«الشعر طريق الأبدية»… هاشم شفيق: كان من فوائد المنفى أن أعيش حُرّاً

2024-02-25

حاوره: عبد اللطيف الوراري

لا يمكن الحديث عن الشعريّة العربية قديمها وحديثها، بدون الحديث عن الشعر العراقي في كل الحضارات والأزمنة. لقد كان شعراء العراق، رغم تواريخ الجوع والحرب والنسيان والمنفى والشتات، وقد يكون بفضلها، ملهمين ومبتكرين وأصحاب حكمة وشهوات عظيمة للفنّ والجمال والحياة. إنّك بمجرد أن تذكر أبا الطيب المتنبي، أو بدر شاكر السياب، أو نازك الملائكة، أو حسب الشيخ جعفر، أو سركون بولص، أو سعدي يوسف ـ تمثيلًا لا حصرًا- فأنت تطالع سلاسل الذهب تتلوّى مع مياه الرافدين، وتدرك معنى أن يكون الشعر هو فنّ النسيان ورديف العزلة والفقدان. لا يمكن أن ننسى – بأيّ حال- ذلك الدور العظيم، والمأخوذ بفتنة البدايات دائمًا، الذي أدّتْهُ حركة الشعر الحُرّ وهي تخرج من أرض العراق لتنتشر في كل البلاد العربية، وتحدث أثرا كبيرا ومدهشا في الوعي الشعري. وكان الشعراء الروّاد مُؤسّسين ومتسامحين، وتلاهم جيل الستينيّين الرائع، وفيهم جماعة كركوك، وجيل السبعينيين الذين وسّعوا مشروع قصيدة الحياة، وفتحوا لمن جاء بعدهم آفاقًا بعيدة.

يُعدّ هاشم شفيق من أبرز شعراء جيل السبعينيات الذين تفرّقوا أيدي سبأ ونهبوا من خزين الرؤى والأخيلة والأحلام الأنصع جمالاً، وأكثرهم إسهاماً في تحديث الشعر العراقي، والعربي عامة، من خلال المكاسب والآثار الجديدة التي أرخاها على روح القصيدة وجسدها الحيّ. فمنذ ديوانه الأول «قصائد أليفة»، لم تسكن مُخيّلة هذا الشاعر من أجل البحث عن الحقيقة جماليّاً، وكشف «ما لم يُكشف» بعد، ثُمّ إنه جعل من منفاه في أصقاع العالم قدره التراجيدي ليعيش حُرّاً، ومن بوصلته المترنحة سانحة الرائي المفرد للمضي في طريق الأبدية غير هيّابٍ من أحد.

س: صدرت لك في هذه الأيام أعمالك الشعرية الكاملة: هل هو تخليد أنا الشاعر وتاريخه، خوفا من المجهول، التفاتة إلى الماضي لتشييد مسافة ممكنة بين ما وصل وبين ما انقطع؟

ـ في الحقيقة أني قد أصدرت سابقاً، في عام 2005، الأعمال الشعرية المتمثلة بمجلدين عن إحدى دور النشر العربية، وهذه هي الطبعة الجديدة من الأعمال الشعرية، بعد أن جرّدتها من المقدمة السابقة لشاعر ستيني معروف، وثمة مقدمة أخرى لسعدي يوسف موجودة في ديواني الثاني، أيضاً نحيّتها، وثمة على غلاف المجلدين مقاطع لآراء نقاد وكتاب وشعراء عرب، كل هذه الأشياء مجتمعة نحّيتها وكتبت مقدمة جديدة بقلمي تناسب الزمن الحالي، أوضح فيها سبب هذه الطبعة، والتي سيليها المجلدان الثالث والرابع، وستصدر بعدها مجلداتي اللاحقة عن دار عربية في القاهرة، هي «مؤسسة أروقة» التي احتفت بشعري وتبنّت إصداره كله عنها، جامعاً جهدي الجمالي والفني في هذه الدار الكريمة دون غيرها. هذه الطبعة تتميز بشكل جديد وحجم مختلف، يمكن للقارئ المحب والمتابع أن يقتنيها، وكذلك الناقد والدارس والباحث يستطيع الوصول إليها، فهي سهلة النقل والشحن والحمل، وسعرها مناسب جداً ويختلف عن سعر الطبعة الأولى.

أما بخصوص التخليد وما شابه، فهذه مسألة نسبية، لا أفكر فيها أبداً، بقدر ما أفكر في الذي يطلبها لغرض الدراسة والاطلاع والمتابعة ليس إلا، أما مسألة الخلود وغيرها من جمل ومسميات فهي تقع خارج رؤيتي الفنية، وذلك يعتمد في الحقيقة على ما تنطوي عليه هذه الأعمال من حامل رؤيوي يُمكّنها أن تتخطى الأزمنة، بما تقدّمه من خيال وصور ومعان وأفكار وهواجس تستطيع عبرها تجاوز الأوقات واللحظة الآنية، لتكون خارج البعد الزمني المتعارف عليه، فكل شاعر يطمح أن يمضي إلى طريق الأبدية، أي أن تبقى أشعاره في ما لو رحل عن الدنيا، ماثلة ومقروءة ومطلوبة، مخترقة بقوة رؤاها وباطنها الجمالي وخيالها البارع التواريخ والدهور والأحجبة الزمنية، كما هو متجسد في شعر المتنبي والسياب، وكذلك شعراء المعلقات وغيرهم من الأعمدة الكلاسيكية راسخة البنيان في الشعر العربي.

س: أصدرت باكورتك الشعرية «قصائد أليفة» سنة 1978.. كيف تستعيد تلك اللحظة وحماس الشاب ذي العشرين عاماً، في زمن غير أليف؟

ـ كانت اللحظة قلقة وسعيدة في آن، منذ لحظتها فكرت في أنني أمام مهمة شاقة وعليّ أن أتحمل كل تبعاتها، ومشاقّها وهفواتها ومسراتها وإخفاقاتها، وأواصل المشروع إلى النهاية، مهما واجهني في الحياة من صعاب ومشاكل، وخصوصاً لشخص مثلي لم يكن مستقراً في بلد المنشأ، بل تعرّض باكراً لمسيرة المنفى وعدم الاستقرار في مكان محدد، ربما كانت للمنفى فوائده المتعلقة بالشروط الإنسانية، هو أن تكون حراً، أي ليس عليك «تابو» من أحد، لا من حاكم ولا من قضاء ولا من وصي؛ لذا عشت حراً، أكتب ما أشاء، وأقول ما أشاء وأريد وأبتغي، دون خوف من عيون الرقيب ومقصه، ودون وجل من معين ومساعد وراع، بل الراعي كان هو العقل الحر، والرأي السديد والفكر المتقدم. لم أستخذِ ولم أكن بوقاً لأحد، ولم أرتزق إلا بحدود السعي إلى اللقمة الشريفة، والتي كان من الصعب نيلها في بعض الأحيان. كنت أسعى لأكون أنا قَدْر الإمكان، لذا عوّلت على النقاء والمسيرة الناصعة والدرب الشفاف، غير المدلهم، ومن هنا تقدمتُ في طريقي ولم أهَب ما يُعيق ويُعرقل ويفسد رؤيتي إلى النهج والحياة، ويلوّث مسعاي إلى آلهة الشعر وربّة القوافي. كانت هناك عوائق وأسوار وحواجز ولكنني تخطيتها، ربما وقعت وعثرت خلال مسيري، ولكنني كنت أنهض دائماً.

تحت أفق هذه التصوّرات، واصلت مسيرة الشعر بلا توقف، وكانت «قصائد أليفة» هي المدرّعة التي أختبئ فيها، فواصلت الكتابة في أصعب الظروف، كوني تنقلت في منافٍ عديدة، وواصلت النشر ولم أنقطع عنه أبداً، لا في الصحف ولا في المجلات الأدبية والثقافية. عملت في الصحافة وفي الجانب الثقافي منها، وقليلاً ما عملت في الجانب السياسي، وما أتعسه من جانب، فيه كل فنون الخبث والمراوغة والتفاهة، وكل معاني الارتزاق والاختلال والتشويش على معاني الحياة، وجمالها، وفطرتها الطبيعية.

س: انتبهت من البدايات إلى قيمة البعد الجمالي، بدل الإيديولوجي، الذي كان يسلب الشاعر صوته الفردي، في بناء ممارستك الشعرية، وضمن هذا البعد كان احتفاؤك بالتجريب في جماليات الكتابة، وبالمكوّن السير ذاتي في صميمها، كيف تنظر إلى كتابة ما هو ذاتي في سياق الشعر؟

ـ الكثير من النقاد كان يلاحظ ذلك على شعري، ومنذ البدايات، وهذا ما تعكسه «قصائد أليفة»، ديواني الأول. أجل، لقد كنت منتبهاً أشد الانتباه إلى هذا المنحى، وأعرف شعراء انتهت بهم الأحوال إلى نهايات غير فنية، فكانت قصائدهم عبارة عن مناشير حزبية، وسياسية، ولافتات تحمل مفهوم الخاطرة، واللمحة السياسية المضحكة، والسمجة، والبعيدة أشد البعد عن المفاهيم الشعرية اللغوية، والمكوّنات الفنية-التعبيرية ذات الهدف الجمالي والرفعة الدلالية.

س: ضمن هذا البعد الجمالي، أدمجت شذرات من سيرتك الذاتية في الشعر، كما في عملك «البحث عن الزمن الحاضرـ ديوان السيرة الذاتية». ماذا يبقى من هذه السيرة؟ وإلى أيّ مدى تكون في منطق الشعر سيرة ثانية تعيد وصل ما انقطع في الزمن؟

ـ ديوان السيرة الذاتية المشار إليه، هو نوع من التحدي الشعري، هو نوع من إثارة الإعجاب؛ لقد أثار هذا الديوان إعجاب الراحل سعدي يوسف، وقد كتب عنه الروائي خليل صويلح في صحيفة بيروتية على أنه أول ديوان شعر عربي يتناول السيرة الذاتية. لم أرد أن أنتصر على أحد أو أتحدى أحداً، بل أردت أن أتحدى نفسي، على أنني قادر على كتابة كتاب مثل السِّيَر النثرية المعروفة، ولكن بصيغة الشعر وهنا يكمن التحدي والانتصار الشخصي.

لا أعرف مدى ما سوف يبقى من هذه السيرة، فأنا دائب النهل من حياتي الشخصية، فتجاربي الحياتية كثيرة، وعيشي كان مديداً بين البلدان العربية والأوروبية، وسفري ليس له من توقف، كل هذا يدرّ عليّ مواضيع وخيالات وتصورات ورؤى تعبيرية ليس لها من نهاية. من هنا تأتي غزارتي الشعرية، ومن هنا يأتي تنوّع مواضيعي، وتنوّع أنساقي وأشكالي اللغوية وحتى تنوع الطرائق الشعرية، بحسب النقد الذي تناولني هنا وهناك، ينضاف إليها تنوّع في الرؤى والأفكار والخلجات والهواجس الداخلية.

س: يصدر لك في القاهرة «مغرب مشرق بالمحار»، فهل يتعلق الأمر بعمل شعري ينزع إلى تجسيد تجربة المكان وشعرنته كتابياً، وبالتالي يفتح الشعر على فنون أخرى، تتوسل البصري والبسيط والمهمل؟

ـ في الحقيقة أني أنزع إلى شعرنة المكان، لجعله متحرّكاً مثل الناس الموجودين فيه، كالسوق والمقهى والحانة والشارع والبحر والجبل وغيرها من الأمكنة، هنا أسعى إلى دمج المكان في الزمن؛ بمعنى آخر أجعل المكان يتشيّأ زمنياً، أي أجعل الزمن والمكان يتسايلان، كل يسيل على الآخر، بالمفهوم الرؤيوي، ذلك القابع في المتخيّل، حتى أصل إلى نتيجة التماثل في ما بينهما، فهنا أستطيع التلاشي بين الاثنين، وصولاً إلى حالة الخلق المطلوب. في ديوان «مغرب مشرق بالمحار» هناك أصدقاء يضيئون بوجودهم زمن القصيدة، وهناك معالم تطل، وحكايا وناس يعيشون في عمق القصيدة، وبذلك أصل حين أكمل القصيدة إلى ما أصبو إليه من العناصر البصرية، عناصر هي في النهاية بسيطة ومنسية ومهملة، حينها أصب عليها موجة من الشعر، لتغسل هذه الموجة المكان بالكلمات والصور والموحيات والرؤى. وما دام الشيء بالشيء يذكر فإن لي سوابق في هذا الميدان، فلقد كتبت قبل هذا الديوان قصائد مصر وهو بعنوان «ناي لجنوبها.. أغنية لدلتاها»، وقد نشر كله في مجلة «أدب ونقد» المصرية تحت مسمى « الديوان الصغير»، وكذلك كتبت قبل هذين الديوانين ديواناً كاملاً عن سوريا، وقد نشر في «دار المتوسط» قبل أعوام قليلة، هذا فضلاً عن كتابة اثنتي عشرة قصيدة عن تونس وقد تم نشرها في ديواني الصادر قبل ثلاث سنوات بالقاهرة، والمعنون بـ»الرجل الرومانسي».

س: ما هي طقوسك الخاصة أثناء الكتابة، وهل تعود إلى تنقيح ما تكتبه؟

ـ ليست لديّ أية طقوس للكتابة، فقط أختلي بنفسي حين تأتي القصيدة، أدوّنها، ثم أعيد تنقيحها قليلاً، لأسباب فنية تختص باللوازم الشعرية. مرّات، قصيدتي لا تحتاج إلى تنقيح، خصوصاً تلك التي أكتبها في ذهني.

س: كيف تنظر إلى ما يجري في غزة من حرب إبادة؟ وتتّهم مَنْ؟

ـ لم ير الزمن المعاصر تراجيديا حية وماثلة ومصوّرة مثلما حدث ويحدث في غزة، إنها النازية تخلع لباسها على الفكر الصهيوني وعقله الذي تدرّب على النوايا الهتلرية والموسولينية، دمار تاريخي لا يوصف حتى في الحروب العالمية، والمأساة كبرى ولا يمكن مقارنتها بأي حرب قد مرّت، من حروب العالم، بسبب النكوص العربي والخذلان الواضح من لدنهم. الزمن العربي زمن نذل، مهادن، ومتعاون مع القتلة الصهيونيين، بتمرير وتبرير وتسيير مصالح إسرائيل في المنطقة. نيكاراغوا أهم بلد عربي تعاون مع القضية الفلسطينية! وكذلك البلد العربي الناصع البياض جنوب أفريقيا! وإسبانيا البلد المتصالح دائماً مع قضايانا، إنه لبلد عربي! إلا تلك الدويلات الصغيرة التي تدّعي إنها عربية، بينما هي في الحقيقة محميّات إسرائيلية، اقتصاداً ومصارف وتصديراً وتمريراً بحرياً. ألا تبّاً لهم، ولسوف يسقطون في أية هبة للزمن العاصف، ولسوف يطويهم التاريخ الحي والصحيح.

بالتأكيد أتهم الاحتلال الإسرائيلي الفاعل الأول، وأمريكا الراعي والحامي وهي الفاعل الثاني، وبعض البلدان العربية المتعاونة في العلن والسر وهي الفاعل الثالث.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي