زيد خلدون جميل*
لا ينال كل فيلم فرصة إعادة عرضه في دور العرض العالمية بعد عرضه الأول بعدة سنوات، فهذا الشرف للأفلام التي يعدها النقاد والجمهور بالغة الامتياز. وأحد هذه الأفلام فيلم «نادي القتال» Fight Club (1999) الذي أعيد عرضه هذه السنة بمناسبة مرور خمسة وعشرين عاما على أول عرض له. وقد أثار الفيلم جدلا واسعا حول أحداثه وتأثيرها على المشاهدين. وجعل هذا الفيلم النجم براد بت من أشهر نجوم السينما الأمريكية، على الرغم من أن الممثل أدورد نيوتن كان الممثل الرئيسي فيه.
أحداث الفيلم
تدور أحداث الفيلم حول موظف (أدورد نيوتن) في شركة تأمين يشكو من وحدة بائسة وأرق مزمن واحتقار لحياته، إذ يشعر بأنه عديم الأهمية، وتحت ضغط مستمر من قبل إدارة الشركة التي يظن أنها تغش الجمهور. وللتخفيف من كآبته يقوم بزيارة جلسات المصابين بأمراض قاتلة، لاسيما السرطان، حيث وجد نفسه يشعر بالراحة بينهم، على الرغم من عدم شكواه من أي أمراض. ويلاحظ أن شابة تدعى «مارلا» (هيلينا بونهام كارتر) تحضر الجلسات نفسها، ومن الواضح أنها لا تعاني من شيء، فيتعرف عليها ويتبادلان أرقام هاتفيهما.
يتعرف أثناء وجوده على متن طائرة في طريقه إلى مدينته على بائع صابون، يدعى «تايلر دردن» (براد بت). ولدى «تايلر» كل ما ينقص الموظف، فهو بالغ الوسامة وقوي البنية وشرس الشخصية. وما ان يصل الموظف إلى المبنى الذي يسكن فيه حتى يكتشف أن انفجارا قد حطم شقته. ولذلك يتصل بـ»تايلر» كي يقضي الليلة لديه. ويوافق «تايلر» بشرط أن يضربه الموظف الذي يقوم بذلك بعد تردد، لتبدأ معركة بين الرجلين يستمتعان بها. وينتقل الموظف للسكن مع «تايلر» في منزله الضخم القديم، الذي يبدو مهملا منذ عقود. ويؤسس الاثنان ناديا سريا لهواة القتال من أجل المتعة، حيث يحدث فيه قتال وحشي يقوم به رجال نصف عراة. ويكتشف الموظف أن «تايلر» يصنع الصابون من دهون بشرية ترميها المستشفيات ثم يبيع الصابون، دون الكشف عن مصدر الدهون المستعملة. وسرعان ما يطغى «تايلر» على علاقتهما ويزداد عنفا وشراسة، ويتعرف على «مارلا» عن طريق الموظف ويقيم علاقة جنسية معها حيث يجلبها إلى مسكنه. وعندما يراها الموظف في المسكن يسألها عن ما تفعله هناك مما يثير انزعاجها.
يبلّغ «تايلر» الموظف أنه من قام بتفجير شقته، كما يكتشف الموظف أن «تايلر» أسس تنظيما سريا داخل النادي، كما أسس فروعا في عدة مدن أمريكية رئيسية. وهدف التنظيم السري تفجير المؤسسات المالية وشركات بطاقات الاعتماد كي تتلف سجلاتها وتلغى ديون من تعامل معها. ويثير هذا رعب الموظف، فيحاول البحث عن فروع النادي لإقناع الأعضاء بعدم الانخراط في هذا العمل، دون نجاح. وعندما يذهب إلى الشرطة يكتشف أن بعضهم قد انضم إلى التنظيم السري، ويبلغونه أنه قد حذرهم من احتمال قدومه لإقناعهم بالعدول عن القيام بأي عمل عنيف مما يثير استغرابه. ويحاولون الإمساك به، إلا أنه يهرب ويذهب إلى أحد فروع النادي، حيث يبلغه أحد الأعضاء أنه قد أتى بنفسه قبل عدة أيام وأبدى إعجابه بإجراءاتهم. وهنا يكتشف الموظف أن «تايلر» في الحقيقة شخصية من وحي خياله، أي أنهما شخص واحد، حيث كان يتقمص شخصيته دون وعيه حتى أنه كان من فجر شقته أصلا. ويذهب الموظف إلى بناية عالية تشرف على المؤسسات المالية ويظهر «تايلر» الذي يبلغه أن التخلص منه مستحيل لأنه في عقله. ويفكر الموظف بطريقة لقتل «تايلر» للتخلص من شره، فيطلق النار على نفسه، وإذا بـ«تايلر» يسقط ويختفي، إلا أن الموظف لا يموت، بل يصاب بجرح في وجهه بسبب الرصاصة. وإذا ببعض أعضاء النادي يجلبون «مارلا» فيطلب الموظف منهم تركهما بمفردهما. ويشرح الموظف لـ»مارلا» كل شيء. وفي هذه اللحظة تحدث انفجارات ضخمة في المؤسسات المالية على مرأى من الموظف و»مارلا».
تحليل الفيلم
وصف النقاد الفيلم بأنه فلسفي ويدعو إلى استقلال الإنسان وحريته ورغبته في الثورة. لكن الفيلم غير ذلك تماما. ولنأخذ ما تناوله بشكل مفصل. امتاز الفيلم بأنه خيالي ومليء بالرموز، فلا نعلم أبدا اسم الموظف. ولم يكن ذلك صدفة، إذ كان الغرض الإفراط في إظهار دونيته وعدم أهميته، كما جعله هذا يمثل كل من شعر بمشاعر الموظف. ويبين الفيلم أن الموظف يشكو من عيوب واضحة في شخصيته، فلديه شعور مزمن وحاد بالدونية والوحدة والكآبة والجهل بما عليه أن يفعل كي يتلاءم مع واقعه ومحيطه. ولذلك، فإنه يشعر بالراحة بين المرضى بالسرطان، حيث إنهم الوحيدون الذين يجعلونه يشعر بأنه أفضل منهم. ويتخيل الموظف شخصا يملك ما لا يملكه، هو «تايلر» وسيم وشجاع وغير مستقيم ورياضي ويفرض إرادته على الآخرين، أي أن الموظف يتخيل ما يتمنى أن يملكه هو. وهذه الحالة مرض نفسي نادر يعرفه علماء النفس جيدا، وقد أعطوه اسما علميا، ويعاني المصابون به من انفصالهم عن الواقع. لكن ما ظهر في الفيلم نسخة غير واقعية من ذلك المرض النفسي. وكان تفجير شقة الموظف رمزا لنهاية حياته السابقة، وبداية حياته الجديدة مع الشخصية الخيالية «تايلر». أما سبب كون منزل «تايلر» قديما، فلكونه يرمز إلى احتقار «تايلر» لمعايير المجتمع بالنسبة للمظاهر.
ليس الموظف و»تايلر» بالاختلاف الذي قد يظنه المشاهد، فهما يشتركان في عدم الاستقامة، فالاثنان يغشان في عملهما، وإذا كان «تايلر» متوحشا، فالموظف يفتعل مشكلة لمديره ويقوم بابتزازه. وإذا كان «تايلر» ساديا وعدائيا، فسبب ذلك أن هذه الصفات كان الموظف تواقا لها. لم يدافع الفيلم عن استقلال المواطن، بل العكس تماما، حيث يفقد أعضاء التنظيم شخصيتهم الفردية تماما، إلى درجة أنهم يمنعون من استعمال أسمائهم، بل لكل منهم رقم. ويتحولون جميعا إلى قطع في ماكنة ضخمة وهي التنظيم. والسبب هو أن الموظف الذي كان يحتقر نفسه لدونيته تخيل «تايلر» الزعيم وتقمص شخصيته. وأما الثورة، فلا توجد ثورة في الفيلم، بل كانت عملا تخريبيا يمكن وصفه بالإرهابي لأن هدف الثورة تحسين المجتمع لا تخريبه بشكل شامل. إذا وجد هواة السينما أن الفيلم يبدو مألوفا بعض الشيء، فهم على حق، بسبب التشابه الكبير بينه وبين الفيلم الشهير «جوكر» الذي كان «آرثر فليك» (يواكين فينيكس) يعاني فيه من وضاعة مكانته، فيتحول إلى زعيم في شخصية «جوكر».
ما أثار إعجاب الكثيرين، لاسيما الرجال بشكل لا إرادي في الفيلم، كان مشاهد العنف المفرط لأعضاء النادي. وليس هذا جديدا، إذ كان سبب إعجاب الجمهور بفيلم «المصارع» Gladiator مشاهد العنف في القتال. وكان هذا الإعجاب كبيرا إلى درجة أن الجمهور لم يشعر بقصة الفيلم غير الواقعية والهزيلة في كلا الفيلمين. والسؤال هنا لماذا يثير العنف أعجاب الجمهور بشكل عام والرجال بشكل خاص، فماذا يغذي هذا العنف ويكشف في شخصية المشاهد؟ هل هنالك جانب متوحش في شخصية المرء، لاسيما الرجل، مما يجعل المرء تواقا إلى إظهاره لمجرد كونه متوحشا؟ أو أن الفيلم يكشف عن شخصية سادية ومريضة في شخصية المشاهد؟ هذه الظاهرة غير مطمئنة في أي مجتمع، وتدل على أن الشعوب ليست بالتحضر الذي تدعيه على الإطلاق. حاول المخرج في بداية الفيلم أن لا تظهر الاختلافات بين الموظف و»تايلر» ثم أخذ الاختلاف يبدو أكثر وضوحا مع تطور الأحداث. ولتحقيق ذلك طلب المخرج من الممثل أدورد نورتن (الموظف) التقليل من طعامه بشكل كبير أثناء التصوير كي يبدو مرهقا وضعيفا، بينما طلب من «براد بت» ممارسة الرياضة وتعلم فنون القتال كي يبدو قويا وشرسا، بالإضافة إلى ذلك أرتدى أدورد نورتن ملابس ذات ألوان باهتة، بينما ارتدى براد بت ملابس ذات ألوان صارخة. ولجعل تأثير الفيلم أقوى على المشاهدين كان التصوير ليليا دائما تقريبا، كما استعمل المخرج موسيقى تثير انزعاج المشاهد. من الغريب في الأمر أن دور «مارلا» (هيلينا بونهام كارتر) كان عديم التأثير على الأحداث، مما يعطي الانطباع بأن وجودها كان لإضافة وجه نسائي فحسب. ومن الممكن هنا انتقاد المؤلف والمخرج حيث كان عليهما ابتكار دور أكثر تأثيرا لها.
لم يكن فيلم «نادي القتال» أول فيلم حول هذا المرض النفسي، فقد سبقته عدة أفلام شهيرة كان أولها «الدكتور جيكل والسيد هايد» بنسخه العديدة التي كان أشهرها من إنتاج عام 1941 وتمثيل سبنسر تريسي. ومن الأفلام الأخرى التي تناولت هذا الموضوع فيلم «الرجل الذي طارد نفسه» (1970) الذي كان من تمثيل روجر مور، وفيلم «أنا ونفسي وآيرين» (2000) للممثل جيم كاري.
*مؤرخ وباحث من العراق