
إبراهيم عبد المجيد*
جذبني عنوان « الأسفار» للكتاب الصادر للسورية خولة برغوث، الكاتبة والناشطة النسوية التي تعيش في واشنطن منذ عام 2005.
الكتاب صادر عن دار فضاءات الأردنية هذا العام 2024. للكتاب عنوان فرعي هو «أبعد من موت أقرب من حياة» أحالني العنوان إلى الأسفار في العهد القديم، وما تثيره من شغف، وما صارت عليه من حقائق، رغم أنها ليست كذلك في كثير من الدراسات. هي فقط وعاء للحكمة، ومن ثم توقعت أن أمشي مع حِكم وأمثال يمكن أن تمتعني في هذا الجو الذي نعيشه، والذي صارت فيه الإبادة الجماعية لأهل غزة، كأنها تحدث في عالم آخر وتنتمي إلى عهد قديم. كم نحن في حاجة حقا إلى لحظات يمكن أن تسميها هروبا أو راحة أو ما تشاء، لكن مثلي يعود دائما إلى الآلام، التي لم أكن أتصور أن يأتي عليّ زمن لأراها، بينما يتفرج قادة الدول الكبرى عليها.
سأبتعد عما حولي لحظات، ولا بد أنكم في حاجة ولو مؤقتا إلى هذا الابتعاد. ما أدهشني أن الكتاب ليس أسفارا متوالية فقط، لكن في عناوين الأسفار، في الصفحة التي تسبق السفر نفسه، تجد إشارة أعلى العنوان على الجانب، برقم تكتشف أنه رقم صفحة سابقة أو تالية، كأن السفر المقبل، لا يخصه العنوان وحده، وهو محاولة ذكية إذا أدركها القارئ، الذي لا بد يسأل نفسه عن هذا الرقم المجاور للعنوان، سيتنقل بين الصفحات. وكلما دخل إلى سفر ارتحل إلى البعيد، ثم يعود ليكمل القراءة ويرتحل. لذلك أنا ابدأ بالخاتمة: «تاء الموت مفتوحة على الخلود.. وتاء الحياة دائرة مغلقة» ثم تعقب على ذلك بكلمة «المُبتدى» لتكتمل الدورة، فنحن مع الخاتمة نبدأ الرؤية لهذا العالم. تتذكر أن المقدمة تبدأ بكلمة النهاية نفسها، التي حين تصل إليها ستسأل نفسك لماذا تكرار الحديث، لتكتشف أنها الدائرة التي تختصر بإيجاز رائع معنى الحياة في مواجهة معنى الموت.
تقول في مدخل الكتاب، إن هذه الأسفار «شذرات فلسفية، صيغت بلغة تُحاكي كتب الحكمة القديمة، على قصد أن يجد الإنسان المبحر فيها، اتساعا يجعله يتأمل جمال وأهمية أن يكون الإنسان، هو القيمة الحقيقية في هذا الوجود»، وهكذا تمشي مع الكتاب الذي سأحاول اقتباس شذرات منه، فمن الصعب إيجازه بما يفتحه من آفاق للفكر والروح.
الأسفار تبدأ بعد المدخل والإهداء بمقدمة بعنوان «سفر البدء» فيها حديث عن الإنسان والمعنى، فمن لا يستحوذ عليه المعنى، لن يملك القدرة على سبر تفاصيله وشرحه بالكلمات. إن الروح تتألق في الصعوبة، فهي الدافع المحفِّز لتتحدي الحدود والدوائر المحكومة، فتنطلق بحثا عما يزيدها معرفة وحرية. تريد أن تدون منمنمات العجز الذي يعتريها، فيقابلها معنى البعد الذي تتساءل، هل هو المسافة المترامية اتساعا أو عمقه الغائر. أقرب التفاسير للبعد أنه يجعلنا بعيدين عما وعمن نألف، فينهكنا الاغتراب.
تنطلق في الكتاب فتقرأ في «سفر الفناء» في الصفحة الثانية عشرة «ليس أسهل علينا من نقل الحرب التي خارجنا لتكون بيننا»، وتقرأ في عنوان الصفحة السابقة على السفر، رقم صفحة مئة وتسعة عشر، فتنتقل إليها لتجد نهاية «سفر التحول». تقرأ في بدايته: «فإن غلب حزن الطريق المحفوف بالذاكرة والندوب التي تركتها الاختبارات.. أغمض عينيك وأهجرها في زاوية ما تذوي دونك.. ثم ابدأ وجودك من جديد.. تحسس بيديك التراب لتدرك بذلك حقيقة تكوينك».
ويستمر السفر ترنيمات شعرية المعنى والصورة والرؤى الفلسفية فيما عليك أن تفعل، حتى تصل إلى نهايته في صفحة مئة وتسعة عشر المشار إليها سابقا، فتقرأ:
«ها قد أصبحت مَرجا تحيا به العصافير التي هجرت أوطانها..
والأشجار التي لا تخشى العاصفة..
والفراشات التي تحيا من الضوء لتحترق فيه..
وتلك البذار..
اكتملت سبع سنابل خضر تصبحن حقلا.. وأنت..»
نلاحظ هنا أن الختام لهذا السفر بجملة «تصبحن حقلا.. وأنت» هو العنوان في الصفحة الحادية عشرة، التي تسبق سفر الفناء في الصفحة التالية. هل هو جدل بين الأسفار، أم هي الإجابات يتأخر توضيحها. كما تشاء.
وتستمر مع «سفر الرحيل» في الصفحة الرابعة عشرة لتجد في عنوانه في الصفحة التي تسبقه رقم صفحة مئة واثنتين وعشرين. تجد السفر قصيرا من أشعاره:
«كان أباهم صالحا.. باسطا للخير نفسه..
وعندما قُتل فداء للجميع لم يأتِ إليهم من الجميع أحد»
حتى تقول:
« ما يأخذه طريق يباساً تعود به طرق أخرى اخضرارا..
لا الطرقات تنتهي ولا الرحيل هو النهاية..
ولا يتوقف القدر عند أحد..
وتراب..»
تنتقل كما فعلت من قبل إلى صفحة مئة واثنتين وعشرين المُشار إليها، تجدها نهاية سفرين طويلين. الأول بعنوان «عن سِفر التحول» والثاني بعنوان «من سِفر الوعي في إدراك ما لا يتاح» وتجد النهاية «أنا الذي سماني الملأ العارف بالانسان ثم لي سجد»
تكتشف كالعادة أن النهاية كانت العنوان الأسبق لسفر الرحيل في الصفحة السابقة.
من «سفر الوعي في إدراك ما لا يتاح» المشار إليه تقرأ:
نقف أمام الذات نباهيها كم أننا نملك مفاتيح أقدارنا..
نوجهها حيث نشاء..
لكنْ للمصير رأي آخر..»
إلى أن تقول:
«تحين لحظة تجلي الحقيقة.. ويومض الوحي فيها للحظة.. لحظة واحدة فقط.. كفيلة بتغيير كل شيء.. لحظة تزلزل الثوابت..»
والآن سأقرأ من النهاية نموذجا على الأسفار، وكيف تحيلني إلى أسفار أخرى مرت في البداية. فمن المهم جدا إدراك البناء الفني للأسفار.
في صفحة مئة وثلاث وعشرين تجد العنوان «جليا بما يشاء». تنتقل إلى السفر التالي «سفر الماء». فوق العنوان الأول رقم صفحة عشرين. تعود إليها قبل قراءة السفر الجديد أو بعده، لتقرأ فيها في سفر «اليأس آية الرجاء»:
«في عتمة الحاضر المغروس في جرح الماضي وغموض المستقبل المنفي في الحيرة..
كائن بأجنحة يُعسوب أخضر يشعل الزيت المقدس في جسده طالبا للنجاة من التيه»
حتى تقرأ:
«وفي البلاء لا رجاء يرتجي سوى الفعل
جليا بما يشاء»
تعود إلى سفر الماء المتأخر كثيرا في رقم صفحته، تقرأ في نهايته:
« العسل أثر النحلة..
والثمر أثر الفراشات..
والمطر أثر الغيم..
والغابات أثر الخطى..
والفقد أثر الوجود..
والشفق أثر الفجر..
والكتابة أثر صرير الحروف على ورق غير مرئي..
تحفر آبار الماء والينابيع والكلام..
أما الموت فهو الأثر الكامن في الحياة تحتويه في رحمها.. كسرِّ لا يجرؤ على البوح بأثره لأحد.. أو أحد..»
مثال آخر من النهايات في سفر «الشجاعة النجاة» الذي تسبقه صفحة بعنوان «آن أوان الذي تهدم أن يُقام» مع إشارة للصفحة الرابعة عشرة، فتعود إليها في «سفر الرحيل» الذي أشرت إليه من قبل وتدرك أنه تكملة له. أما ما بعده «سفر الأمل» فتسبقه صفحة كالعادة بعنوان «منفيُّ من بعضه». تعود إلى الصفحة المشار إليها وهي رقم اثنتين وعشرين لتجد «سفر الوحدة» تقرأ فيها:
« إن من لم يلتقِ شطر روحه تتقمصه كل روح هائمة تبحث عن شطرها.. ترتاده ثم تهجره..
فيكون ألم جميعها فيه..»
هكذا يمكن أن تقرأ الأسفار من البداية إلى النهاية أو العكس، لتكمل رؤى الكاتبة الفلسفية للعالم والحياة. يتجلى الشعر وصوره ومعانيه بين السطور المثرية. وهكذا حملتني الأسفار إلى فضاءات واسعة من التأمل الذي شغلني ما يحدث حولي عنه، فمنحتني القوة أن أتحمل. فأنت في فضاء الفلسفة والرؤى الإنسانية وفهم العالم والوجود والإحساس به، تدرك معنى الحياة.
*كاتب مصري