ورقة كنفاني الغزاوية

2024-02-16

صبحي حديدي

ضمن المنشورات التي تُحدّث دورياً على موقعها الإلكتروني، استعادت «احتفالية فلسطين للأدب» PalFest مؤخراً شريط فيديو بصوت الروائي والتشكيلي والناقد الإنكليزي المرموق الراحل جون بيرغر (1926-2017)؛ يقرأ فيه نصّ غسان كنفاني «ورقة من غزّة»، وكان مشاركة بيرغر في الدورة الأولى للاحتفالية، 2008، وأشرف على تسجيله المصوّر والسينمائي بيري أوغدن.

وكما هو معروف، النصّ في اللغة العربية هو الجزء الأخير من قصة قصيرة بعنوان «ثلاث أوراق من فلسطين»: أ، من الرملة؛ وب، من الطيرة (كلتاهما كُتبتا في دمشق، 1956 و1957)؛ وج، من غزّة (الكويت، 1956)؛ وقد نُشرت في مجموعة «أرض البرتقال الحزين»، مجموعة كنفاني القصصية الثانية، 1962. ومبادرة الاحتفالية حميدة في كلّ السياقات بالطبع، لكنها تكتسب فضيلة خاصة في هذه الأزمنة تحديداً، حين يتعرّض قطاع غزّة لحرب إبادة إسرائيلية وتوحّش همجي، ويخاطب النصّ العالم عبر لغة كونية مثل الإنكليزية، وبصوت شخصية رفيعة التأثير مثل بيرغر.

لعلّ جانباً ثانياً، فنياً هذه المرّة، يضيف المزيد إلى الفضيلة الأمّ المتمثلة في استعادة هذا النصّ بالذات، من هذا الكاتب تحديداً: أنّ كنفاني يذهب هنا إلى خيار الرسالة في صياغة القصة القصيرة، من جهة أولى؛ ويبدو من جهة ثانية أكثر مغالبة في تطويع اللغة بعيداً عن مناخات الأسى والتفجّع ومرارة النزوح واللجوء، التي كان من الطبيعي أن تهيمن على الكتابات الفلسطينية بعد 8 سنوات أعقبت كارثة النكبة. ليس أقلّ أهمية أنّ كنفاني يغالب الموازنة بين الضمائر الساردة، فيُفرد أكثر من وجهة واحدة للجدل التفاعلي بين ضميرَي المتكلم والمخاطب؛ ويقترب، ربما أكثر من أيّ نموذج قصصي سالف عنده، نحو إبدالات تيار الشعور التي سوف تستهويه طويلاً.

ثمة، إلى هذا، نزوع مفاجئ نحو تحميل هذا الجزء الثالث الذي لا يتجاوز 1370 كلمة، تقنيات سردية متغايرة؛ مثل التقديم والتأخير في عرض الحكاية (وثمة ما يُحكى حقاً!)، والتشويق عن طريق الإرجاء، والنقلات المباغتة في التغطية الشعورية لهذه أو تلك من تقلبات الحكي… وكلّ هذا تحت ضغوطات سقف دلالي مركزي يُصنع تباعاً عبر نفور أوّل تمهيدي من مدينة غزّة، وهيام تالٍ بها بعد انكشاف واقعة منفردة قد لا تكون استثنائية الحدوث رغم مأساويتها: أنّ ابنة أخيه الجميلة نادية بُترت ساقها حين «ضرب اليهود مركز الصبحة، وقذفوا غزة، غزتنا، بالقنابل واللهب».

هذا تفصيل لا يتكشف إلا في الثلث الأخير من النصّ، وأما الثلث الأوّل فيخصصه كنفاني للتعريف بشخصية السارد: إنه فلسطيني غزاوي، يعمل لدى مدارس وكالة الغوث الدولية براتب ضئيل لم يكن يكفي لإعالة أمه وزوجة أخيه الأرملة وأولادها الأربعة، وأنّ صديقاً له سافر إلى ساكرمنتو في أمريكا يقنعه بالهجرة إلى الكويت والتعاقد مع وزارة المعارف وتوفير بعض المال، تمهيداً للالتحاق به إلى كاليفورنيا. حياته، كما يصفها: «دبقة، فارغة، كمحارة صغيرة. ضياع في الوحدة الثقيلة، وتنازع بطيء مع مستقبل غامض كأوّل الليل، وروتين عفن، ونضال ممزوج مع الزمن، كل شيء كان لزجاً حاراً، كانت حياتي كلها زلقة، كلها توق إلى آخر الشهر». أمّا مدينة غزّة فقد كانت عنده «كما تعهدها تماماً، انغلاقاً كأنه غلاف داخلي، ملتفّ على نفسه، لقوقعة صدئة قذفها الموج إلى الشاطئ الرملي اللزج قرب المسلخ»؛ وهي: «أضيق من نفس نائم أصابه كابوس مريع، بأزقتها الضيقة ذات الرائحة الخاصة، رائحة الهزيمة والفقر، وبيوتها ذوات المشارف الناتئة».

بعد اكتشاف الساق المبتورة، واصطدام السارد بأكذوبة روّجها لنفسه ولابنة أخيه مفادها أنه اشترى لها من الكويت البنطال الأحمر الذي أرسلت تطلبه، لم يعد مشروع السفر ممكناً، ولم تعد غزّة كما كان يراها؛ بل هي الآن «جديدة كل الجدة، لم نرها هكذا أنا وأنت: الحجارة المركومة على أول حي الشجاعية، حيث كنا نسكن، كان لها معنى كأنما وضعت هناك لتشرحه فقط، غزّة هذه التي عشنا فيها ومع رجالها الطيبين سبع سنوات في النكبة كانت شيئاً جديداً، كانت تلوح لي أنها… بداية فقط، لا أدري لماذا كنت أشعر أنها بداية فقط»؛ و»كل شيء كان في غزّة هذه ينتفض حزناً على ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ، حزناً لا يقف على حدود البكاء، إنه التحدي، بل أكثر من ذلك، إنه شيء يشبه استرداد الساق المبتورة».

هذه خاتمة قد تُتهم، في ضوء تطورات القصة القصيرة الراهنة، بتقصّد النهايات السعيدة أو حتى الميلودرامية؛ غير أنّ إنصافها يقتضي أن تُقرأ في زمن كتابتها الفنّي، أوسط خمسينيات القرن المنصرم، حين كان أمثال يحيى حقي ونجيب محفوظ وتوفيق يوسف عواد ويوسف إدريس وشاكر خصباك يشتغلون على مقترحات مكينة لهذا الفنّ الفريد، لم يكن في وسعها النأي بعيداً عن محاسن اختتام جذوة الحكاية.

عدا بالطبع عن حقيقة سِيَرية تخصّ انسياق كنفاني الطبيعي، في تلك الحقبة من سنّه (20 سنة) ومنافيه (سوريا والكويت)، نحو تكريم المكان الفلسطيني؛ ليس عند عائد إلى حيفا فقط، بل كذلك عند غزاوي يستعيد روح المدينة بعد تيه واغتراب.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي