مع السّلامة يا رفح…

2024-06-05

سهيل كيوان

سهاد من سكان مدينة حمد في خان يونس، نزحت من شقتها إلى رفح عندما جرى غزو خان يونس وتهجير سكانها.

نزحت هي وقسمٌ من أقرباء زوجها الذين كانوا قد نزحوا أيضاً في بداية الحرب من غزّة إلى خان يونس، ظناً منهم أنها أكثر أماناً.

تحدّثني سهاد في رسالتها: نزحنا قافلةً من عشرات الأنفس من مختلف الأعمار إلى رفح، إلى مكان مجهول لا نعرف إلى أين نذهب.

توجّهنا إلى قريب بعيد لزوجي، لا أعرف بالضبط ما هي صلة القربى بينهما، ولكن في هذه الظروف، يصبح أي شخص يحمل رائحة من قربى الدّم مهما كانت بعيدة، أقرب مما هي في الواقع بكثير من أيام السّلم، فالحاجة تزيل الكثير من الحواجز بين الناس، هنالك قِيمٌ يجب التمسّك بها، تعرف مدى أهميتها وقت الشدائد سواء كانت صلة القربى، أو الصّداقات القديمة أو النَسَب، وحتى القربى الفكرية الأيديولوجية، التي تتحوّل إلى علاقة شخصية وثيقة.

لدينا خليطٌ مبارك من كلّ هذا، من مختلف التوجّهات الفكرية، لدينا أنصارٌ لجميع الفصائل، كذلك لدينا محايدون ولا يهمُّهم سوى مصادر معيشتهم، ولا يهتمّون إلا بالدائرة الضيقة من حولهم.

قريب زوجي هذا رجلٌ في الأربعينيات من عمره، أسمر البشَرة، شعره أبيض كلّه، كأنّه ولد بهذا اللون، متوسط القامة وممتلئ، رحّب بنا بمحبّة واضحة على وجهه وحركته، انتبهت كيف صار يعدّنا بعينيه من غير أن يحرّك شفتيه، ثم ابتسم كأنما يقول: أين سيدخل كل هؤلاء؟ فبيته مكدّس بأبناء عائلته وبأقرباء وأنسباء، وكي لا نُحرجه، استرحنا حوالي ساعتين، ثم حملنا أمتعتنا ومضينا بحثًا عن مكانٍ آخر.

تنقّلنا من مكان إلى آخر على غير هدى، إلى أن صادفْنا شخصًا لا يعرفنا ولا نعرفه، فتح ذراعيه على وسعهما وراح يرحِّب بنا كما لو أنّه كان في انتظارنا، «أهلا وسهلا بكم حتى لو كنتم ألفاً، الناس لبعضها يا إخوان، نحن أخوة وأهل بلد ومصيرنا واحد، ربنا بعثكم لي كي أكسب بكم أجراً».

قلت لنفسي: ما أجمل القناعات الإيمانية، فهو يريد كسب الأجر من الله في الآخرة، ومتحمّس لفعل الخير.

كان واضحاً أنَّ الرّجل كريمٌ وشهمٌ، وهو يردّد بلا ملل «البيت بيتكم، لوجه الله تعالى، تفضلوا يا عم!».

كلامه يشرح الصّدر في هذه الظروف القاسية، ولكنّ بيته هو المشكلة والمعاناة بحدّ ذاتها.

المكان عبارة عن مكان خفيض السَّقف، استخدم كما يبدو سابقاً كحظيرة أغنام، فوقه طابقان يسكن فيهما الرّجل مع أسرته وعدد من أقربائه النازحين.

فتح الرّجل المكان، في الحقيقة هو أقرب إلى زريبة الأغنام والماعز، ولكنّ المريح هو أنّ أمامه ساحة رملية من عشرات الأمتار المربّعة، وهذا أفضل من لا شيء، وفوراً بدأنا نعمل على ترتيب المكان وإعداده، الرجال في الساحة والنساء والأطفال في الداخل.

القوارض صارت رفيقتنا في الليل والنهار لكثرتها، وكانت شقيقة زوجي من النّوع الذي يخشى الفئران، فلا تمرُّ ساعة إلا وتصرخ فار فار فار… بل إنّ البعض كان يمازحها بأن يصرخَ فار فار فار، وكان خوفها حقيقياً، يشبه الرُّهاب، وكادت تقعَ مشكلة، وتفهّم الجميع وضعها، ولم يعد أحدٌ يمازحها بمثل هذا، بل انتقل عددٌ لا بأس به منهم لإقناعها بأنَّ الفأر لا يشكل خطورة تُذكرـ فهو يخاف ويهرب منّا، الخشية الحقيقية يجب أن تكون من البعوض والقراد والقمل والذّباب، وهي هنا بأحجام كبيرة.

لا أخفي أنّني كنت أخاف مثلها من الفئران، ولكن الفرق أنني أتظاهر بالقوّة، وأسيطر على نفسي إلى حدٍّ ما، ولكنني عند النوم كنت ألفّ كلَّ جسدي بالبطانية، فلا أترك منها أي منفذ، خشية اقتحام فأر لخصوصيّتي.

نصب الرّجال خياماً في ساحة المنزل الخارجية، وأعدّوا حمّامات متواضعة بدائية، ساعدهم في عملهم التُّربة الرّملية.

حماتي معنا، وهي مريضة، ونجد صعوبة في حملها إلى الحمّام المتهالك، الذي تلعب فيه القوارض بكلِّ راحة دون خوف، تعاني حماتي من مرض لم يشخّصه الأطباء بعد، تنخفض نسبة الدّم عندها بشكل مفاجئ، ويضطر أبناؤها لنقلها إلى المستشفى ليضخّوا في جسدها وحدات دم تعويضية، وكانت زيارتنا الأولى إلى مستشفى شهداء الأقصى لأجلها.

تعايشنا مع هذه الحالة، وصرنا ننتظر انتهاء الحرب. ومثل كل الناس، خرجنا إلى الشارع نهتف فرحين يوم أعلنوا عن اتّفاق هُدنة وصفقة، كان الشّعور بالفرح ونهاية الحرب لا يوصف، شعور بالفَخر والألم حتى الدموع، ولم يكن ذلك سوى وهم، فلا يوجد صفقة، ونتنياهو يعرقل أي إمكانية لصفقة، إنه يريد استسلام المقاومة، وهذا لن يحدث.

فجأة، أعلن الاحتلال عن نيته مهاجمة رفح.

هل يعقل هذا؟ ألم يُطمئِنوا الناس بأنهم لن يقتحموا رفح؟

بحسب تحليلات زوجي أنَّ علاقة السّلام بين مصر وإسرائيل، وخشية وقوع أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين يحول دون احتلالهم لرفح، ثم إنّ حلفاء إسرائيل نفسها يناشدونها بعدم اقتحام رفح، بما في ذلك الرئيس الأمريكي جو بايدن.

المشاهد أشبه بيوم القيامة، الناس يفرّون من البيوت والمتاجر، والنازحون يجرّون أقدامهم ويتركون كلَّ شيء وراءهم، يجلسون على جوانب الطرقات، وحممُ القصـف تحيق بهم من كلِّ جانب، لا يعرفون ماذا يفعلون ولا أين يذهبون! شاحنات وعربات تجرّها الحمير والأحصنة، تحمل الناس وأمتعتهم من فراش وأواني قليلة وأعمدة خشبية لنصب الخيام.

اختفى الناس فجأة من الشّارع، نزحوا مجدّداً، اختفى البائعون واختفت بضائعهم، أحد المتبقّين الأواخر أمسك مكبّر صوتٍ وصار ينادي بصوت مقهور «آخر البضايع، مع السّلامة يا رَفح، مع السّلامة يا رفح».

لسوء الحظّ، كان البيتُ الذي استقبلنا ضمن الأحواض السكنيّة التي أعلنوا بوجوب مغادرتها، لأنّها ستكون منطقة قتال.

بدأ الجميع، نحن وضيوفنا ومضيفنا وضيوفه، بالنّزوح ليلاً إلى شاطئ دير البلح، غفا البعض على الكراسي، وعلى الرّمال، بانتظار أن يفرغ الرّجال من نصب الخيام وإعدادها.

بعد أيام فوجئت بزيارة اثنين من أعمامي، نعمان وجهاد، في مكان نزوحي. لم أتوقّع ذلك، الجميع هنا حزين وتشغله هموم الحرب والحياة، زيارتهما منحتني قوة كبيرة: «جئنا خصيصاً للاطمئنان عليك».

عمّي العزيز نعمان استشهد ابنه وهو يبحث عن مياه للشرب، وعمّي جهاد الموسيقي الذي يعشق آلة القانون، استشهد ابنه في واحدة من مذابح الطحين.

عانقتهما وبكيت، وهما يحثّاني على الاستغفار، والقبول في ما كتبه الله لنا.

أعددتُ قهوة على نارٍ أشعلتُها من الكرتون والحطَب، وقدّمتها بكاسات بلاستيكية، عادة أقدّم القهوة وغيرها بفناجين زجاجية بيضاء مُزيّنة بالورود، أحبُّ الورود في تفاصيل كلِّ ما يتعلق في بيتي، وأكره استعمال البلاستيك، وكنت وما زلت من محاربيه.

أحب بيتي في خان يونس وأفتقده وأفتقد زائريه، أفتقد ضيوفنا يجلسون بمحاذاة شباك صالون بيتي الذي تظّله شجرة جوز عين الجَمَل، التي كانت تأخذ حصّة من الحديث دوماً، فالجميع يحبّونها.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي