
القاهرة - محمد عبد الرحيم - «كان معظمهم ملاحدة، أدركوا جيداً أن الناس هم مَن يصنعون التاريخ وأنه لا مجال أن يفعل الرب ذلك نيابة عنهم». «كان سلوك الدول العربية ماجناً ومنافقاً بشكل عام إزاء هذا الوضع، فلم تقترن صيحات الانكسار إزاء المأساة الفلسطينية بتضامن جاد وحقيقي ودائم تقريباً». لم تكن صورة اليهودي سلوكاً وصفات، التي تواترت في الآداب العالمية والسّير، وكذا المواقف والأحداث التاريخية الكبرى وليدة المصادفة، بل هناك تاريخ طويل ساعد على تثبيت هذه الصورة، سواء من قوى مختلفة أو من بعض اليهود أنفسهم، إضافة على تأكيدها واستغلالها وتضخيمها والترويج لها من قِبل دعاة الصهيونية ومؤسسيها، حتى أصبحت أسطورة من أساطير إسرائيل، على رأسها (الهولوكوست) الذي أصبح من أهم مكونات الهوية اليهودية العلمانية، بدلاً من الهوية الدينية، وأن (الشعب المختار) تحوّل إلى الضحية الحصرية، وأن العديد من اليهود يتمسكون بأيديولوجية هتلر في ما يتعلق بنظرية العِرق. ولتفنيد هذه الأساطير والمزاعم يأتي كتاب «عِرق متوهّم… تاريخ موجز لكراهية اليهود» لشلومو زَند أستاذ التاريخ العام في جامعة تل أبيب، والمعروف بمؤلفاته التي انتهجت نهجاً مخالفاً للرؤية ووجهة النظر السائدة في مثل هذه الموضوعات، نذكر منها «اختراع الشعب اليهودي» 2008، «اختراع أرض إسرائيل» 2012، «كيف لم أعد يهودياً» 2013، والكتاب الذي نستعرضه «عِرق متوهّم» الصادر بالعبرية في 2020، وترجمه عنها إلى العربية يحيى عبد الله وأميرة عمارة، وصدر عن مدارات للأبحاث والنشر في 2024.
الشعب المختار
يرى الباحث بداية أن النصرانية تحديداً هي التي صاغت تاريخياً طبيعة الأقلية اليهودية وسلوكها، ولم يكن اليهودي العصري نتاجاً لنظرة غير اليهودي إليه كما قال سارتر، بل اليهودية الأصلية/الدينية كانت في جوهرها نتاج النظرة المؤسسة والمعادية من جانب الحضارة النصرانية، التي تؤمن بأن اليهود هُم مَن قتلوا ابن إلههم. وبهذا تشكلت العقيدة اليهودية وممارساتها في ظل الجمود، اللهم إلا فترة العصر الذهبي لليهود والعرب في إسبانيا. فكان على النصرانية ـ كدين جديد ـ أن تختلق عدواً لها (آخر/خارجي) يجب رفض سماته الخطرة. هذا العدو الذي سيتحول إلى الإسلام في ما بعد. حتى مقولة (الشعب المختار) فقد انتحلها (بطرس) متملقاً أنصار يسوع.. «وأما أنتم فجنس مختار وكهنوت ملكي، أمة مقدسة … الذين قبلاً لم يكونوا شعباً، وأما الآن فأنتم شعب الله». فالشعب المختار أصبح نصرانياً في العهد الجديد.
من ناحية أخرى تتفاوت أشكال العداء لليهود وفق اقتصادات تتغير وسياسات تتبدل وتكنولوجيا تتطور. وما فكرة (معاداة السامية) ـ التي استغلتها الصهيونية وتاجرت بها كأساس للوجود ـ إلا فكرة جاءت من قِبل ساسة شعبويين أرادوا إضفاء صلابة علمية على كراهية عتيقة، فيهود أوروبا لم يتحدثوا العبرية، ولم يكونوا قط ساميين. فإلى أي مدى كانت الصهيونية مرآة لمحنة الكراهية هذه؟ وإلى أي مدى كانت إسرائيل وظلت بسبب ذلك دولة إثنو ـ دينية، وحتى إثنو ـ بيولوجية، وليست دولة ديمقراطية عصرية؟
العِرق النقي
تأتي فكرة العزل والهجوم المُمَنهج للنصرانية على اليهودية بهدف الحد من انتشار الأخيرة، ويُشير زَند هنا إلى فكرة انتشار اليهودية خارج حدودها، فكتب أوريجينس أحد مفسري التوراة في القرن الثالث الميلادي.. «الاسم يهودي ليس اسم عِرق، وإنما اسم اختيار (أسلوب حياة)، فإذا قبل إنسان ما، أجنبي ليس من أمة اليهود، منهاج اليهود وتهوّد، فإن هذا الإنسان يُسمى يهودياً بشكل واضح». ويؤكد ما سبق تيودور مومسين ـ أحد أهم مؤرخي روما القديمة ـ قائلاً إن «اليهودية في العصور القديمة لم تكن منغلقة على نفسها على الإطلاق، وإنما العكس هو الصحيح، لقد كانت مُشبّعة بتعصب في مسألة التهويد، ليس بأقل من النصرانية والإسلام من بعدها». ففكرة الديانة المنغلقة على نفسها، والتي لا يمكن أن تكتسب تابعين جددا من خارجها تنفيها الوقائع، وبالتالي تسقط معها فكرة العِرق النقي.
المرابون
وننتقل إلى الصورة الأشهر لليهودي (المُرابي) التي يفسرها زَند ويُرجعها إلى بدايات الإقطاع الأوروبي الذي نشأ بالأساس في ظل النصرانية، والذي كان في حاجة إلى فئة (آخرين) يؤدون مهام اقتصادية هامشية بالنسبة لعلاقات الإنتاج الجديدة، والذين بالضرورة لم يكن لهم مكان (اليهود) في هذا النسق الطبقي الجديد، فلم يستطيعوا شراء أرض والتحول إلى نبلاء أو إقطاعيين، كما لم يمكنهم أن يصبحوا فلاحين، وبخلاف الاشتغال في التجارة وبعض الحِرف، بدأوا في الاشتغال في مجالات الإقراض، وهكذا بدأت تتخلق للمرّة الأولى صورة اليهودي الذي يصيب الثراء من الإقراض بالربا في المخيلة الأوروبية النصرانية.
الثائر لوثر والمتحضر فولتير
وفي القرن السادس عشر ومع قيام حركة مارتن لوثر الإصلاحية، نراه تعاطف بداية مع أتباع الديانة الموسوية، وحمّل الكنيسة مسؤولية أن نسل بني إسرائيل لم يتنصروا بعد. وبعد ذلك بعشرين عاما أصدر لوثر كتابه (عن اليهود وأكاذيبهم)، الذي سيصبح أحد المؤلفات الأكثر معاداة لليهود في بداية العصر الحديث، خاصة بعدما فقد كل أمل إزاء الرفض العنيد من جانب اليهود لقبول بشارة المسيح. أما فولتير فقد بدا له احتلال أرض كنعان ـ بأمر إلهي ـ مع إبادة السكان الأصليين المقيمين فيها فعلاً بربرياً ـ يُشير زَند إلى ان النص التوراتي حظى بقدسية من جانب اليهود والنصارى على حد سواء، على المستوى المعيب لبنية الديانتين من الناجية الأخلاقية ـ لكن فولتير لم يتوقف أو يكتف بإدانة بني إسرائيل التوراتيين، بل امتد الأمر إلى اليهود المعاصرين.
صهيوني كاره لليهود
الاقتصادي الفرنسي شارل فورييه يعده الباحث أول اشتراكي معاد لليهود في القرن التاسع عشر، وأول صهيوني في التاريخ أيضاً، قبل نشأة الصهيونية. يرى الرجل إنه يجب إعادة تربية اليهود وإرغامهم على العمل في أعمال منتجة في الزراعة والصناعة، لذا يجب توزيعهم على القرى لكي يتحولوا إلى فلاحة الأرض، بمعدل أسرة يهودية وسط مئة أسرة فرنسية. إلا أن الأمر لم يفلح، فآمن الرجل بأن على اليهود الرحيل عن أوروبا والعودة إلى أرض فلسطين، فالبعث القومي أفضل ألف مرّة من صفقات الاحتيال في البورصة، فيتحول شعب التجار التاريخي إلى شعب مُنتج من الطراز الأول، واستعمار الأرض الجديدة، يمكن أن يتحقق فقط إذا تبنى هذا الشعب فكرة الـ(بالانستر/المستعمرة التعاونية). وكان يجب لتنفيذها البحث عن مستثمر يهودي، فكان أفضل المرشحين في نظر فورييه هو روتشيلد… فقد آمن أول اشتراكي بأن أول مصرفي يهودي سيستجيب للقيام بهذه المهمة، لأنه سيصبح بذلك ملك المستوطنين اليهود. فلم تتعارض صهيونية فورييه مع كراهيته لليهود، ففكرة إقامة مملكة يهودية تعمل فيها مستعمرات تعاونية مُنتِجة سيتحقق من خلالها .. تخلُص فرنسا من يهودها، وتحقق النموذج الاقتصادي الذي بشر به فورييه على أرض الواقع.
مَن هو اليهودي؟
هذا السؤال هو ما يحاول الكتاب إجابته من خلال العديد من الآراء ووجهات النظر المختلفة التي يطرحها المؤلف للنقاش. فنجد بداية أن التمركز حول (العِرق) وحد بين اليمين واليسار. كما منح بن غوريون ـ الملحد ـ التيار السياسي الديني السيطرة الكاملة على قوانين الأحوال الشخصية ـ رغم الادعاء بأنها دولة علمانية ـ لذا تقرر اعتماد المبدأ الديني فقط بصورة نهائية، فاليهودي هو «مَن ولد لأم يهودية، أو مَن تهوّد ولا ينتمي لدين آخر».
ولكن .. ما موقف غير المتدينين؟ هنا يأتي العلم ليلعب دوره، بداية من البحث عن أمراض وراثية مميزة وقاصرة على اليهود فقط، ولكن الشائع من أمراض يهود شرق أوروبا، ليس هو عند يهود المغرب، أو يهود العراق، وهي المختلفة تماماً عن أمراض يهود ألمانيا. ثم البحث من خلال بصمات الأصابع، إلا أنه لم ينتج عنه شيء، ثم البحث من خلال الجينات، والذي خرج بنتائج ـ مغلوطة ـ قاطعة بأن اليهود يختلفون في مظهرهم عن غيرهم، لأنهم يُشكلون مجموعة متجانسة تستوفي جميع الخصائص المتعلقة بالعِرق، فتصنيف اليهود عرقياً عن طريق اختلاق أصل جيني متوهّم يُشبه الدراسات التي أجريت في نهاية القرن التاسع عشر، واستهدفت تعزيز الهوية وتفوق البيض في عصر الحكم الاستعماري المطلق. حتى إن شلومو زَند نفسه يطلق على ما سبق «الجو الجيني الاحتفالي».