الأردن والجزائر نموذجان

الفساد في العالم العربي.. متمأسس ومتمكن - إبراهيم غرايبة*

خدمة شبكة الأمة برس الأخبارية
2012-08-07

ربما يكون المدخل الصحيح لفهم الفساد في الوطن العربي هو ملاحظة درجة المؤسسية والعبقرية في عمله ووسائله وحيله حتى يكاد يكون عصيا على محاولات مكافحته مهما كانت جادة وصادقة، وحتى حين تتبنى هذه المكافحة جهات عليا في الدولة، فما تكشفه وسائل الإعلام ومناقشات السياسيين والمجالس النيابية من وقائع الفساد تدل على انتشار فظيع للفساد وقيمه وممارساته في مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والسياسية.

وأصعب ما يواجه الإعلامي الجاد والحر في الوطن العربي هو البحث في موضوع الفساد ودائما ما يكون أسهل منه بكثير توجيه النقد السياسي والمعارضة السياسية للحكم والتوجهات العامة، والمسكوت عنه أكبر بكثير مما ينشر.

وقد يبدو الفساد وكأنه أكثر حضورا وتجذرا في مصر من بين الدول العربية ثم المغرب ولبنان والأردن، ولكن حقيقة الأمر تعود إلى حرية النشر والإعلام النسبية، وقد تكون حصة ما ينشر عن الفساد متناسبة طرديا مع حرية الرأي والنشر.

الفساد مشكلة عالمية

ربما يكون الفساد أكبر المشكلات العالمية التي تجمع المؤسسات المحلية والدولية على اعتبارها العقبة الرئيسة أمام الإصلاح والتنمية والاستثمار الصحيح وسببا مهما لتنامي أعمال المخدرات والمافيات، ورغم أن معظم الحكومات والقيادات السياسية تعلن أن برنامجها هو مكافحة الفساد، فإنه (الفساد) يظل عمليا غائبا عن برامج الحكومات والمؤسسات المختلفة، ذلك أن القضاء على الفساد ليس قرارا يتخذ، ولكنه منظومة من الأعمال والإصلاحات وإعادة بناء لأنظمة المجتمعات والدول التعليمية والاجتماعية والإدارية والوطنية.


تعود أهم أسباب الفساد المباشرة إلى أخطاء في تعيين الموظفين وضعف أنظمة المحاسبة والتحري الداخلية

وقد نشرت جامعة كاليفورنيا دراسة مهمة لروبرت كليتجارد بعنوان "السيطرة على الفساد"، ويلاحظ كليتجارد أن الفساد كموضوع لم يدرس إلا قليلا، وأنه موضوع يتحاشى الناس ذكره ويتجنبون الخوض فيه ويعتقدون أنه لا يمكن عمل شيء تجاهه، أو كما وصفه الزميل حافظ الشيخ "الحاضر الأكبر والغائب الأكبر".

يوجد الفساد عندما يحاول شخص وضع مصالحه الخاصة فوق المصلحة العامة أو المثل العامة التي تعهد بخدمتها على نحو محرم أو غير مشروع، ويأتي على أشكال شتى، ويتراوح بين الأمور التافهة والأعمال الكبيرة جدا، فهو يشمل سوء استخدام أدوات السياسات العامة وتنفيذ القوانين والعقود، وقد يكون في القطاع الخاص أو القطاع العام، وأصبح الفساد في بعض الدول مؤسسات منظمة.

وقدرت في الفلبين خسائر الدولة من الإيرادات الضريبية بسبب الفساد بحوالي 51%، وذكرت دراسة أكاديمية في الأردن أن 22.5% من أوقات الموظفين تستنزفها أعمال لا يصح القيام بها في أثناء العمل، ومثلها لأعمال من الواضح أنها غير مجدية وتضيع وقت العمل مثل شرب الشاي والقهوة وقراءة الصحف، أي أن حوالي نصف أوقات الموظفين تذهب هدرا، وقدرت إنتاجية الموظف في مصر بـ27 دقيقة فقط يوميا.


دلت دراسات أجريت في تايلند وإندونيسيا والهند وكوريا أن الحكومات تدفع ما بين 20 و60% زيادة على الأسعار التي ينبغي ألا تدفعها، ومرد هذه الزيادة في قيمة السلع هو الفساد، واضطرت منظمات الغوث الدولية في دول أفريقية إلى دفع رشى كبيرة لمسؤولين كبار لأجل السماح بإيصال المعونات إلى الفقراء

ودلت دراسات أجريت في تايلند وإندونيسيا والهند وكوريا أن الحكومات تدفع ما بين 20 و60% زيادة على الأسعار التي ينبغي أن تدفعها، ومرد هذه الزيادة في قيمة السلع هو الفساد الذي أصبح يوضع في كلف الإنتاج والتسويق، واضطرت منظمات الغوث الدولية في دول أفريقية إلى دفع رشى كبيرة لمسؤولين كبار لأجل السماح بإيصال المعونات إلى الفقراء، ودفعت دول ثمنا باهظا على شكل كوارث إنسانية واجتماعية واقتصادية بسبب الفساد المؤدي إلى الإهمال والتساهل في إجراءات السلامة في مبان وسدود ومشروعات اقتصادية كبيرة.

ويلاحظ صموئيل هينغتنتون في كتابه عن التطور السياسي أن ثمة ظروفا وحالات ينتعش فيها الفساد الحكومي مثل النمو السريع والتحديث الذي تتعرض له بعض الدول وذلك بسبب تغير القيم ومصادر الدخل والقوة والتوسع الحكومي، ويزيد الفساد أيضا في الدول التي تغلب فيها المصالح التجارية الأجنبية.

إن معالجة الفساد تكون بمنهجية شاملة تستهدف محاصرته والتعامل مع أسبابه ومكوناته، فالفساد أساسا يقع عندما يكون الاحتكار والقدرة على التصرف ولا تكون ثمة مساءلة، والعلاج يقع في الشفافية الإدارية والمالية والمحاسبة والمتابعة واختيار الأمناء دائما وتعديل المكافآت والحوافز والعقوبات وتطوير أنظمة المعلومات والتحري.

ويقدر الخبراء أن الفساد يرتبط بالبيئة المشجعة والمخاطر المترتبة عليه، ولذلك يمكن دون معلومات ميدانية تقدير حجم الفساد إذا أمكن الإجابة على أسئلة من قبيل:
إلى أي حد تلتزم الإدارة بنظام قوي للمراقبة الداخلية؟ هل هناك نظام مناسب لكتابة التقارير بين الوحدات التنظيمية؟ ما درجة الأمانة والكفاءة لدى الموظفين؟ هل السياسات والإجراءات واضحة؟ هل السلطات محددة وموزعة بطريقة صحيحة؟ وهل إجراءات الميزانية وإعداد التقارير تطبق على نحو سليم وفعال؟ هل يترتب على المخالفات والفساد مخاطر وعقوبات معقولة؟.

وتقوم الشركات وهيئات المعونة الأميركية والأجنبية بتوجيه عقود استشارية ضخمة نحو طبقة معينة من السياسيين ورجال الأعمال والناشطين (من الحكومة والمعارضة) وتمرير عقود وصفقات وهبات ومنح وتوكيلات وبخاصة في مشروعات البنية التحتية والاتصالات والمعلوماتية وفي المنح والمعونات الموجهة لخلق نخبة سياسية تمرر مشروعات الخصخصة والاندماج في منظومة الثقافة الغربية وأنماط الحياة والاستهلاك.

الأردن والجزائر.. صدمات الفساد والأرقام المذهلة

الأردن والصدمة

يعيش الأردنيون صدمة كبيرة مذهلة شغلتهم منذ أربعة أشهر ولم يفيقوا منها بعد، ولم يدركوا بعد حجمها وأبعادها وتداعياتها ومتوالياتها من التحولات والصدمات والمكاسب والخسائر، فقد حجزت أموال وممتلكات حوالي مائتي شخص من رجال الأعمال وضباط المخابرات والمسؤولين الكبار وأقاربهم وزوجاتهم وأبنائهم وبناتهم وقدمت إلى محكمة أمن الدولة دعاوى باختلاس مئات الملايين من أموال البنوك والمؤسسات العامة، ولكن النقاشات والحوارات التي تدور والتسريبات التي تصل إلى وسائل الإعلام والديوانيات تثير الحيرة والريبة، فما يجري ليس واضحا تماما.

هل اختلست مبالغ تفوق المليار أم أنها فقط مائة مليون؟ هل ما يجري هو بالفعل مكافحة حقيقية للفساد؟ فلماذا الإصرار الغريب على منع تشريع لمكافحة الكسب غير المشروع وحبس مشروع القانون في أدراج مجلس الأمة لأكثر من 12 سنة حتى اليوم؟ وماذا عن الفساد الكثير المنتشر والمعروف والمتمأسس والمتمكن؟ وهل سيحاكم المفسدون بالفعل؟ وهل كانت المحاكمة ابتداء عملا وطنيا في سياق المحاسبة والمتابعة أم أنه مطلب أميركي لمنع تسرب أجهزة تقنية متقدمة إلى العراق والسودان؟ وهل ستنتهي القضية في إطار منع تسرب التقنية إلى بلاد لا ترغب الولايات المتحدة في حصولها عليها؟.

ثم يخرج أبطال الفساد مثل طائر العنقاء أبطالا منقذين ومسؤولين مرة أخرى وتنتهي الزفة مثل سابقة لها جرت قبل 11 عاما حين كانت محاكمة الفساد عملية إعلامية وحفلة برلمانية نقلت في بث مباشر على التلفزيون ثم انتهت التظاهرات والاحتفالات وأسدل الستار على انهيار بنك البتراء وصفقات ومشروعات واختلاسات وانتهاكات، وفض المهرجان وانتفض الأبطال الذين كنا نظنهم فاسدين فإذا هم مسؤولون ومستشارون كبار، كبار جدا، وكأنه لا أحد يموت في الأردن إلا الأردنيون، وكأن المحاكمة ليست إلا عملية غسل للفساد وصيانة جديدة للأبطال الذين أنعم علينا القدر بهم، وماذا سيحل بنا لو تقاعدوا أو شبعوا أو تعبوا؟. ربما نموت جوعا، أو يعود نهر الزرقاء يجري في وسط عمان والزرقاء كما كان من قبل فنعود نزرع القمح والخضار ونشرب ماء حقيقيا وتفوتنا فرصة التحديث وما بعد التحديث ونعمة الآي تي (تكنولوجيا المعلومات).


قدرت مصادر إعلامية وسياسية في أوائل التسعينيات حجم الاختلاسات في الجزائر بـ26 مليار دولار ولكن رئيس الوزراء آنذاك مولود حمروش نفى ذلك وقال إن حجم الاختلاسات لا يتجاوز ثلاثة مليارات دولار!

وترد أهم أسباب الفساد المباشرة إلى أخطاء في تعيين الموظفين وضعف أنظمة المحاسبة والتحري الداخلية، فقد اقتصرت -على سبيل المثال- المبالغ المختلسة التي اكتشفها ديوان المحاسبة في الأردن على ما بين 1.25 و6 ملايين دولار سنويا، ويشكو الديوان في تقريره السنوي الذي يقدمه إلى مجلس النواب من محدودية صلاحياته وقدراته على المساءلة والمتابعة، وهذا في الوقت الذي تقدر قيمة الاختلاسات في قضية الفساد الكبرى التي أثيرت مؤخرا وتسمى قضية "التسهيلات المصرفية" بـ150 مليون دولار.

وتبين أن مكاتب الرقابة الداخلية التي شكلت في الوزارات والمؤسسات شكلية وتستند إلى موظفين ضعاف أو أصدقاء يغطون على المخالفات الإدارية والمالية.

ويرتبط الفساد بثقافة وممارسات أخذت طابع الاعتياد والقبول، بل تعد أمراً طيباً مثل المحسوبية ومعاونة الأقارب والأصدقاء في الحصول على امتيازات ومصالح غير مشروعة.

الجزائر: فساد هائل
وقدرت مصادر إعلامية وسياسية في أوائل التسعينيات حجم الاختلاسات في الجزائر بـ26 مليار دولار، ولكن رئيس الوزراء آنذاك مولود حمروش نفى ذلك وقال إن حجم الاختلاسات لا يتجاوز ثلاثة مليارات دولار!! ويبدو حمروش ليس موضع سخرية إذا قورن هذا المبلغ بما حصل عليه أبناء سوهارتو رئيس إندونيسيا الأسبق، إذ بلغ عدد الشركات التي يسيطرون عليها 207 شركات يبلغ حجم أصولها رقما خياليا يكاد لا يصدق.

وقال الرئيس الجزائري في خطابه إلى مواطنيه إن الجزائر بلد مريض بالفساد، ولا تخلو خطابات التكليف الملكي في الأردن للحكومات التي تشكل من ضرورة مكافحة الفساد والمحسوبية والترهل، وأنشئت بالفعل في الأردن إدارة لمكافحة الفساد لها صفة الضابطة العدلية، هذا إضافة إلى مؤسسات الرقابة المالية والإدارية المشكلة من قبل، ولكن المراقب والمتابع لما يدور يلمس بوضوح حجم المحسوبية واستغلال النفوذ والتحالف الفظيع بين الحكومة ورجال الأعمال لمواجهة حقوق المواطنين والمشروعات الصغيرة، فسيارات النقل العمومي منحت رخصها لموظفين حكوميين من الحكام الإداريين والمسؤولين الذين يبيعونها بمبالغ هائلة أو يؤجرونها لسائقين محدودي الدخل!.

وأجرت أراض زراعية واسعة بمبالغ زهيدة جدا لرجال أعمال وشركات في حين يكاد يكون مستحيلا على المواطن العادي أن يتصرف بأراضي الدولة على نحو ما حتى لو مقابل ثمن يدفعه، وتشكل أراضي الدولة معظم مساحة البلد.

ويذكر النائب اللبناني نجاح واكيم في كتابه "الأيادي السوداء" الذي جاوزت طبعاته المتتالية 30 طبعة أن الفساد في لبنان سياسة واضحة الأهداف ويتحدث عن 59 شركة عقارية "عائلية" بعضها وهمي تلقت قروضا حجمها 73 مليار ليرة.

وربما لا تكون مصر أسوأ من غيرها من الدول العربية، ولكن الحرية النسبية للصحافة وقوة المجتمع المدني "نسبيا" وعراقة المجتمع والدولة تتيح معرفة الكثير، "والمخفي أعظم" من قصص الثراء غير المشروع مما تعرضه الصحف والأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية والمحاكم. ويذكر بيان إحصائي أن 141 مليون دولار من القروض الخارجية أنفقت في مصر تحت بند "العلاقات العامة"، وكانت المخالفات عام 1998 حسب التقرير السنوي للنيابة الإدارية 43 ألف قضية.

الفساد.. الآليات والوسائل


يوجد في الأردن ما يقرب من مليون رقم هاتف نقال، وعدد السكان خمسة ملايين ثلثاهم على الأقل في المدارس أو قبل سن المدرسة

يعتقد الدكتور محمود عبد الفضيل أن حجم الفساد في الوطن العربي ازداد في المعاملات اليومية، وتشابكت حلقاته وتنامى إلى دوائر كثيرة في الحياة والإدارة إلى درجة لم يسبق لها مثيل مما يهدد مستقبل المجتمع العربي في الصميم ويدعو إلى القلق والفزع!.

ويكتشف تقرير منظمة الشفافية العالمية أن الشركات الدولية وعلى رأسها الأميركية قدمت رشى في الدول النامية ومارست ضغوطا سياسية ودبلوماسية لتمرير أعمالها وخدمة مصالحها. وتتقاضى أعداد كبيرة جدا من الموظفين الحكوميين في أنحاء العالم رواتب منتظمة من الشركات الأجنبية ومن بين هؤلاء سياسيون كبار.

وقال وزير التجارة الأميركي وليم ديلي إنه تم اكتشاف رشى قدمتها شركات أميركية خارج الحدود في الفترة الممتدة من مايو/ أيار 1997 إلى أبريل/ نيسان 1998 (سنة واحدة) تصل قيمتها إلى حوالي 30 مليار دولار، ولا تعتبر الإدارة الأميركية الرشى والعمولات والهدايا التي تدفع في العالم الثالث من الفساد الخاضع للمحاسبة.

ويعرض الدكتور محمود عبد الفضيل أشكالا وصيغا من الفساد طبقت في الدول العربية مثل: التهريب الضريبي، وتخصيص الأراضي عبر قرارات إدارية علوية تأخذ شكل العطايا لتستخدم في ما بعد في المضاربات العقارية، والمحاباة والمحسوبية في التعيينات الوظيفية الكبرى، وإعادة تدوير المعونات الأجنبية للجيوب الخاصة حيث يقدر أن 30% منها لا تدخل خزينة الدولة وتذهب إلى جيوب مسؤولين، وقروض المجاملة التي تمنحها المصارف دون ضمانات جدية وغالبا لا تسدد، وعمولات عقود البنية التحتية وصفقات السلاح، والعمولات والإتاوات التي تحصل بحكم المنصب أو الاتجار بالوظيفة العامة، ورشوة رجال الصحافة والنيابة والقضاء والأمن لتسهيل مصالح غير مشروعة.


الفساد.. التداعيات والنتائج

ربما لا تكون أخطر نتائج الفساد هي هدر المال العام والخاص، ولكنه الخلل الذي يصيب أخلاقيات العمل وقيم المجتمع، فتضعف المؤسسات الحكومية ويتراجع أداؤها، ويكاد يكون مفروغا منه في الأردن أن المؤسسات الصحية والتعليمية الرسمية لم تعد قادرة على أداء مهماتها، وهي في العاصمة عمان أضعف بكثير من القطاع الخاص، وإذا واصلت عملها في هذا المسار فإنها ستصل إلى الانهيار والتوقف في غضون سنوات قليلة لا تتجاوز عشر سنوات. وأما حكايات الدروس الخصوصية في مصر فهي من الوضوح والعلنية إلى درجة تؤكد الإفلاس التام للمؤسسة التعليمية الرسمية، هذا رغم الإنفاق الكبير "نسبيا" الذي يدفع في قطاعي التعليم والصحة، وجيوش الموظفين والمعلمين والأطباء المكدسين في وزارتي التعليم والصحة.


الشركات الدولية قدمت رشى في الدول النامية ومارست ضغوطا سياسية ودبلوماسية لتمرير أعمالها وخدمة مصالحها، وتتقاضى أعداد كبيرة جدا من الموظفين الحكوميين في أنحاء العالم رواتب منتظمة من الشركات الأجنبية ومن بين هؤلاء سياسيون كبار

لقد ارتبطت حياة قطاع كبير من المجتمعات بالدخول السرية التي مصدرها الفساد، وأصبحت دخلا أساسيا تقوم عليه ترتيبات في الحياة لا يمكن الاستغناء عنها كالسكن والتعليم والعلاج أو أخرى إضافية كالسيارات الخاصة، وسيكون صعبا أو مستحيلا على هؤلاء إعادة ترتيب حياتهم والتزاماتهم على أساس دخولهم الشرعية الحقيقية، وهكذا فقد تشكلت دورة حياة ودخول وعلاقات اقتصادية واجتماعية قائمة على الفساد.
وبلغ من جرأة المشرعين والمسؤولين أن قانون مكافحة الكسب غير المشروع الذي أعده مجلس النواب الأردني عام 1990 ظل حبيس أدراج مجلس الأعيان أكثر من ثماني سنوات ثم أعيد إلى النواب ليستثنى منه النواب والأعيان، ورغم ذلك لم يقر القانون وألغي المشروع نهائيا، فإذا كان هؤلاء يزعجهم قانون يعلمون تماما أنه يمكن تعطيله والتحايل عليه مثل عشرات ومئات القوانين والأنظمة الأخرى السارية المفعول رسميا لكنها لا تكاد تطبق.

وكأن النواب والأعيان (مجلس الأمة) يقولون للمواطنين وللناخبين إنهم يرفضون علنا وبصراحة أن يحاسب مسؤول على سرقاته واختلاساته أو أن يلزم بالكشف عن مصادر دخله، هذا في الوقت الذي مرر النواب والأعيان قوانين خطيرة تمس الحريات والحقوق وتذبحها ذبحا بسرعة قياسية.

وبالطبع فإن إنجاز قانون مكافحة الفساد والكسب غير المشروع ليس بالضرورة كافيا لوقف نهب المال العام واستغلال الوظائف على نحو فجائعي، فثمة قوانين كثيرة، بل حتى الدستور لا يجد احتراما ولا يملك هيبة.. وماذا سيكون موقف المواطن وشأنه حتى يتأكد أن القانون في سبات عميق وليس موضع تنفيذ.. ستضيع بالتأكيد الحدود بين المصلحة العامة والخاصة، وسيتخلى المواطن عن احترامه للمؤسسات والقوانين والمحاكم وثقته بها.

وفي النتائج المباشرة فإن الفساد والتهرب الضريبي يزيدان عجز الموازنة العامة ويضعفان مستوى الإنفاق العام على السلع والخدمات الضرورية، فترتفع تكاليف الخدمات والتكوين الرأسمالي، وقدرت الزيادة في هذه التكاليف بما بين 20 و50% فوق التكلفة الأصلية المفترضة.

أفكار لمعالجة الفساد

مهما يكن تغلغل الفساد وعبقريته فإن الاعتقاد بعدم جدوى مكافحته هو ترف يجب تجنبه، فلا يملك المشتغلون بالإصلاح والنهضة سوى العمل في أي ظرف، وقد تكون أعمال مكافحة الفساد مشروعا نبيلا غبيا ولكنها الخيار الوحيد الذي يبقي جذوة المقاومة والأمل حتى تكون الأجيال والأمم عندما تتهيأ الفرصة لهزيمة الفساد قادرة على اقتناصها وتوظيفها.

وثمة أفكار واقتراحات ووجهات يمكن العمل عبرها لكشف الفساد أو تخمينه وتقديره، منها ما ورد في كتاب "السيطرة على الفساد" الذي سبق ذكره في بداية المقال، وثمة اقتراحات وأفكار عملية للدكتور محمود عبد الفضيل مثل المراصد الإعلامية والمعلوماتية التي تستخدم المصادر المتاحة من الصحف والتقارير الرسمية لمتابعة وملاحظة مجموعة من الأعمال والبرامج والعقود مثل:


الفساد والتهرب الضريبي يزيدان عجز الموازنة العامة في الأردن، ويضعفان مستوى الإنفاق العام على السلع والخدمات الضرورية فترتفع تكاليف الخدمات والتكوين الرأسمالي، وقدرت الزيادة في هذه التكاليف بما بين 20 و50% فوق التكلفة الأصلية المفترضة

عقود وصفقات السلاح.

عقود البنية التحتية (الطرق والاتصالات والكهرباء والمياه والمباني الكبيرة).
عقود النفط (التكرير والتنقيب والنقل والتوزيع).
العقود الاستشارية الكبرى.
التوكيلات التجارية.
التداخل (القرابة والنسب والشراكة) بين شاغلي الوظائف العليا الإدارية والسياسية وعضوية مجالس الإدارة في الشركات المحلية والأجنبية.
ملاحظة أهمية وقيمة والدور الحقيقي والجدوى لمناصب المستشارين الإداريين والقانونيين والإعلاميين والشرعيين (في موجة التدين والاستثمار في التوجه نحو الدين) ومدى التداخل بين أصحاب هذه المناصب ووظائفهم الأصلية في الدولة والشركات والعمل العام.
نمط توزيع أموال هيئات المعونة والمنح الأجنبية.
وهناك وجهات عامة في الإصلاح مثل:

العدالة وقيم المساءلة والمراقبة العامة والإعلامية والوضوح السياسي والإداري والإعلامي.
العدالة في التوظيف والاختيار وتوزيع المناصب والتنافس عليها.
الإنصاف في الأجور والمكافآت وتوفير فرص الحياة الكريمة للموظفين والعاملين بما يبعدهم عن البحث عن مصادر غير مشروعة لتلبية احتياجاتهم، ولكن ابن آدم لو امتلك واديا من ذهب لتمنى ثانيا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.
________________
*كاتب وباحث أردني

 

 
 
 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي