
صالح الرزوق*
كنا في مدرسة المشاة كل أربعة في غرفة، إلا غرفتنا ثلاثة، أنا والدكتور فانوس، وشخص ثالث له وجه معزاة، حتى الآن لا أعرف اسمه، وكان يعطس كلما لمسته الشمس.
سألت الدكتور عن هذه الحالة. قال وهو يضحك: لا بد أنها ضربة شمس.
طبعا لم يكن جادا، لكن من يقابل فانوس يعلم فورا أنه إنسان لا يعرف غير الهزل، يضحك باستمرار، متفائل في أحلك الظروف، وحتى المأساة ينظر لها نظرة مشرقة.
كان يقول لي: المآسي ملح الحياة.
أو يقول: هي محطة لا بد من المرور بها.
ولم أستغرب هذه الفلسفة. حصل فانوس على الشهادة من دولة شرقية، ولا أقصد بولونيا أو بلغاريا، إنما باكستان أو كازاخستان، من الشرق الشرقي فعلا. وأنا عموما لا أجد فرقا بين هذه الدول، فأسماؤها ترن في رأسي مثل طنين الناقوس.
العجيب أن مدير المدرسة لم يعينه في المستوصف، وأوكل المهمة لطبيب أسنان كأنه يعتقد أن الفم والمعدة هما أصل كل الأوجاع. وترك لفانوس مهمة الإشراف على صحة المطبخ. وفورا تحولت غرفتنا لكوميديا إلهية. كان فانوس يجد في عمله منجما للطرائف. مثلا اليوم طنجرة النحاس مرضت، أو أن صينية الألومنيوم غشي عليها وسقطت على الأرض. فينظر له وجه المعزاة ويقول: ماتت؟
يرد بصوت بارد: أصابها تسرع في دقات القلب فقط.
ثم يشترك كلاهما بضحكة بائسة، «ضحك كالبكا» على حد قول المتنبي. من جهتي كنت أكتفي بابتسامة طفيفة.
الآن أشعر بالندم لأنني لم أستفسر من وجه المعزاة عن خلفياته، ماذا كان يدرس، وأين، وما هو أصله، أقصد من أي منطقة. فقد غادر بإجازة، واستقل الميكرو باص، وسيلة الانتقال الوحيدة لدينا، وعلى مشارف مارع تعرض لحادث سير ومات. حين وردنا الخبر زحفت على وجه فانوس غمامة رمادية ثم قال: حظه.
وأردف وهو يضحك: لكنه استراح.
استغربت من هذه التعليقات المجانية. لم تكن تدل على أخلاق طبيب. ثم إن الشرق يحترم الموتى أكثر من الأحياء. في اليوم التالي أمر مدير المدرسة بحبس فانوس ثلاثة أيام مع طلب الزيادة، وهو تعبير عسكري معناه أنه يحق للجهة الأعلى تشديد العقوبة. ذهبت لزيارته في السجن. كان عبارة عن صالة باردة أو مستودع خردة له باب حديد أسود مصفح، وفي داخله فرشة إسفنج مسجاة على الأرض، وبجوارها دلو من معادن رخيصة. لم يسمح لي العريف بالدخول، فنقرت على باب الحديد وناديت: فانوس.
رد من الداخل: نعم. ماذا تريد؟
قلت له: كيف الحال؟
قال: جنة.
وأغرق بالضحك.
بعد نهاية العقوبة لم يحضر إلى المهجع، فتحاملت على نفسي وذهبت إلى المطبخ. كانت ستائر من دخان الطهي تتدلى في كل مكان، والمطبخ أشبه بحمام ساونا. التشبيه ظالم، غير أنني لا أريد أن أعترف بأنه دليل على شيء يحترق في داخلنا. كنت أود أن أترك مجالا ولو أنه ضئيل للتفاؤل. ورأيت فانوس على سرير حديد في زاوية المطبخ. كان وحده مع النار تحت القدور وضباب الأدخنة الحارة.
سألته: لماذا لا نراك معنا في المهجع؟
انتبه لقدومي، ورد وهو يعدل من جلسته: من فضلك اصمت ولا تقطع حبل تفكيري.
ورسم ابتسامة على وجهه، فارتحت قليلا، كان هذا هو فانوس.
سألته: وبماذا تفكر؟
نظر لي نظرة جامدة وهو يقول: بالانتحار.
وأتبعها بالضحك. بعد ذلك شربنا الشاي، وحرص أن لا يضيف له الكافور، وهو مادة مهدئة تخفف من نشاط الذكور. وكان فانوس ملزما بإضافته، واشتكى لمدير المدرسة، أنه يتسبب بكسل في كل الوظائف، ومنها عضلة القلب. وطلب منه المدير تسجيل شكوى في ديوان الضابطة، ولكن لم يبت أحد لحينه بالموضوع. كانت حياتنا كلها مؤجلة. أهدافنا معلقة فوق رؤوسنا وحسمها ليس بأيدينا.
في الليلة نفسها رن الجرس لنجتمع في الساحة. هرولت مع فانوس، هو يزرر جاكيت البذة، وأنا أجر قدما على الأرض، وأخرى مرفوعة بالهواء لأعقد رباط البوط. كانت القيافة في الجيش تدل على الانضباط. وقفنا برتل ثنائي. ثم ظهر العميد ببيجامة رياضة وخف أبيض.
صاح قائد الفوج: استا…عد
خبطنا الأرض بأقدامنا.
مسحنا العميد بعينين براقتين وهمس: استرح.
ضربنا الأرض مجددا، وشبكنا أيدينا خلف ظهورنا. وحينها نفخ العريف بالبوق، وأعطانا مهلة ساعة لتهيئة أسلحتنا للتفتيش. انصرفت إلى الغرفة، كان بحوزتي روسية أخمص خشبي. وذهب فانوس إلى مطبخه، وهناك كان يحتفظ بمكاروف له قبضة قرميدية، وروسية أخمص طي، وكنت دائما أنهك رأسي بالتفكير: لماذا دكتور مطبخ مزود بأسلحة أحدث من ضابط ميدان. لكن كل هذا لم يعد له أهمية. يومها أصاب فانوس رأسه بطلقة من البارودة. وبقي سؤال يلح على رأسي: هل فعلها فانوس أم أنه سوء حظ.
من يعرف فانوس لا يستطيع أن يلاحظ الخط العازل بين الجد والهزل في حياته.
*كاتب سوري