لندن ـ نسرين سيد أحمد - ربما كان الأكثر إلهاما من فيلم «بذرة التين المقدس» وموضوعه وتناوله هو قصة صاحبه المخرج الإيراني محمد رسول آف. جاء الفيلم، الذي عُرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كان لهذا العام، مسبوقا بقصة فرار مخرجه من السلطات الإيرانية، ولشجاعة الفيلم وشجاعة مخرجه، حصل على تنويه خاص من لجنة التحكيم ضمن جوائز المهرجان. ولم تكن الجائزة فقط إشادة بالفيلم، ولكن إجلالا لشجاعة مخرجه وتحديه للسلطات في بلاده إيران. قررت السلطات الإيرانية منع الفيلم قبل صدوره للنور، وأصدرت حكما بالسجن على مخرجه للإساءة لسمعة البلاد، ولكن رسول آف واصل تحديه وتمكن من الفرار من إيران هربا عبر الحدود، ليتنفس المخرج هواء الحرية، وليرى فيلمه النور، ويعرض في المهرجان السينمائي الأهم والأكبر في العالم. وبعد فيلمه «لا يوجد شر» (عام 2020)، الذي جاء مناهضا لعقوبة الإعدام في إيران، وللنظام السياسي الذي يفرضها، والذي حاز جائزة «الدب الذهبي»، أكبر جوائز مهرجان برلين لذلك العام، يأتينا «بذرة التين المقدس» متمما لإدانة رسول آف للنظام الإيراني، مصورا نظاما قمعيا بلغ مرحلة الجنون والبارانويا. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو، ترى ما الذي يمكن لرسول آف أن يقدمه بعد أن خرج من بلاده. أتراه سيحقق نجاحا سينمائيا بعد أن خرج من إيران ونظامها؟ أم هل كان نتاجه الفني مرتبطا بوجوده تحت طائلة النظام الإيراني؟
يبدأ فيلم «بذرة التين المقدس» كما بدأ فيلم «لا يوجد شر» برب أسرة يبدو رجلا عاديا تماما، بل يبدو تقيا ورعا طيبا، ولكن الأمور ليست كما تبدو عليه، ومظاهر الطيبة تلك تخفي شرورا لا ندركها. يبدأ الفيلم بإيمان، رب الأسرة، التي تدور حولها أحداث الفيلم، وهو يصلي ويدعو ويتضرع شاكرا الله، لأنه حصل على أمنية كان يصبو إلى تحقيقها.
يعود إيمان إلى منزله فرحا، ليبلغ زوجته النبأ السعيد. البيت بيت أسرة من الطبقة المتوسطة، يضم الأب والأم وابنتين، على أعتاب الشباب، في الدراسة الثانوية وتتأهبان للجامعة. الغريب في أمر هذه الأسرة أن الابنتين لا تعلمان طبيعة عمل والدهما، الذي أحاطه بسرية بالغة، ولا يعرفان إلا أنه يعمل موظفا حكوميا. ولكن الآن وبعد أن حصل إيمان على ترقية تتطلب الحيطة والحذر والسرية من جميع أفراد الأسرة، أصبح يتوجب على إيمان أن يكشف لابنتيه عن طبيعة عمله حتى يحتاط الجميع. رُقيّ إيمان ليكون قاضيا في المحاكم الثورية الإيرانية، بعد سنوات من العمل كمحقق في القضايا التي تتعلق بأمن النظام.
أصبح إيمان في دوره الجديد هدفاً لمن يصفهم النظام بأنهم المخربين والمعادين للبلاد، ولذا يتعين على جميع أفراد أسرته السرية التامة والحيطة البالغة، وعدم نشر أي شيء على وسائل التواصل الاجتماعي قد يكشف محل إقامتهم أو مكان وجودهم.
لكن الأمر الجلل الحقيقي لا يكمن في الترقي فقط، ولكن في حصول إيمان على مسدس ضمن عهدته الوظيفية الجديدة، هذا المسدس يفترض أن يستخدمه للدفاع عن النفس حال تعرضه للخطر. ولكن هذا المسدس سيلعب دورا بارزا في تطور أحداث الفيلم وفي إظهار مدى جنون النظام وخلله. تأتي ترقية إيمان تزامنا مع المظاهرات والاحتجاجات التي تشهدها إيران، بعد مقتل الشابة مهسا أميني على يد رجال الشرطة. يمكننا أن نقسم بيت إيمان إلى جيلين، الجيل الأكبر سنا، والأكثر محافظة بل المستميت في الحفاظ على الوضع الحالي، ويتمثل هذا الجيل في إيمان ولحد ما في زوجته نجمة، التي تشعر بالفخر لترقي زوجها لمنصبه الجديد، وما يعنيه ذلك من دخل إضافي للأسرة وسعة في العيش، وانتقال لبيت أكبر، وحصول كل من الابنتين على حجرتها الخاصة. إيمان وزوجته يستمدان قيمتهما من النظام القائم. أما الجيل الشاب فيتمثل في ابنتي إيمان، وتعاطفهما مع صديقاتهما اللاتي شاركن في الاحتجاجات، وتعرضن لبطش النظام وقهره، وتستضيف الفتاتان سرا صديقة لهما أُصيبت في الاحتجاجات، ورغم عدم خروجهما للتظاهر، إلا أنهما تدعمان وتؤيدان مطالب المتظاهرين. هما فتاتان عاديتان ترغبان في الاستماع للموسيقى ومواكبة صيحات الأزياء ونراهما في غرفتهما يضعان طلاء الأظافر، كالكثير من الفتيات في عمرهن، لكن البطش الذي يتعرض له الكثير من الشابات في عمرهن على يد الشرطة، يحركهما لتأييد المتظاهرات وحقهن في أن يخلعن الحجاب وأن يعشن في حرية.
«بذرة التين المقدس» فيلم طويل، يقارب الثلاث ساعات، يمضي نصفه الأول في هذه الدراما المنزلية بين جيلين. ولكن الفيلم لا يكشف عن جوهره الحقيقي، إلا في نصفه الثاني، عندما يختفي مسدس إيمان وعهدته الحكومية. يتغير الإيقاع الأسري المنزلي الهادئ، لطابع محموم مجنون.
فحين يفقد النظام سلاحه الذي يحميه، يبدأ البطش والقهر والتنكيل، حتى بأقرب المقربين. يصور الفيلم النظام الإيراني، متمثلا في إيمان، يختبئ خلف سلاحه ويحتمي به، وفور أن يختفي هذا السلاح يختل توازنه، ويظهر مدى ضعفه وهشاشته، ولكنه يخفي تلك الهشاشة بالمزيد من البطش والتنكيل. لا نعرف على وجه اليقين ما إذا كان مسدس إيمان سُرق، أم هل أخذته زوجته، أو إحدى بنتيه، ولكن المؤكد هو أن ضياع هذا المسدس يطلق كل الشرور والجنون اللذين كان إيمان يخفيهما خلف قناع من الورع والتقوى والاتزان. يصبح الأب جلادا يقيم محكمة لأقرب المقربين، بل يعادي الابنتين ويجعل منهما خصمين.
وكما أصبح إيمان الذي يشي اسمه بالصلاح والتقوى، شرسا عنيفا قمعيا في مواجهة ابنتيه حين ظن أنهما مسؤولتان عن ضياع سلاحه، أي هيبته الرسمية المستمدة من النظام، فإن النظام ذاته، الذي يتدثر برداء الورع والتقوى والدين، يصبح قمعيا في مواجهة فتيات يطالبن ببعض الحرية. وكما يحدث لأي ديكتاتور في التاريخ، بمجرد أن يجد سلامته الشخصية على المحك، يبدأ الأب في اتخاذ قرارات عشوائية، منبعها الأساسي الرعب على نفسه، وانعدام ثقته في الجميع حتى في بنتيه. قرارات يمكن تفسيرها على محمل رمزي (لا سيما عندما تنتقل الأحداث إلى قرية الأب، التي يمثل كل ركن فيها مجازا بصريا عن إيران ما قبل ثورة الخميني)، لكن قيمتها تنبع بالأساس من قدرة رسول آف على تحريك الحكاية بقدر كبير من التشويق والمنطق في مستواها الأول، مستوى الأزمة والتفاعل بين الشخصيات، واستخدام عناصر البيئة المحيطة في إيجاد حلول درامية غير معتادة.
في «بذرة التين المقدس» يقدم رسول آف فيلما شجاعا في مضمونه وما يحمله من رسالة، لكن الشجاعة لا تصنع بالضرورة فيلما جيدا، أو يخلد في الذاكرة. هو فيلم يناقش قضية آنية بجسارة، ولكنه متوقع لدرجة كبيرة، منذ مستهله حين نرى إيمان يدعو ويبتهل شاكرا، ندرك أننا أمام رجل يخفي وراء ورعه فسادا، فهذا ما اعتدنا عليه في أفلام رسول آف. لا يقدم الفيلم جديدا فنيا، ولكن لا يسعنا إلا أن ننوه بشجاعته كما نوهت به لجنة التحكيم في كان.