
 نشرت صحيفة واشنطن بوست تقريرًا تحليليًا مطوّلًا تناول ما وصفته بتراجع القوة الإعلامية الأمريكية في مواجهة خصومها، محذّرة من أن واشنطن باتت تخسر معركة كسب القلوب والعقول أمام الصين وروسيا وإيران، في وقتٍ تعمل فيه على تفكيك أهم أدواتها الإعلامية العالمية.
نشرت صحيفة واشنطن بوست تقريرًا تحليليًا مطوّلًا تناول ما وصفته بتراجع القوة الإعلامية الأمريكية في مواجهة خصومها، محذّرة من أن واشنطن باتت تخسر معركة كسب القلوب والعقول أمام الصين وروسيا وإيران، في وقتٍ تعمل فيه على تفكيك أهم أدواتها الإعلامية العالمية.
كشفت حرب غزة مجددًا أن المعلومة سلاحٌ لا يقل فتكًا عن القوة العسكرية. فالقدرة على تشكيل التصورات والرأي العام وتوجيه النقاشات الوطنية والدولية باتت عنصرًا حاسمًا في حروب هذا العصر. وقد أثبتت حركة حماس — رغم خسائرها العسكرية الفادحة — قدرتها على التحكم بخطاب الصراع وتوجيهه لصالحها في الفضاءين العربي والدولي، مستفيدة من فراغٍ إعلامي تركته واشنطن نفسها.
ومع ذلك، تضيف الصحيفة، فإن المدهش هو أن الولايات المتحدة اختارت الانسحاب من ميدان المعركة المعلوماتية بدل تعزيز موقعها فيه. فمنذ ربيع هذا العام، بدأت إدارة دونالد ترامب في تفكيك وكالة الإعلام الأمريكية (USAGM)، وهي الهيئة الفيدرالية المسؤولة عن البث الإعلامي الخارجي للولايات المتحدة. وبموجب الخطط الجديدة، ستُغلق الوكالة أو يُعاد تشكيلها بشكل مصغّر، لتتراجع أدوار مؤسساتها التاريخية — مثل «صوت أمريكا» و«راديو آسيا الحرة» — إلى هوامش المشهد الإعلامي العالمي.
صحيح أن الوكالة واجهت انتقادات تتعلق بسوء الإدارة وضعف الكفاءة، إلا أن تفكيكها بدل إصلاحها جاء في توقيت حرج، بينما تتسع آلة الدعاية لدى خصوم واشنطن وتزداد فاعليتها في صياغة الروايات وتشكيل الوعي العالمي.
الصين: دعاية بمليارات الدولارات
تشير الأرقام إلى اتساع الفجوة الهائلة بين واشنطن وبكين في مجال “القوة الناعمة”. فالصين تنفق سنويًا مليارات الدولارات على حملات إعلامية ودعائية تتضمن روايات مضلّلة وأخبارًا زائفة.
وبحسب تقديرات مؤسسة راند (RAND) عام 2021، يبلغ الإنفاق الرسمي نحو 10 مليارات دولار سنويًا، غير أن مسؤولين أمريكيين يؤكدون أن الرقم الحقيقي قد يصل إلى 30 مليار دولار.
تستثمر بكين هذه الأموال في شراء وسائل إعلام إفريقية لتوجيه السرديات بما يخدم صورة الحزب الشيوعي الصيني، كما توسّع من حملات التضليل ضد تايوان وتزيد حضورها الإعلامي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
روسيا: البروباغندا في زمن الحرب
أما روسيا، رغم الحرب المكلفة في أوكرانيا وتراجع اقتصادها، فرفعت ميزانيتها الدعائية بين عامي 2024 و2025 بنسبة 13٪ لتصل إلى نحو 1.4 مليار دولار، وفقًا للأرقام الرسمية. لكن هذه “الميزانية البيضاء” لا تمثل سوى جزء من الإنفاق الحقيقي، إذ تشير مصادر أوروبية إلى أن موسكو تخصص أكثر من مليار دولار إضافي سنويًا عبر صناديق سرّية لا تخضع للرقابة.
تستخدم موسكو هذه الموارد في تقويض الاستقرار الاجتماعي داخل أوروبا، وتقديم نفسها كشريك بديل في الشرق الأوسط وإفريقيا، وتعزيز نفوذها الإعلامي في أمريكا اللاتينية.
إيران: موارد محدودة ونفوذ متزايد
ورغم أزمتها الاقتصادية الخانقة، زادت إيران إنفاقها الإعلامي إلى نحو 400 مليون دولار — بارتفاع يزيد على 30٪ عن العام الماضي — في وقت تواجه فيه انهيارًا للعملة وأزمة جفاف غير مسبوقة دفعت بعض المسؤولين إلى اقتراح نقل العاصمة من طهران.
وتوضح الصحيفة أن الولايات المتحدة كانت متأخرة أصلًا عن منافسيها في سباق النفوذ الإعلامي حتى قبل قرارها الأخير بتقويض مؤسساتها الإعلامية الدولية.
فراغ إعلامي أمريكي يتسع
بينما تواصل الصين وروسيا وإيران توسيع أنشطتها الإعلامية في مناطق كانت تاريخيًا تحت النفوذ الأمريكي — مثل أمريكا اللاتينية وإفريقيا والشرق الأوسط — انسحبت واشنطن، تاركةً فراغًا إعلاميًا يتّسع بسرعة.
في الأشهر الستة الماضية وحدها:
وسّعت قناة «آر تي» الروسية بثها بالإسبانية ليشمل تشيلي.
أطلقت منصة «سبوتنيك» بثًا إذاعيًا بالبرتغالية في ريو دي جانيرو.
وقّعت «آر تي» اتفاقية مع اتحاد البث الإفريقي لتعزيز حضورها في القارة.
في المقابل، أبرمت الصين مذكرات تفاهم لتبادل المحتوى الإعلامي مع تركيا وبيلاروسيا وعدد من الدول الأخرى، بينما عقدت إيران اتفاقيات تعاون مع وسائل إعلام روسية مثل «رابتلي» و«مير تي في» لتبادل المحتوى والدعاية المتبادلة.
واشنطن: تفكيك الذات بدل المواجهة
تخلص الصحيفة إلى أن إدارة ترامب لم تُبدِ أي إدراك لخطورة الموقف، ولم تطرح حتى الآن أي استراتيجية مضادة. فبعد تسعة أشهر من توليها السلطة، لا يزال اهتمام البيت الأبيض منصبًا على تفكيك وكالة الإعلام الأمريكية بدل تطويرها، دون وجود خطة بديلة لتعزيز الحضور الأمريكي في ساحة الإعلام الدولي.
ولا توجد مؤشرات على أن أي مسؤول في الإدارة فكر جديًا في كيفية سرد قصة أمريكا للعالم، أو شرح سياساتها ومصالحها بصدق وفاعلية، أو مجابهة الدعاية التي يشنها خصومها.
وتختتم الصحيفة بالتحذير من أن الولايات المتحدة إن لم تتحرك سريعًا، فستواصل خسارة معركة كسب القلوب والعقول — تلك المعركة التي لا تُحسم بالدبابات أو الصواريخ، بل بالكلمات والأفكار والروايات التي تُقنع العقول قبل أن تُؤثر في المواقف.