
هيفاء بيطار*
صدرت رواية «غبار» للكاتبة اليهودية الإسرائيلية يائيل دايان ابنة موشية دايان مترجمة من العبرية إلى العربية عن وزارة الثقافة السورية في أوائل الثمانينيات. وما دفع هذه الرواية لغزو ذاكرتي أنني سمعت خبراً من طبيب فرنسي من أصل جزائري، يعمل في أحد مستشفيات باريس، أن أحد الأطباء الإسرائيليين قرر العودة إلى إسرائيل بعد وصوله إلى سن التقاعد، وأقام حفلاً ضخماً في أحد الفنادق ليس لوداع أصدقائه فحسب، بل ليجمع تبرعات للمشفى الذي ينوي بناءه في تل أبيب. وقد بلغ حجم التبرعات التي جمعها مبلغاً لا يمكن تخيله وهو مليون يورو. ولست بصدد أن أبحث عن هوية المتبرعين. لكن انبثقت في ذهني الرواية العظيمة لابنة السفاح الذي لعب دوراً مهماً في إنشاء دولة إسرائيل وهو موشية دايان.
أهمية رواية «غبار» أنها صادرة عن ابنة السفاح التي اعترضت بشدة وقاطعت والدها وكتبت جهاراً عن الأكاذيب المدروسة بدقة، والمستندة إلى علم النفس، وكيف كان مؤسسي دولة إسرائيل يستقدمون المواطنين اليهود من كل دول العالم ويصورون لهم أن (فلسطين) هي دولة اليهود وهي حقهم وعليهم العودة إليها وتأسيسها، وستكون حياتهم نعيماً وسعادة وأماناً ورغد عيش. يائيل دايان وقعت ضحية تلك الدعايات المُضللة، خاصة أن والدها أحد المساهمين في ترويج تلك الأفكار، وبدأ اليهود من مُختلف الجنسيات يتدفقون إلى فلسطين المُغتصبة، وبينت الكاتبة كيف كان المسؤولون الإسرائيليون يميزون إلى حد فظيع بين اليهود الفقراء القادمين من الدول الشرقية، واليهود الأغنياء القادمين من الغرب، وكيف كان يوضع الإسرائيليون الفقراء في معسكرات أشبه بمخيمات واسعة ويحاول طاقم من المشرفين والمسؤولين الإسرائيليين، زرع أفكار معينة في عقول هؤلاء الوافدين الحالمين بحياة كالجنة، وأهم تلك الأفكار زرع انتمائهم لدولة إسرائيل حديثة التشكل.
ووصفت يائيل دايان ببراعة مذهلة كيف كان هؤلاء الشبان والشابات يعانون من كل أشكال الكآبة والضياع وتشتت الأفكار والفصام، بين حقيقة أحاسيسهم بعدم التصديق، وإحساسهم بأن ثمة قوة طاغية تريد إعادة تشكيلهم وإجبارهم على الولاء للوطن الجديد إسرائيل. والكاتبة نفسها عانت من هذا التمزق وأدركت فظاعة الجريمة التي ارتكبت في حق الشعب الفلسطيني، وأدركت أن قيام دولة إسرائيل قائم على الأكاذيب، وأن الكذب مهما ضلل الإنسان لفترة فيستحيل أن يضلله إلى الأبد، ووصفت التمزق النفسي للجنود الإسرائيليين ومحاولات الانتحار التي كانوا يُقدمون عليها، والانفلات الجنسي العبثي والماجن الذي كان هؤلاء الوافدون يعيشونه، فهم في قرارة أنفسهم لم يقتنعوا بأن إسرائيل وطنهم، فالوطن لا يُفبرك ولا يقوم على تهجير وإبادة شعب آمن اسمه الشعب الفلسطيني ووطنه فلسطين، أدرك هؤلاء (الضحايا) الذين استقدمهم الشياطين الإسرائيليون المستعمرون، أن فلسطين ليست وطنهم وعانوا تمزقات عنيفة في لا وعيهم، لكن الضغوط النفسية التي كانت تُمارس عليهم منعتهم من وعي حجم الضلال الذي يعيشونه، لذلك كثرت حالات الانتحار بينهم، لأنهم عجزوا عن أن يكونوا ذواتهم ويعودوا إلى طبيعتهم.
البطل الحقيقي في الرواية ليائيل دايان هو الموت، الذي تراه يتغلغل في كل صفحات الرواية حتى إننا نجد حالات من اتفاق عاشقين على الانتحار، لأن الحب بينهما لم يستطع أن ينقذهما من فظاعة الأكاذيب التي مُورست عليهما، ووجدا نفسيهما في مخيمات غريبة وثمة من يجبرهم على الاقتناع بأن فلسطين هي وطنهم الأصلي. حين لا يستطيع الحب أن يغلب الموت فهذه هي الهزيمة الأكبر للحياة والأهم للحقيقة، فالعشاق أدركوا أن كل حياتهم كذب في كذب وبأنهم في أعماقهم لا يصدقون ما يُجبرون على تصديقه.
يائيل دايان صفعت والدها برواية «غبار»، وتحدت كل المُغتصبين والمستعمرين لأرض فلسطين، أي شجاعة عظيمة امتلكتها تلك الشابة، وما عنوان الرواية (غبار) سوى إشارة مهمة على أنه ليس هناك بناء فعلي لدولة إسرائيل، بل هي مجرد غبار، والغبار لا قوام له ولا شكل. وأفهم تماماً أن يتم التعتيم الكلي على تلك الرواية في إسرائيل، لكن يحق للشعب الفلسطيني والشعب العربي أن يحتفي بتلك المبدعة التي اختارت الحق والضمير ضد والدها، وضد منطق الاحتلال الوحشي لفلسطين. لكننا للأسف نعاني في عالمنا العربي من حالة فوبيا من اسم يهودي أو إسرائيلي، كما لو أن مجرد لفظ هاتين الكلمتين هو جريمة، كما نعاني من حالة أشد خطورة هي سياسة المقعد الفارغ، أي أن نرفض الجلوس قرب المُغتصب ونقاطعه بدل أن نواجهه ونتحداه ونهزمه، لأننا أصحاب حق، وكم من مبدعين عرب، خاصة السوريين ارتعدوا ذعراً، حين وجدوا أنفسهم بالصدفة إلى جوار كاتب، أو مخرج إسرائيلي في أحد المؤتمرات العالمية. ولا ذنب لهذا العربي إن كان ثمة مشاركون من إسرائيل في هذا المؤتمر أو ذاك! ولا أنسى أن أحد الممثلين والمخرجين السوريين التقى صدفة في أحد مهرجانات السينما العالمية بمخرج اسرائيلي. التقاه فقط ولم يتحدث إليه لكنه كاد يموت من الذعر خوفاً من إلصاق تهمة التخابر مع العدو به! ولم يرجع إلى دمشق إلا بعد حصوله على ضمانات من أعلى المستويات أنه لن يُزج به في السجن ولن يُتهم بأنه تحدث إلى إسرائيلي، أو أنه مع التطبيع. وكلنا نعرف، حتى أبسط مواطن، أن كل الدول العربية تسعى من تحت الطاولة وحتى من فوق الطاولة لإقامة علاقات مع إسرائيل. وثمة مبدعون عرب من كتاب وشعراء زاروا تل أبيب وباركوا التطبيع.
والأكثر إيلاماً أن تجد أثرياء عربا يخدمون الكيان الصهيوني على حساب الشعب العربي الغارق في الفقر والجهل والظلم، وما الصهيونية العالمية وما إسرائيل؟ إنهما وجهان لعملة واحدة، ولا ينجح رئيس أمريكي في الانتخابات إن لم يحصل على مباركة من الصهيونية العالمية. ومن يجرؤ على أن يُشير ولو من بعيد إلى الترسانة النووية التي تملكها إسرائيل، ومع ذلك نجد أن أحد الأمراء الأثرياء مثل، الوليد بن طلال قد تبرع بملايين الدولارات لحاكم نيويورك يوم تفجير برجي التجارة العالميين، وكم كان جديراً به أن يتبرع بهذا المبلغ لغزة التي كانت محاصرة ويموت أطفالها من الجوع.
أخيراً أعود إلى رواية «غبار» ليائيل دايان التي كشفت ببراعة مذهلة زيف دولة إسرائيل، وألقت الضوء والأسباب حول ظاهرة لا تطيق إسرائيل التحدث عنها وهي ظاهرة انتحار الجنود الإسرائيليين والشباب الإسرائيلي بشكل عام. وأوجه كل تحية تقدير وإعجاب لكل من يمتلك جرأة تلك الكاتبة، ففي وطني سوريا الحبيبة ثمة سجناء رأي، كان النظام يعتبرهم من عظام الرقبة. تجرؤوا وانتقدوا هذا النظام الاستبدادي، وأعرف أحدهم وكان شاباً في العشرين من عمره ومن أقرب الأقرباء للأسرة الحاكمة سُجن ستة عشر عاماً، لأنه كان منتمياً إلى رابطة العمل الشيوعي ومناهضاً للنظام، ولم تنفع واسطات القربى أبداً في فك أسره.
وأعود لما بدأت به مقالي وهو أن طبيباً إسرائيلياً جمع مليون يورو في حفلة تبرع لبناء مشفى في تل أبيب، فهل يستطيع الأثرياء العرب والأمراء العرب جميعاً، والحكومات العربية كلها التبرع بنصف هذا المبلغ، فيما لو افترضنا إقامة حفلة تبرعات للشعب العربي!
*روائية سورية