اتحدوا في ركب واحد. وهكذا انضم صاروخان إلى زميله الرسام محمد عبدالمنعم رخا، الذي كان يرسم على صفحات أخبار اليوم منذ بداية تأسيسها.

وظل صاروخان يرسم في دار “أخبار اليوم” حتى وفاته في أول يناير عام 1977، تاركا حوالي عشرين ألف صورة كاريكاتورية، وعددا من الكتب منها “العام السياسي 1938” وصدر بالقاهرة عام 1939، وكتاب “هذه الحرب” الذي صدر في العام 1945، وهو كتاب يتناول الحرب العالمية الثانية عبر الكاريكاتير.

ومن أبرز السمات الفنية التي تمتعت بها ريشة صاروخان تقديمه لشخصيتين هما؛ “مخضوض باشا الفزعنجي” و”إشاعة هانم”، وذلك إبان الحرب العالمية الثانية. وقد اختفت هاتان الشخصيتان بعد الحرب، علاوة على الشخصية الثابتة التي قدمها في العام 1929، “المصري أفندي” وهي من ابتكار محمد التابعي.

أعمال صاروخان تعتبر جزءا من ذاكرة المجتمع المصري وشاهدة على اللحظات السياسية الفارقة في تاريخ مصر

كما استخدم المباشرة والتقرير بسبب عدم احتياجه إلى وسائل إقناع ملتوية يمرّر بها أفكاره، حيث أنه مجرد منفّذ لأفكار قياداته الصحافية، ومال إلى استخدام الحوارات الطويلة متأثرا في ذلك ببداياته الأولى التي قضاها في “روز اليوسف”.

ولم يمل أيضا إلى استخدام العناصر التيبوغرافية الثقيلة في رسومه، وإنما استخدم خطوطا عصبية بالريشة لم تتغير منذ بداياته الفنية الأولى. كما مال إلى ملـء مساحة الرسم دون عناية بالفراغ فيه.

وأظهر ألكسندر صاروخان قدرة كبيرة في رسم البورتريه، وقد برع منذ بداياته الفنية في رسم البورتريه السياسي، ويتضح ذلك في رسمه لوجهي إسماعيل صدقي ومحمد محمود وغيرهما.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي