إبراهيم عبد المجيد*
أسعدني اختيار الكاتب والباحث إيهاب الملاح، مشرفا عاما على النشر والمحتوى، في مؤسسة دار المعارف، ورئيسا لتحرير سلسلة « اقرأ» العريقة. إيهاب الملاح يمتعنا دائما ببحوثه وكتاباته، ومنها على سبيل المثال «سيرة الضمير المصري» و«طه حسين.. تجديد ذكرى عميد الأدب العربي» و»قصص الحيوان في التراث العربي» و»الشيخ حسن العطار» وغيرها، كما أن خبراته الصحافية رائعة، ومقالاته التي يتابع فيها قضايانا الثقافية لا تنقطع.
أعادني الاختيار له إلى زمن جميل مع سلسلة «اقرأ»، كانت هذه السلسلة التي تنشرها دار المعارف، والتي تعود الآن مع إيهاب الملاح، من أجمل نوافذ قراءتي في سن الصبا والشباب. شاركتها سلاسل أخرى مثل «أعلام العرب» ومثل «من الفكر السياسي والاشتراكي» ومثل «روائع المسرح العالمي» و»مسرحيات عالمية» وغيرها، سواء من دار المعارف أو من هيئة الكتاب. ناهيك طبعا عن المجلات التي كانت تصدر شهرية، أو صفحات الأدب والفن التي كانت تخصص لها الصحف والمجلات كل أسبوع أبوابا خاصة بها كل جديد، وتكتب فيها أسماء رائعة من الكتاب والمفكرين. كانت سلسلة «اقرأ» على رأس السلاسل المختلفة، لصغر حجم كتبها، فيمكن أن تقرأ الكتاب في جلسة واحدة ويوم واحد، فضلا عن سعرها الذي كان في ما أذكر قرشين ذلك الوقت، وهو أقل الأسعار، تليها «أعلام العرب» وكانت بخمسة قروش. كل ذلك ارتفع سعره مع الوقت لكن ظل في دائرة أبسط الأسعار في ذلك الزمن.
في سلسلة اقرأ قرأت في كل فروع المعرفة، الأدب والتاريخ والفلسفة والنقد وغير ذلك، وتتالت أسماء عظيمة من الكتاب والمفكرين مثل شوقي ضيف ـ عباس العقاد – صلاح عبد الصبور – أنيس نصور- محمد زكي عبد القادر – إبراهيم المازني- سلامة موسى – محمد سعيد العشماوي – صوفي عبد الله -أحمد مستجير – يوسف الشاروني – منيرة كفافي – عبد الحليم عباس ـ يوسف مراد- يوسف جوهر – خليل الهنداوي – طاهر الطناحي -عاطف العراقي – أحمد فؤاد الأهواني – علي الجارم- صديق شيبوب – حسين مؤنس – فوزية مهران – عبد الحميد إبراهيم – أمينة السعيد- عبدالوهاب المسيري -غالي شكري، وغيرهم من الأسماء التي كانت تضيء سماء الوطن. هم من أجيال مختلفة ولست مضطرا إلى تصنيفهم العمري، فأنا اجتهد مع الذاكرة، لكن كتابا لكل منهم بقرشين، أو حتى خمسة قروش أمر رائع، فهو مثل ثمن تذكرة السينما من الدرجة الثانية. بالمناسبة كنت أشتري هذه الكتب وغيرها دائما، وأنا في طريقي إلى السينما في محطة الرمل في الإسكندرية، فكان سعرها يدخل ضمن تكلفة المشوار. كنت أشتريها دائما من بائع الصحف «عم سيد»، رغم أن دار المعارف قريبة، وكذلك هيئة الكتاب، لكن الفارق أنك عنده تجد كل كتب دور النشر الكبيرة والصغيرة الصادرة حديثا. هذه ميزة كل باعة الكتب. وكان أيضا يعطينا الكتب « شُكُكْ» كما نقول في مصر حين نكون مفلسين. كانت جريدة «الأهرام» من أهم الصحف التي أنتظرها يوم الجمعة في الصباح الباكر، أحصل على نسخة منها قبل أن تنفد، لأن ملحق أهرام الجمعة كان يكتب فيه كتاب مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وبنت الشاطئ وحسين فوزي ونجيب محفوظ ويوسف إدريس. هل تريد كنزا أفضل من ذلك؟
كذلك أتذكر كتبا عن كتاب عظماء وقضايا فكرية مهمة بدأت تخرج إلى النور من جديد على يد إيهاب الملاح تحمل عناوين مثل «سنوحي» و»شكسبير» و»قضية فلسطين» و»دوستويفسكي» و»غوتة» و»بيرانيللو» و»تولستوي» و»وبوشكين» و»عندما يتحدث الأدباء» و»مع العقاد» و»الجمعيات السرية» و»من ذكريات الفن والقضاء» وغيرها لكتاب رائعين.
ماذا فعلت بي هذه الكتب وغيرها، أو ماذا فعلت بي القراءة. أولا لم تأتِ القراءة بقرار مني، لكن مدارسنا الابتدائية والإعدادية والثانوية كانت فيها مكتبة رائعة، وكان لنا حصتان كل أسبوع يسمونها قراءة حرة، نذهب فيها إلى المكتبة نقرأ ما نحب، دون أن يكون مادة للامتحان بعد ذلك. ورغم وجود أنشطة أخرى وجماعات مثل جماعة المسرح والكشافة والرحلات والجمباز والفن التشكيلي وغيرها، إلا أن القراءة أخذتني، وكانت سببا في حرصي عليها، وأظهرت أو فتحت الباب لموهبتي في كتابة القصة والرواية، ولهذا تفاصيل حكيتها في كتابي «ما وراء الكتابة ـ تجرتي مع الإبداع» وفي كثير من حواراتي ومقالاتي. لم تأخذني القراءة لمعرفة الآداب والفنون فقط، لكنها أخذتني إلى سفرات وزيارات إلى العالم كله قديما وحديثا، وأنا جالس في بيتي. أجل. كم من المال تحتاجه لتزور فرنسا مثلا لتتعرف على أماكن روايات كتابها، أو أي بلد أوروبي، أو حتى عربي وأنت صغير، بل حتى بعد أن صرت كاتبا. شيء لا يقدر عليه إلا الأغنياء أو الأسر الغنية، ولن تفعل ذلك في أكثر من بلدين أو ثلاثة بلدان. القراءة جعلتني أطوف العالم كله. لا أنسى أول زيارة لي إلى باريس عام 1994 كيف بعد أن وصلت إلى الفندق ووضعت حقيبتي، أخذت طريقي إلى الحي اللاتيني وكنيسة نوتردام لأرى الأماكن التي قرأت عنها في روايات فيكتور هوغو وغيره من الكتاب.
كذلك أسرعت إلى كافيه دي فلور في شارع السان جيرمان، مقهى الوجوديين، لأجلس على مقعد جلس عليه يوما جان بول سارتر، أو البير كامو، أو غيرهم من الوجوديين. حدث الأمر نفسه في زيارتي للاتحاد السوفييتي عام 1990 وفي ليلة سافرت بالقطار إلى مدينة كييف في أوكرانيا، فأمضيت الليل كله جالسا جوار النافذة أرى الجليد وأتذكر روايات دوستويفسكي. الأمثلة كثيرة يمكن أن أقولها لكثير من البلاد التي كنت فيها بمجرد وصولي، أخرج من الفندق أبحث عما قرأته عنها وعن تاريخها. هكذا كانت القراءة وستظل نافذة مجانية على العالم، فمهما كان سعر الكتاب لن يصل إلى سعر وجبة في المطار في انتظار الطائرة، فما بالك بسعر تذكرة الطائرة. لذلك لا أنسى أبدا الأساتذة الذين شجعونا على القراءة، وكان منهم مدرس شاب اسمه الأستاذ حسان، ينتهي من شرح درس اللغة العربية في نصف ساعة على الأكثر، ثم في الربع ساعة الأخيرة يقرأ علينا مقالا في إحدى الصحف لطه حسين، أو غيره، ونحن في المرحلة الابتدائية التي تنتهي ونحن في الثانية عشرة من عمرنا.
حببني الأستاذ حسان في القراءة فضلا عن حصتيْ المطالعة الحرة، وصرت حين يرتفع مصروفي إلى قرشين أحتفظ بقرش لشراء إحدى الجرائد، حتى كبرت وعملت وصار لي راتب أشتري منه الكتب أو الصحف، فضلا عن الاستعارة من مكتبة المدرسة أو مكتبات الإسكندرية، مثل مكتبة البلدية أو مكتبة قصر ثقافة الحرية. في كل بلاد العالم المتحضر مقاهٍ تعلن دائما أنه هنا جلس فلان وأحيانا تضع صورته، فيكون الأمر مثيرا وجاذبا للزوار، ولا أنسى مقهى في مدريد مكتوبا عليه «همنغواي لم يجلس هنا» ويقصدون العكس، وأمامه طابور طويل من الزائرين.
حقا عرفت كثيرا من أماكن الكتاب والفنانين بعد أن أتاحت ترجمة روايات لي إلى لغات أجنبية السفر، لكن قبل ذلك كله بالقراءة سافرت وطفت في العالم كله، حتى العالم القديم في حضارات مثل اليونانية والرومانية دون سفر، وكذلك البابلية والأشورية والسومرية قبل زياراتي للعراق، وطبعا الحضارة المصرية قبل أن تعرف قدماي الأقصر وغيرها. هل تريد نزهة في العالم ومعرفة به بالمجان أفضل من القراءة؟ ربما الآن تفتح لك السوشيال ميديا ما تريده من زيارات، وهذا من حسن حظ الأجيال الجديدة، وإضافة للقراءة، لكن ما أجمل أن تكتمل الرؤية مع القراءة. ستظل القراءة أجمل نوافذ الإطلال على العالم فاقرأ. وأجمل التمنيات لإيهاب الملاح ولدار المعارف والسلسلة العريقة.
*كاتب مصري