روبرت فيسك بين ليلة القدر والجاحظ

2024-11-06

الصحافي البريطاني روبرت فيسك (1946 – 2020)صبحي حديدي*

«إنّا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراكَ ما ليلة القدر. ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر. تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر. سلام هي حتى مطلع الفجر»؛ بهذه الآيات القرآنية، من سورة «القدر»، في ترجمة طريف الخالدي إلى الإنكليزية، شاء الصحافي البريطاني روبرت فيسك (1946 – 2020) تصدير كتابه «ليلة القدر: خيانة الشرق الأوسط»، الذي نُشر مؤخراً عن 4th Estate، ضمن مجموعة هاربر كولنز. وأشرفت على هذه الطبعة نيلوفر بذيرا – فيسك، السينمائية والكاتبة والصحافية الأفغانية/ الكندية، التي تزوجها فيسك في سنة 2009؛ ولها يدين العالم بالفيلم المميز «قندهار»، 2001، وبمذكرات نوعية صدرت في سنة 2006 بعنوان «سرير من أزهار حمراء».
والمرء، بادئ ذي بدء، يحار في السبب الذي كان وراء إحالة العنوان إلى ليلة القدر، واقتباس الآية القرآنية في مستهلّ الكتاب؛ رغم أنّ معاني مفردة «القدر» لا تشمل مفهوم القوّة في دلالاته المعاصرة، خاصة تلك الاستعمارية والإمبريالية والجيو – سياسية التي تتناولها معظم فصول الكتاب. وهذا تفصيل يتجنب التوقف عنده كاتب المقدمة، باتريك كوبرن؛ كما تتفادى الإشارة إليه كاتبة التعقيب الختامي، بذيرا – فيسك؛ ربما لأنّ حيرة مماثلة انتابت الأوّل، واعتبارات شخصية ألزمت الثانية بالامتناع عن أيّ تنويه وإيضاح.
لافت كذلك، وإنْ بدرجة حيرة أقلّ، لجوء فيسك إلى تصدير ثانٍ للكتاب اقتبسه من الجاحظ، في «الحيوان»، يقول (بترجمة الخالدي أيضاً): «وينبغي لمَن كتب كتاباً ألاّ يكتبه إلا على أنّ الناس كلّهم له أعداء، وكلّهم عالمٌ بالأمور، وكلّهم متفرّغ له؛ ثمّ لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غُفلاً، ولا يرضى بالرأي الفطير، فإنّ لابتداء الكتاب فتنة وعُجباً، فإذا سكنت الطبيعة وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النفس وافرة، أعاد النظر فيه».
والأرجح هنا، في تقدير شخصي تفترضه هذه السطور، أنّ فيسك يلمّح إلى إشكالية خيارات سياسية ومهنية، وأخلاقية في نهاية المطاف، طبعت تغطياته الصحافية لمسائل شتى تخصّ انتفاضات «الربيع العربي» عموماً، واحتكاكه المباشر بقوى وأنظمة في المنطقة لم يتوفر إجماع كافٍ حول نزاهته في توظيفها، مدحاً أو ذمّاً في واقع الأمر. والغالب أنّ لجوء فيسك إلى معيار الجاحظ، بصدد علاقة المؤلف بمعادلات الاتفاق والاختلاف مع القارئ والمتلقي إجمالاً، توحي بلمسات مراجعة لا تخفى، بعضها يرقى بالفعل إلى سوية النقد الذاتي الخفيف، أو المتخفي المبطّن في بعض النماذج.
على سبيل المثال، ثمة فصل بعنوان «الجرّاح ذو الأيدي الملطخة بالدماء»، يسهب في وصف توحش أجهزة النظام السوري ضدّ معتقلي الرأي في السجون المختلفة، ويصف عنف جيش النظام ضدّ المدنيين وفصائل «الجيش الحرّ» على حدّ سواء؛ ضمن مقارنة مع معرض تشكيلي للفنان الإسباني غويا بعنوان «كوارث الحرب»، أقامه معهد سرفانتس في العاصمة اللبنانية بيروت، حيث كان فيسك يسكن ويعمل منذ العام 1976. غير أنّ النصّ يبدو بمثابة مراجعة، أو اعتذار متأخر، عن سقطة مهنية فاضحة سبق أن انساق فيسك إليها، حين تبنى بحماس شهادة إيجابية عن سجون النظام السوري، بلسان معتقل سياسي استمع إليه الصحافي المخضرم داخل معتقل، وفي مكتب أحد ضبّاط الاستخبارات!
لكنّ القارئ لا يعثر، في كامل فصول الكتاب الـ15، على ملمح مراجعة مماثل يخصّ سقطة أخرى سار إليها فيسك بنفسه، في قضية الطبيب البريطاني عباس خان الذي قُتل تحت التعذيب في معتقل كفر سوسة، أواخر العام 2013 بعد اعتقال دام 13 شهراً. يومها خرج فيسك بنظرية عجيبة تقول التالي: «هل كان أحدهم يحاول تخريب العلاقات، المتحسنة باضطراد رغم أنها ما تزال مجمدة، بين الرئيس السوري وبريطانيا والولايات المتحدة؟ مَن الذي سيرغب في منع هذا التحسن؟ السعودية؟ بالطبع. قطر؟ قطعاً. إسرائيل؟ لِمَ لا؟ ولكن الإيحاء بأنّ أياً من هؤلاء الثلاثة يمكن أن يهندس مقتل الإنكليزي الشاب في سجن دمشقي، أمر منافٍ للعقل».
فإذا كان منافياً للعقل، كما أقرّ فيسك في مقالة نشرتها صحيفة الـ»إندبندنت» البريطانية يومذاك، فما الغاية من طرح التساؤل إذن؛ إلا إذا كانت الخلفية، الأخرى الفعلية التي يتمسك بها فيسك، هي التالية: «موت عباس خان يثير اليوم إمكانية أن يكون أناس داخل الحكم السوري في دمشق يريدون تحدّي سلطة وسمعة رئيسهم نفسه. من الواضح أنّ السوريين أرادوا إبداء ملمح لحسن النيّة تجاه الغرب عن طريق إطلاق سراح الدكتور خان، إلا أنّ وفاته توحي بأنّ ثمة أولئك الذين يرغبون في تدمير فُرَص الأسد في المصالحة مع القوى الغربية التي كانت، قبل أشهر قليلة، تعتزم تدمير نظامه في ضربة عسكرية».
ليس غريباً، والحال هذه، أن بذيرا – فيسك تتعمد في تعقيبها الإكثار من كتابات فيسك الناقدة للنظام السوري، المتضامنة مع القضية الفلسطينية، الفضاحة لخيارات القوى الغربية (أمريكا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا…) في خيانة حقوق الشعوب في الشرق الأوسط من جهة أولى؛ والتواطؤ مع أنظمة الاستبداد والفساد العربية هنا وهناك في المنطقة، من جهة ثانية؛ وكلّ هذا في إطار التواطؤ مع، والاصطفاف الأعمى خلف، جرائم حرب الكيان الصهيوني.


*باحث وكاتب سوري مقيم في فرنسا









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي