حلم

2025-08-22

اللوحة للفنانة التشكيلية الأردنية هيلدا الحياريهيڤا نبي


بدا البيت كأنه بئرٌ مقلوبة، بالكاد تتماسك جدرانه، أشبهُ بحفرةٍ، تُدفع إليها دفعًا أو تُرفَس منها إلى الخارج. دفعتني أمي أمامها، ومن خلفنا كان بائعُ العقاراتِ يمشي بضيقٍ واضح، يسحب نفسه بتململ، كأنه اقتنع اليوم فقط بتفاهة عمله في السمسرة.

قال بلهجةٍ حادّةٍ تُغلقُ أيَّ بابٍ للتفاوض:

- بالسعرِ الذي اتفقنا عليه، لا شيء يستحقُّ المزيد من التفكير. نعم أم لا؟

قلت: "نعم"، بدلًا عن أمي. التفتت إليّ بدهشة؛ فهي لم تعتد أن أنطق بكلمةٍ بدون أن أُجبر، كنت أُوصَفُ بالخرساء. لكن بعد أن بلعت دهشتها، سألتني بفضول:
- أأعجبك؟

- جدًّا.

- أيُّ شيءٍ فيه على وجهِ التحديد؟

- تلك الصورةُ على الحائط.

نظرت أمي إلى اللوحة وابتسمت. إنها بحاجة إلى أيِّ شيءٍ يُشجّعها على قبول استئجار غرفةٍ كهذه.


كانت الصورة لرجلٍ نائمٍ في وضعيةِ الجلوس، معلّقة ضمن إطارٍ قديمٍ ومثبّتة بمسمارٍ صدئ. على وجهِ الرجلِ سلامٌ مربكٌ ومطمئنٌ في آنٍ معًا، لم أعتد رؤيةَ مثلِ هذا السلام في أيّ من الوجوه التي طالعتها طوالَ حياتي القصيرة. لا ارتجافةَ جفن، ولا توتّرَ عضلة، بدا نائمًا حتى آخرِ عظمةٍ في جسده، نائمًا مثل غريق، صافي البال، ليس في رأسه أحلام. نعم، هذا ما كنت متأكدةً منه: لم يكن في رأسه أحلام.

أعرفُ كيف يبدو وجهُ الحالم؛ لطالما تأملتُ وجهَ أمي وهي نائمة. تتحرّك جبهتُها قليلًا، وتتعمّقُ الخطوطُ فيها كلما تعاركَ اثنانِ في حُلمِها، ويهتزُّ الخطّانِ العموديانِ في منتصفِ حاجبَيْها كلما أزعجها شيء في ذلك العالم الآخر. فمُها يتموّجُ كأنَّه يُنادي أحدًا، أو يَنْهَره، أو يبكي، أو يضحك. تبدو كمن يقوم بأيّ فعلٍ لأنه يعجز عن الكلام. وإن حصل أن أفلتت من فمِها كلمةٌ، فإنها تستيقظ. أسألها عن وجهِها الحالم، فتردُّ بفتور: "حكاياتُ الليلِ لا تُحتسب".

أغلق السمسار البابَ علينا، وبينما راحت أمي تتفحّصُ الغرفةَ وتلومُ حظّها العاثر، وقفتُ أتأملُ الرجلَ في الصورة. جسدُه نحيلٌ وقويّ، يبدو في مطلقِ الشباب، وهو جالسٌ متصالبُ الساقين. جلدُه نضر وملون كأنّه مُغطّى بطبقةٍ من الرماد، وجهُه بيضاوي، ملامحُه هادئة، جبهتُه عريضة، عيناه هلاليتانِ نصفُ مغمضتين رغم أنه نائم، أنفُه مستقيم، شفتاهُ مسترخيتان من دون ابتسامةٍ أو عبوس. شعرُه كثيف، مجدولٌ في خصلاتٍ طويلةٍ تلتفُّ إلى الأعلى على شكل شالٍ يعلو رأسَه ثم يهبط، ومن بين خصلاته تتدفقُ خيوطٌ صغيرةٌ من الشعر الرمادي، تبدو في تدفُّقها أقربَ لأفرعٍ نهريةٍ منها للشعر. صدرُه عارٍ، وكتفاه عريضتان، قلادةٌ من خرزٍ أزرقَ تُزيِّن عنقه، ومن فوق كتفه يتدلّى ثعبان، يلتفُّ بإحكامٍ من دون استعراض. أمّا يدُه اليمنى، فمرفوعةٌ في إيماءةِ الحماية.

لم يكن يُشبه أحدًا ممن أعرفُهم، ومع ذلك شعرتُ بقربٍ عميقٍ منه.

كان البيتُ غرفةً واحدةً في قبو، له نافذةٌ أخفضُ من السقفِ بشبر، يمكن من خلالها رؤيةُ أقدامِ المارّة، لا وجوههم ولا أجسادهم. إنها أصغرَ نافذةٍ أراها في حياتي، مجردَ شقٍّ في الجدار، لا أكثر. سأتمكّن من عدِّ أقدام العابرين في شارعَنا، على الأقل. أحبُّ النوافذَ الكبيرة، وأحلمُ بنافذةٍ تملأُ جدارًا كاملًا.

في الليلة الأولى، نمنا على سجادةٍ قديمة، التصقتُ بأمي مثل فرعٍ ينكسر فوق جذعه، ونخرتْ أنوفَنا رائحةُ العفنِ حتى الصباح. في الليلة التالية جلبنا بعضَ الأغراض: سجادةً نظيفة، سريرًا واحدًا، موقدًا صغيرًا، صحنَيْن، قدرًا، ولا ملاعق.

في الليلة الثالثة، تسلّلتُ إلى الصورة، إلى جانب الرجلِ النائم. لم أزعجْه أو أوقظْه، بل نمتُ بالقرب منه، وكان نومًا بلا أحلام. قبيلَ الفجر خرجتُ من الإطار، وعدتُ إلى سريرِ أمي.

عندما استيقظت أمي، علّقت بسعادة:

- لا بدَّ أنكِ نمتِ بعمقٍ هذه الليلة، لم أضطرَّ إلى إبعادِ ساقكِ عن وجهي كما البارحة.

ثم ضحكت، فضحكتُ، ونظرتُ إلى الرجلِ في اللوحة. كان كما هو، أمّا أنا، فلم أعُد كما كنت.

تكرّر الأمر ليالي كثيرة، أعودُ إلى الرجلِ كلَّ ليلة، أنامُ بالقرب منه، كلَّ مرةٍ على نحوٍ مختلف: مرةً أتكئ على كتفِه، مرةً أستلقي عند قدمَيْه، أحيانًا أتدلّى بشعره الطويلِ خلفَ ظهره أو على صدره، وأحيانًا أتكوّرُ على نفسي أمامه. لا يصحو، لا يحلم، ولا يكفُّ عن النوم.

ثم، ذاتَ ليلة، ظهرتْ في اللوحةِ امرأة، جاءت من الطرفِ الآخر، كانت رائعةَ الجمال، تتحرك كأفعى، سوداء، يغطي شعرُها الطويل جسدَها فتبدو في سوادٍ كامل. في البداية، أخافتني، لكن عندما اقتربتْ مني، رأيتُ فيها شيئًا أعمقَ من السلامِ المحايدِ الذي رأيتُه في الرجلِ النائم. كانت تحملُ ظلالًا.

أرَتني ما تفعل، لكني تجاهلتُها في أولِ ليلة. وضعتُ رأسي على فخذِ الرجل، ونمت.

في الصباحاتِ التالية، لم أستطعْ مغادرةَ اللوحة. أسرتني المرأةُ هناك. ومن داخل الاطار، رأيتُ كلَّ ما حدث في الغرفةِ الصغيرة، رأيتُ أمي تبحث عني وتنتحب، رأيتُ الشرطةَ وهي تُجري ضبطًا، ورأيتُ والدي الذي كان قد هجرنا. كلهم اجتمعوا في الغرفة، وبدأوا البحثَ عني كما لو كنتُ نملةً ضائعة. لم يلتفتْ أحدٌ إلى الصورةِ المعلّقةِ على الجدار، ولم يرَني أحدٌ هناك. كنتُ عالقةً في الظلال، رفقةَ المرأةِ السوداء.

أخيرًا، وبعد أيامٍ من البحثِ وبكاءِ أمي، اقتربت مني السيدةُ السوداء، لمستْ جبهتي وهمستْ:
- سأُخرج أحشاءَك الآن، لن يفتح عينيه قبل أن تُنزع.

أذعنت. متُّ ميتةً صغيرة، ثم عدت. كان الألم شبيهًا بحفرٍ مُتأنٍّ في الجوف، تحرّك كلُّ شيءٍ في داخلي من مكانه، ثم أُعيدَ ترتيبُ كلِّ شيء. وعندما انتهينا، نظرتُ إليه كأنّي واحدةٌ أخرى.

قالت المرأة:

- إنّه الآن فقط مستعدّ. هيا، أيقظيه.

مددتُ يدي وحركته قليلًا. فتح عينًا، ثم الأخرى، ونظر إليّ بعمق وثبات، كأنه ينتظر هذه اللحظة منذ سالف الأزمان.

- لم يكن يحلم، كان معلّقًا، نصفَ حيّ. قالت المرأة.

- ولماذا أصبح مستعدًا الآن؟

- لأنك قابلتِ ظلالك. الحالمُ يحتاج إلى رفيق. بإمكانكما الآن فعلها سويًّا.

- نقابل ظلالنا؟

- بل تنامان معًا، وتحلمان.

عدتُ للنظر إليه، ورأيتُ نفسي في محجريه. قبّلني قبلةً طويلة، وأجلسني إلى جانبه، متقدّمةً عليه بقليل، أغمضنا أعيننا، ثم فتحناها. كان الحلم يحدث، كفيلمٍ طويلٍ لا نهاية له، يحدث ونحن شاخصي الاعين.

في الصباح، عندما استيقظتْ أمي، وقبل أن تغسل وجهها، تقدمت نحو اللوحة، وقفتْ أمامها، تأملتها، ورأتني هناك داخل الإطار، جالسةً إلى جوار الرجل، وعينانا مفتوحتان.
ابتسمتْ لأول مرةٍ منذ يومِ ضياعي، وغادرتْ إلى عملها وهي ترفرف في اطمئنان غريب.









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي