من سيكتب ملحمة غزة!

2024-02-12

سهيل كيوان

لن يستطيع الكتابة عن الجحيم إلا من شُوي جلدُه ونُقرت عيناه وصُمّت أذناه وأتلفَت أعصابه وبُترت أطرافُه وانتزعت من جسده شظية ساخنة من غير تخدير، وسُحِقت روحُه.

حوالي خمسة آلاف طفل لن يعودوا إلى مدارسهم إذا توقّفت الحرب الآن! لأنَّ الموتى لا يعودون إلى مقاعد الدراسة.

ولن تعود حقائبهم ولا دفاترهم وكتبهم ورسوماتهم وامتحاناتهم، فقد احترقت أو ما زالت تحت الرّدم.

حتى لو افتتحت المدارس، فلا مدارس لأنّها مكتظٌّة بالنّازحين!

كيف سيكون حال المدرّسين والمدرسّات عندما يكتشفون أنّ هذا وذاك من طلابهم الجميلين الأذكياء وكثيري الغلبة قد غادروا ولن يعودوا!

أعتقد أنّه من الأفضل ألا يعود المدرِّسون إلى المدارس نفسها، وأن يستبدلوا إلى غيرها، ربما يخفِّفُ هذا من حدّة الحسرات والآلام.

كيف سيحكي الأطفال العائدون إلى مدارسهم قصصهم! وهل ستكون قصصهم متشابهة، «كنا جالسين فجأة فطرقت الطائرة سطح العمارة وسمعنا الانفجارات! كيف سيعبّر هؤلاء عما عاشوه مع ذويهم أو من دون ذويهم!

أيُّ كلماتٍ وأيُّ تشبيهات ومجازات يمكن أن تسعفهم في ترجمة ما شعروا ويشعرون به!

كان آلاف الجنود الإسرائيليين من وحدات النُّخبة قد تلقّوا ويتلقون علاجات نفسية بسبب ما شاهدوه، فماذا يقول الأطفال الذين كانوا أحد أهداف هذه الحرب للتّقليل من أعدادهم، ووصفوا بأنهم أبناء العماليق!

من يستطيع أن يفتح عينيه وينظر في عيونهم ويحكي لهم قصّة عن الخوف أو عن الفقد أو عن الحزن والضّياع وعن الأفراح الصغيرة، بعد أن رأى أكثرهم أشلاء جثث من حوله!

أي كلمات تصف جمال أطفال قطاع غزة وهم يبتسمون ببراءة ويحكون بعفوية أنّ بيتهم انقصف وأنّ أهلهم استشهدوا! من يستطيع أن يصف طفلاً فقد كل أسرته! من يستطيع وصف الملحمة التي صنعها رجال ونساء وشبّان وأطفال وشيوخ قطاع غزة!

من يستطيع أن يصف النائب الجمهوري عن ولاية فلوريدا الذي خدم في جيش الاحتلال وقال إنّ الأطفال الذين قتلوا في قطاع غزّة ليسوا أبرياء، أيُّ صنف من أكلة اللحم البشري هذا؟

من سيذكر بعد اليوم قصص الإيثار في حروب الصحابة الأوائل! فقد جبّ أهل قطاع غزة كلَّ ما كان قبلهم في الإيثار والشّجاعة والعطاء والجود والصَّبر!

من سيكتب رواية النّزوح بعد النّزوح والتّهجير بعد التهجير والهدم بعد الهدم والغارات بعد الغارات والجثث والشّهداء وشهود الزّور وتزييف التّاريخ والخذلان والحصار والتجويع والعطش والخيّام مرة أخرى، وعربات تجرّها البهائم تنقل الشُّهداء بدلاً من صناديق الخضار!

من يكتب عن الأم التي تبحث عن فرصة وعمن يعينها في دفن أبنائها، ومن سيكتب عن نبش جرّافات الاحتلال وهي تنبش القبور وتبعثر الجثث!

من يصف رعب الطّفل الذي رأى الفراغ مكان عينيّ شقيقه الشّهيد.

من يصف دموع الكهل وهو يقول «بيتي راح وأولادي راحوا وزوجتي راحت… كلّنا فدى المقاومة»!

من يصف قهر آلاف العمّال الذين أخذتهم الحرب على حين غرّة عندما كانوا داخل الوطن الأول، يعملون ويحلمون بالعودة إلى أطفالهم ونسائهم لبضعة أيام، من يصف قلقهم بعدما أمروا بالعودة إلى قطاع غزة، وكيف عاملهم جيش الاحتلال أثناء عودتهم بعد السّابع من أكتوبر من تنكيل وتكبيل وتعرية وشتم لهم ولمقدّساتهم ولكم وصفع ورفس وعصب أعيُن وسرقة أموالهم التي عملوا أشهراً لجمعها في أعمال البناء وغيرها من الأعمال الشّاقة بعيدًا عن أسرهم التي تنتظرهم بقلق!

من يكتب عن الزمن كيف يمرُّ على من بقي حيًّا تحت الأنقاض!

من يكتب عن الطّفلة التي ظهر رأسها من تحت الأنقاض وطلبت أن ينقذوا شقيقها الرضيع وأبناء أسرتها وأن يتركوها للآخر!

هذه الطفلة مدرسة العالم كلّه، من كان يؤمن بوجود هذا الصّنف من البشر على هذا الكوكب الموبوء بالأنانية والجشع والوضاعة!

ومن بنى شخصيّة طفلة ليجعلها على هذا القدر من الاستعداد للتضحية والإيثار! من يصفُ خجلَ وحيرةَ الطفل الكريم عزيز النّفس الذي وقف مضطراً في طابور مزدحم ليحصل على طبقٍ من حساء! كيف يلقّنون الأحياءَ دروساً وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة!

من يصف الشُّعور بالعجز عن تقديم أي مساعدة طبية لشاب يحتضر، يرفع أصبعه الشاهد معلناً ارتقاءه!

من يصف المقاوم الذي كان آخر ما فعله هو السُّجود وجبينه على التراب وأسلم روحه لبارئها، كيف يحدث هذا؟!

ومن هم هؤلاء الذين ينظرون إلى الموت بأعين مفتوحة كأنّهم هم الذين يسلّمونه أرواحهم من غير جزعٍ وليس هو الذي يختطفُها!

من يصف حيرة الأطباء والممرضين وهم يستقبلون مئات الجرحى والشّهداء خلال ساعات! ومن يصف ألم خياطة شفاه الجروح الغائرة من غير مخدّر لا للجرّاح ولا للجريح!

من يصف أحاسيس أولئك الأسرى الذين ألقوا بهم في حفرة معصوبي الأعين، فراحوا ينتظرون رصاص الرحمة، ويتمنّون الرصاصة خشية أن يُدفنوا وهم أحياء!

من يستطيع أن يكتب عن أولئك الذين داهمتهم جرافة عملاقة ودفنتهم وهم في خيامهم!

من سيكتب عن قافلة الشُّهداء الأطول من الصحافيين منذ بدأت هذه المهنة!

من يعطي هؤلاء الرّجال حقهم، من يصف شموخ وائل الدّحدوح وصبره مثل قلعة في وجه إعصار من النّار!

من يصف الخذلان على معبر رفح وعلى الجدار الفاصل وأبراج المراقبة وجند مصر كأنّهم في قارّة أخرى!

من يكتب عن الأنفاق وما يجري فيها، وعن الرهائن والأسرى وعن الغارات التي تقتلهم، وعن العهر الرّسمي!

من يحلّل المُستَتِر في نفس ذلك المقاتل الذي صرخ حلّل يا دويري؟ ما الذي أراده من هذه الرسالة بالضبط! إذ يمكن تأويلها على عدّة وجوه! من يسبر أغوار ما يدور في الغُرف المغلقة بين قادة الحرب الإسرائيليين وحلفائهم من العرب والغربيين والأمريكان!

وماذا يعني تفكيك حماس! هل المقصود هو السِّلاح البسيط! أم استئصال الفكر الذي يجعل من السّلاح البدائي أشدَّ وطأةً من أساطيل البر والبحر والفضاء التي تمتلكها دول إقليمية كبيرة!

هل بلغ الخَوف من الفكرة وانتشارها كنموذج قد يحتذى إلى درجة التآمر والتواطؤ مع الاحتلال على ارتكاب جرائم وفظائع ضد الإنسانية! هل هي حربٌ على العقيدة أم على السِّلاح!

من سيكتب عن النّخوة القادمة من جنوب إفريقيا، ومن سيكتب عن الفزعة اليمنيّة! وعن محاربي وسائل التواصل الاجتماعي والحراك الأممي!

ومن سيكتب عن الأسرى والرّهائن الإسرائيليين الذين يفوق خوفهم من جيشهم خوفَهم من آسريهم!

ومن سيكتب عن الميزان الدّقيق الذي يديره حزب الله في الشّمال؟! إذا كانت النّكبة الأولى عام ثمانية وأربعين لم تُكتب بعد وما زال ينقصها الكثير، فإنَّ ملحمة قطاع غزة ستبقى مادّة للكتابة والبحث على مدى القرون والتاريخ حتّى انقراض الجنس البشري.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي