
من صادف وجوده في واشنطن هذا الأسبوع تفاجأ قليلاً من اكتشاف حماسة تكاد تكون تمجيداً في ضوء التغييرات الدراماتيكية الأخيرة في الشرق الأوسط. يبدو أنها مسألة جغرافية أيضاً. بنظرة من إسرائيل نفسها، لا يمكن تجاهل الغيمة الثابتة نتيجة ثمن الحرب الباهظ: تقريباً 1800 قتيل في جانبنا، و100 مخطوف ما زالوا محتجزين في غزة، وإخفاق الحكومة في علاج إعادة إعمار المستوطنات في الشمال والجنوب. ناهيك عن سلوك غير محتمل للنجم الرئيسي في العرض، الذي استغل منصة محاكمته هذا الأسبوع لاستعراض الغطرسة ولعب دور الضحية وجنون العظمة.
لكن من العاصمة الأمريكية، عشية تبادل السلطة، يمكن رؤية صورة أوسع، فيها ضوء إلى جانب الظل، فهي تظهر لدى رجال الإدارة التاركة وفي أوساط الخبراء في معاهد الأبحاث الذين معظمهم ليسوا من مؤيدي الرئيس المنتخب ترامب. أما هنا فيشخصون فرصة في الهزة الإقليمية الأخيرة في الشرق الأوسط، التي أنتجت سلسلة تطورات تحبس الأنفاس بوتيرة مفاجئة وبتناقض مع كل المسلمات والتوقعات.
في سيناريو متفائل وسلوك إسرائيل الجديد، باندماج مع رئيس أمريكي ينوي تفجير كل الفرضيات الأساسية التي تصرف بحسبها أسلافه، ثمة تغييرات أخرى قد تخلق توازناً استراتيجياً.
هذا لا يمحو فشل إسرائيل الذريع في 7 أكتوبر السنة الماضية. وحتى الآن، لا يمكن تجاهل ما تم إنجازه في الأشهر الأخيرة. فقد تغير الميزان الآن لصالح إسرائيل. الهجوم الإرهابي الذي بادر إليه زعيم حماس في القطاع، يحيى السنوار، أحدث في الواقع كارثة غير مسبوقة في إسرائيل، لكنه لم يحقق هدفه النهائي. أراد السنوار تسريع تطبيق “خطة تدمير” إسرائيل، التي ناقشها المحور الإيراني، بدون إشراك الإيرانيين أنفسهم أو حزب الله في موعد الهجوم. بعد سنة وشهرين من ذلك، تم تفكيك معظم ذراع حماس العسكري وتم تدمير معظم قدرات حزب الله العسكرية، وانهار نظام الأسد في سوريا، مع تدمير جيشه.
مكانة إيران الإقليمية الآن هي الأضعف في الثلاثين سنة الأخيرة. مصدر رفيع في إدارة بايدن، سئل ما هي العبرة التي كان يريد استخلاصها من هذه الأحداث فأجاب: على القوات التي تعمل في الشرق الأوسط أن تفهم بأن هذا هو الثمن الذي سيدفعه من يشن حرب ضد إسرائيل.
لكن النتيجة الاستراتيجية بعيدة المدى لن تكون بالضرورة ما يتخيله اليمين الإسرائيلي. ولاية ترامب الثانية التي لم تبدأ بعد، تبدو كنظرة الموناليزا. كل يجد فيها ما يريده. صحيح أن عدداً من الذين عينهم ترامب أو ينوي تعيينهم في مناصب رفيعة يمكنهم الاندماج بسهولة في قائمة الليكود أو في “قوة يهودية”؛ لكن عندما نفحص ولايته الأولى بنظرة إلى الوراء، نكتشف أنها مليئة بالتناقضات، وبقضايا استراتيجية أو أيديولوجية واضحة.
المثال الأبرز في السياق الإسرائيلي يتعلق بمسرحية “صفقة القرن” من العام 2020. سابقاً، وعد من هم في محيط رئيس الحكومة نتنياهو، بـ “سيادة في اليوم الأول”، بعد محادثات سابقة مع الإدارة التي نوقش فيها اعتراف أمريكي بضم المستوطنات في الضفة الغربية. وحدث خلف الكواليس صراع كبير بين المقربين والصهر جاريد كوشنر والسفير في إسرائيل ديفيد فريدمان، الذي انتهى بانتصار صارخ لكوشنر، وبسرعة البرق نزل الضم عن جدول الأعمال.
وكانت هناك تناقضات داخلية أيضاً في سلوك ترامب أمام إيران والسعودية؛ فإسرائيل تحبو الارتكاز على الاغتيال المثير للجنرال الإيراني الأعلى قاسم سليماني. ولكن ترامب تجاهل أيضاً مخاوف السعودية بعد الهجوم الإيراني لمنشآت النفط قبل بضعة أشهر، وشعر بالشماتة بسبب إسقاط الإيرانيين لطائرة أمريكية ضخمة بدون طيار.
يبدو التوجه الاستراتيجي في سلم أولويات الإدارة الجديدة هو الانشغال بشرق آسيا، وستحل المنافسة مع الصين في مرتبة أعلى بكثير من شؤون الشرق الأوسط. إن اشمئزاز ترامب من الحروب ومن تبذير الموارد على مساعدة الدول الديمقراطية في أرجاء العالم، وموت الشباب الأمريكيين في حروب ليست لهم – معروف. ولكن كيف سيتصرف فيما يتعلق باتفاق المساعدات الأمنية لإسرائيل في العقد القادم، الذي يمكن التوقيع عليه من جديد في 2026 والذي سيدخل إلى حيز التنفيذ بعد سنتين تقريباً؟ المساعدات السنوية بمبلغ 3.8 مليار دولار لم تعد أمراً مفهوماً بحد ذاته، بالأساس بعد أن عين الملياردير إيلون ماسك للانقضاض بفأسه على البيروقراطية الحكومية. ما أثبت في الولاية الأولى هو أن ترامب يتميز بتقديم الهدايا التي لا تكلفه سنتاً واحداً، مثلاً نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أو الاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان.
يتم الآن استثمار جهود كبيرة في اللعبة الأمريكية الداخلية لتحليل كل تعيين يعلن عنه ترامب. من ينشغلون بذلك يتجاهلون التقدير بأن معظم من تم تعيينهم لن يبقوا في مناصبهم أكثر من سنة، كما حدث في الولاية السابقة. الأمر الوحيد الواضح هو أن ترامب سيبقى شخصاً غير متوقع؛ فالصدمة والرعب الناتجة عن قراراته تشكل جانباً متعمداً في سياسته.
الأمر السيئ للأعمال التجارية
تتشارك واشنطن و”القدس” [تل أبيب] تقديراً بأن الأحداث الأخيرة أنزلت ضربة استراتيجية على النظام في طهران، وأضعفت مكانته بشكل كبير. ولسقوط نظام الأسد نتائج عملية. نصف الهلال الشيعي ليس مفهوماً فحسب، بل هو تواصل جغرافي – مسار بري مفتوح في معظمه بين أربع عواصم امتد بينها قوس التأثير الإيراني، من طهران إلى بغداد ودمشق، ومن هناك إلى بيروت. بعد وقف إطلاق النار الذي فرض على حزب الله في لبنان، خطط حرس الثورة لاستئناف مشروع تهريب السلاح إلى حزب الله، وهو مسار أغلق هذا الأسبوع.
أضرار إيران لا تقتصر على ضعف وكلائها. فقد تبين أن هجوم الرد الإسرائيلي في إيران في 26 تشرين الأول، بعد الهجوم الصاروخي الثاني من إيران إلى إسرائيل في 1 من الشهر نفسه، كان حدثاً استراتيجياً. فقد أنزلت إسرائيل ضربة حاسمة لمنظومة الدفاع الجوية الإيرانية، وأضرت بشدة قدرات إنتاج الصواريخ البالستية. المعنى، أن طهران ومنشآتها النووية مكشوفة لضربات أخرى. وأمل النظام في سبق إسرائيل في سباق التسلح الذي سترتفع فيه وتيرة إنتاج الصواريخ البالستية بدرجة لا يمكن تقديرها على وتيرة إنتاج الصواريخ الاعتراضية، يبدو أنه تبدد، على الأقل في المدى القريب. هذه هي التطورات التي حطمت التوازن معاً.
مع ذلك، هذه العمليات ربما تدفع المرشد الأعلى علي خامنئي إلى اتخاذ قرار خشي من اتخاذه خلال ثلاثة عقود – أمر العلماء والجنرالات باستكمال عملية تطوير السلاح النووي. في الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وقفت إيران إلى جانب روسيا، التي كانت هي المعتدية. ولكن لم يغب عن عيون القادة في إيران الاستنتاج بأنه لولا تنازل كييف عن ترسانة سلاحها النووي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في التسعينيات لكان الوضع مختلفاً الآن.
الإجماع النادر في الحزبين الأمريكيين يقول إن أي رئيس أمريكي لن يسمح لإيران بإنتاج السلاح النووي. نجاح الهجمات الإسرائيلية في إيران وتدمير معظم قدرات حزب الله والجيش السوري – كل ذلك يزيد الشعور بالثقة لدى إسرائيل في قدرتها على تنفيذ خطوات أكبر. النقاش حول مهاجمة المنشآت النووية لم يعد موضوعاً نظرياً فقط، ولا يقتصر على نتنياهو والمخلصين له. حتى الآن، هناك أشخاص تولوا مناصب رفيعة في الإدارتين، الجمهورية والديمقراطية، ومنهم من خدموا في إدارة ترامب، يقدرون أن ميل الرئيس المنتخب هو التوصل إلى اتفاق نووي جديد وليس هجمات عسكرية في إيران.
حسب رأي هؤلاء الأشخاص، فإن رأس ترامب معد للصفقات بصفته رجل عقارات، وينشغل بالأعمال التجارية والأرباح الكبيرة المتوقعة للولايات المتحدة من التقارب مع السعودية والاتفاق معها، وضمن ذلك إمكانية التطبيع بينها وبين إسرائيل. الحرب سيئة للأعمال التجارية. ولترامب استحواذ مرضي للحصول على جائزة نوبل للسلام، مثل التي حصل عليها الرئيس السابق، الذي يكرهه، باراك أوباما.
دول الخليج بالتأكيد تخشى الانتقام منها إذا هوجمت إيران. فالسعودية تعرضت في السابق لضربة من إيران عندما تمت مهاجمة منشآت النفط. والإمارات تتساءل ما الذي سيبقى من دبي، مدينة الأبراج الزجاجية، بعد ضرب المنشآت النووية الإيرانية. خلافاً لنتنياهو الذي يميل للهجوم، فإن كثيرين في إسرائيل كانوا سيفضلون اتفاقاً بعيد المدى بعد أن تهدد الولايات المتحدة إيران بالهجوم. ولكن الخوف أن ترامب لا يريد البتة استخدام القوة العسكرية، وأن إيران تدرك ذلك.
عشرة أيام فقط فصلت بين بداية عملية “هيئة تحرير الشام” (جبهة المتمردين السنة في سوريا) واحتلال حلب، وبين انهيار النظام وهروب الديكتاتور بشار الأسد من دمشق. التقارير الأولية عن تقدم المتمردين من مداخل حلب تم تلقيها الخميس 28 تشرين الثاني. جهاز الاستخبارات في إسرائيل تفاجأ من التطورات وسرعتها، مثلما تفاجأت كل أجهزة المخابرات في المنطقة وفي الغرب. في اليوم التالي، 29 تشرين الثاني ظهراً، خصصت القيادة السياسية والأمنية بصعوبة نقاشات حول الأحداث في سوريا. وصمم نتنياهو على إجراء مشاورات هاتفية.
المخابرات الوحيدة التي عرفت مسبقاً عن خطة المتمردين هي المخابرات التركية، هذا بالطبع لأنها كانت شريكة فيها. بأثر رجعي، قالت جهات تركية لنظرائها الأمريكيين بأن وقف إطلاق النار في لبنان، الذي تم التوصل إليه في 27 تشرين الثاني، كان له دور مهم في قرار المتمردين السوريين شن الهجوم في اليوم التالي. حسب قولهم، فإن المتمردين اعتبروا الاتفاق في لبنان استسلاماً لحزب الله، ودليلاً على أنه غير قادر على القتال، واستنتجوا أن حزب الله سيجد صعوبة هذه المرة في إرسال كتائب لمساعدة الأسد كما فعل في 2012. وافترضت بأن روسيا وإيران ستكونان منشغلتين كل منها بنفسها، بحيث لا تستطيع تقديم مساعدة حقيقية للنظام. اتخذ القرار الأخير في اللحظة التي خرج فيها حزب الله من اللعبة. هكذا فإن إسرائيل، بشكل غير مباشر، ساعدت على سقوط سلالة الأسد بعد 54 سنة من الحكم القاتل في سوريا (حماس أيضاً ساهمت، بغير قصد، في ذلك).
عاموس هرئيل
هآرتس 13/12/2024