هلاوس

2025-08-05

اللوحة للفنان الاردني عبد الرؤوف شمعونعثمان مشاورة *


أحاول أن أبتاع فيلمًا ثقافيًا من دون مشاكل، أفكر بذلك منذ مدة، وها أنا الآن في مكان مُظلم بالكاد، عدا أضواء الأعمدة الخافتة والبعيدة، وأنوار مصابيح الحافلات المنعكسة مثل أقمار كئيبة على الإسفلت، الحافلات التي تنتظر دورها للتّحميل في مجمع النّقليات الداخلية القديم في عمّان/ رغدان، والكونترول ينادي "آخر راكب لصويلح" ويمط الكلمة الأخيرة.

أقف أمام إحدى بسطات الأفلام، أتعرّق، وأرتبك، أحاول أن أبتاع الفيلم الثقافي، لكني لا أجده، أتلفّت حولي، أناور، ثم أتراجع.

يدخل علينا مربّي الصف، يحمل بيده غصن رمان، يسبقه وجهه إلى الدخول، بعينيه المُحمرتين وذقنه المُجعّدة، كما لو أنه خطم جمل أسود عنيف، يصرخ "قيام"، ويخبط بالغصن عدة مرات على الطاولة، "الجميع إلى الحائط!".

أحاول أن أجد ملصقًا على أحد الأفلام يريحني من سؤال البائع، من تبادل الحديث المحرج في هذا الشأن، لكن لا شيء يوحي بفيلم ثقافي أبدًا.

ينبش المعلم الحقائب والدفاتر وأدراج المقاعد، لا يجد شيئًا، يُمسك الكتب ويفرّ أوراقها التي تتلاحق كما لو أنها داخل ماكينة عدّ النقود، لكن دون جدوى، يصل إلينا عند الجدار، يضربنا كيفما اتفق على أردافنا وأرجلنا وظهورنا، يبدأ بتفتيشنا، يُخرج ما بداخل جيوبنا من بقايا وفتات وأقلام مكسرة، يفتشنا بقوة وهمجية، تخرج بطانات الجيوب من بناطيلنا، وتتدلّى كآذان الكلاب.

يصل إليّ، تتراقص ساقاي، يجعلني أخلع سترتي، يفتشها ثم يلقيها على الأرض، أرفع يديّ جانبًا كما طلب، أصلب في الهواء، يفتشني كما يفعل الشرطي، يطبطب يديه على ساقي من الأسفل، ويصعد بهما حتى الأعلى متحسسًا كل شيء، لا يجد غايته، يلتفت للطلبة، "هل لاحظتم شيئًا مع زميلكم؟ صورًا غريبة مثلًا؟ صور بتخزي، والعياذ بالله؟".

يرقّص الطلاب رؤوسهم كالبندولات، منكرين أي شيء، يكرّر السؤال على طالبٍ اعتاد الوشاية بنا: "أنت أفضل منهم، أنت مجتهد ومؤدب، هل لاحظتَ شيئًا مع زميلك؟". تجيء من الطالب نظرة سريعة نحوي، أُمرّر يدي على عنقي كسكّين وأتوعده. ينظر للأستاذ ويُحرّك رأسه بالنّفي، ويبلع ريقه.

أسمع الزبائن تتهامس مع أحد الباعة؛ فيلم ثقافي، أتنفس الصعداء، أقترب بلا مبالاة، أشاهد عملية تسليم الفيلم، أحاول أن أقول لصاحب البسطة، إنني أنا الآخر أريد فيلمًا ثقافيًا، لكنّ لساني يرتبط، أصمت وأتراجع من جديد.

يبصق علينا المعلم بصقة ممطوطة، مليئة بالإهانةِ أكثر مما هي باللعاب، يبصق وهو يستدير برأسه، كما لو كان يكوي قميصًا، ويبخّ عليه ماء: "تفووو".

يطلب مني أن أمدّ يدي، أفعل، لكنها تتذبذب إلى الأمام وإلى الخلف، يمسكها من أطراف الأصابع، ثم يجلدها بغصن الرمان دون توقف، أحاول أن أُبدّل يدي بالأخرى، يقول: لا يا حيوان، على اليد ذاتها! أشعر بالخدر يسري بها ببطء، ثم بالحرْق.

يكمل جلد بقية الطلاب، ثم يخرج مُلوّحا بالغصن، الأخير يتلوى ويزنُّ في الهواء مثل سوط.

كنت قد تمكنت أثناء تدافع الطلبة على الجدار، من إخفاء ما لديّ من صور، قذفتها مطوية بحركةٍ بهلوانية من النافذة الملاصقة لمقعدي، كانت صورًا جديدة، ملونة وغير مهترئة، مسلوخة من مجلة حصلنا عليها من سائق يعمل على إحدى الشاحنات الكبيرة التي تنقل الحاويات عبر الطريق الصحراوي الذي يمر في بلدتنا. أطلق السائق زامورًا طويلًا مُنغّمًا، ثم رماها من النافذة بقوة وهو يضحك، "اقبلوا مني هذه الهدية يا شباب". رفرفت أوراقها، مثل أوزة، إلى أن حطّت على حافة الملعب الترابي، تركنا الكرة وركضنا إليها مثل طيور كاسرة، لم نُصدّق ما رأيناه، عندها فقط تغيّرت حياتنا رأسًا على عقب، كمن اكتشف ذاته مرة واحدة.

"اهمس للبائع بعد أن تتفقد الأفلام الاعتيادية على البسطة، بأنك تريد فيلمًا ثقافيًا، وهو يفهم"، كانت هذه نصيحة من صديق قديم، ترك الدراسة في قرية أغصان الرمان في الجنوب، وجاء إلى عمّان قبلنا، ليعمل فيها. كان رفيقي في المقعد.

أحدهم يتجول الآن بين الزبائن الواقفين أمام البسطات، يرمقنا بعينين ملاحظتين، يتمحّصنا ربما، إن كان منا رجال آمن متنكرين، أم أننا زبائن حقيقيّون لأفلامٍ ثقافية، أخيرًا يتوجّه إلي، هامسًا، وقد اشتم الرائحة الذكورية المتأهبة في عروقي: "ثقافة؟!" أنظر إليه، ويتذبذب رأسي، كدمية الخيوط، موافقًا.

"انتظرني هنا، لن أتأخر".

يعود الرجل، يتلفّت حوله بحذر لكن بلامبالاة، يدسّ يده في جيب سترته ويخرج القُرص المدمج، يناوله لي بشكلٍ سريعٍ ومراوغ، قرص مبهم، عليه غلافٌ لأحد أفلام الكاوبوي القديمة، رجلٌ بقبعة، يمتطي حصانًا جامحًا، ويقف به على طرفيه الخلفيين، "دينارين فقط".

ما زال السّمسار يصرخ على باب حافلة النقل الكبيرة الهرمة، آخر راكب لصويلح، حيث سكني الجامعي، أركبها بسرعة والقرص في جيبي بينما أحشائي تنبض. في الأثناء، أفكر بذلك اليوم، لم يجرؤ أحد منا على أن يتفوه لعائلته بأي كلمة حول فظاعة الجلدات التي تعرّضنا لها، أو حتى تلك البصقات التي سالت على وجوهنا، وتقرّحت فيما بعد على هيئة ملامح مشوهة.

سماءُ المغيب في الخارج ملبّدة بالغيوم الرّمادية الممسوحة باللون الأرجواني، المطر ينهمر، وتشتد وطأته، يخبط زجاج نوافذ الحافلة ويسيل في جداول صغيرة جدًا فوقها، ويدي تتحسّس الفيلم الثقافي، بصمتٍ وهدوءٍ داخلي مطبق، ولكنّ نقطة ماء باردة وممطوطة تسقط من حافة النافذة على رقبتي، وتتدحرج على ظهري تحت السترة، أسمع صفير الفرامل الهوائية، الحافة تُبطئ ثم تقف، أحدهم يصعد بهدوء، يبدو مبهما كالظل بذلك المعطف الطويل الأسود، وغطاء الرأس.

يصعد الرجل بهدوءٍ ويمشي في الممر، يوارب قدميه بين أرجل الركاب وأمتعتهم، يترك المقاعد الشاغرة إلى أن يصل إلى مقعدي تحديدًا، يقف فوق رأسي، ذقنه مجعدة، ويمسك غصن رمانٍ مرن، ودون أن يقول أي شيء، يمدّ يدَه داخل سترتي ويستل القرص منها، يتأمله ثم يلقيه من النافذة، يقول، تطورت الأمور إلى أفلام إذن؟

لا أقوى على الكلام، أشعر بالخدر يتسلل إلى يدي، ثم أشعر بها تحرقني، يغادر وهو يلوّح بالغصن في الهواء، الغصن يتلوى ويزنّ كسوط، بينما راح يهزّ رأسه، خطم الجمل، عدّة مرات ويتوعّد.

 

*قاص  من الأردن









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي