صوت أفريقيا الجميل

2024-01-18

سهيل كيوان

لو أجرينا استبياناً بين أبناء الأمة العربية حول جنوب أفريقيا، لوجدنا أنَّ أكثرَنا لا يعرف عن هذه البلاد سوى القليل جداً، باستثناء الجيل الذي عاصر نلسون مانديلا في حقبة قاد فيها شعبه من سجنه إلى التحرُّر من نظام الأبرتهايد والتمييز العنصري، الذي فصل بين الأكثرية السَّوداء، والأقلية من المستعمرين البيض، الذين جاء معظمهم من أصول أوروبية قبل أكثر من 300 عام. نظامٌ سيطرت فيه الأقلية البيضاء على مقدرات بلدٍ تبلغ مساحته أكثر من مليون ومئتي ألف كيلومتر مربّع، وعدد سكانه اليوم حوالي ستين مليوناً، ثمانون ٪ منهم من ذوي البشرة السَّوداء والبقية من الأوروبيين والآسيويين وغيرهم.

ملك السُّود 13.7% فقط من مساحة وطنهم جنوب أفريقيا.

منذ تحرّرها من نظام الأبرتهايد وانتخاب الراحل نلسون منديلا رئيساً لها ومن تلاه، تحوّلت إلى الوقوف الواضح المبدئي إلى جانب نضال الشّعب الفلسطيني، وكان الفلسطينيون يرون في الأفارقة الجنوبيين المضطَّهدين شركاء في المعاناة والتعرُّض للظّلم الأوروبي والأمريكي، وكانت إسرائيل واحدة من الدول القليلة التي كان لها علاقات خاصّة مع نظام الفصل العنصري وتمسَّكت بعلاقة طيّبة معه حتى سقوطه، وطبعاً إلى جانب الولايات المتحدة التي أبقت على علاقة حسنة مع النظام العنصري رغم انتقادات بعض المسؤولين لممارسات النظام فيها بين حين وآخر، لكنها طالما استخدمت حق الفيتو.

اعتبرت شخصيات جنوب أفريقية مثل نكوسي منديلا حفيد نلسون منديلا، أنّ النظام في إسرائيل أسوأ من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في بعض جوانبه! مثل قانون القومية الذي يمنح حق تقرير المصير لشعب واحد فقط في هذه البلاد، وهو ما يحاولون تطبيقه على أرض الواقع بإرغام الفلسطينيين على الهجرة إما من خلال القمع المباشر بالسلاح أو في سدّ سبل الحياة في وجوههم، أو بالإقناع على طريقة بعض أقطاب الحكومة الحالية التي تعتبر الإبادة إحدى طرق الإقناع.

في جنوب أفريقيا اثنتا عشرة لغة معترف بها كلغات رسمية، كل واحدة منها تمثل النسيج الاجتماعي والعرقي المتعدِّد جداً الذي تتألف منه أمة جنوب أفريقيا، وهذا يثير تساؤلاً أو حُلماً: إذا كان عدد من القوميات تتعايش في دولة مثل جنوب إفريقيا، ما الذي يمنع تعايش قوميتين أو ثلاث في هذه الحيز من العالم؟

جرائم الحرب واضحة، ولكنها تحتاج بالفعل إلى أولئك الشجعان الذين ذهبوا إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي والذين جمعوا ويجمعون الأدلة.

يكفي أن نعرف أن عدد الأطفال الذين استشهدوا خلال هذه الحرب كي يقف العالم كله لوقف الحرب، إذ يقترب عدد الأطفال الذي قتلوا إلى عشرة آلاف طفل، وهو رقم لو قسناه نسبياً إلى عدد السُّكان في أمريكا لكان عددهم مليوناً وستمئة ألف طفل!

هل يمكن تخيّل مقتل هذا العدد من الأطفال الأمريكيين أو الأوروبيين أو الصينيين أو الرُّوس دون اشتعال حرب عالمية ثالثة!

كيف لدولة عظمى تدّعي بأنّها تقود العالم الحُرّ، أن تمارس حق النقض ضد وقف الحرب رغم هذا الكم الهائل من القتلى المدنيين، ورغم هذا التدمير الممنهج للحياة!

في جولته الأخيرة هذا الأسبوع في المنطقة، يعلن أنتوني بلينكن مرة تلو المرة رفض الإدارة الأمريكية لوقف إطلاق للنار، ولكنّه «يأمل» بالتَّخفيف من عدد القتلى المدنيين ويؤيّد زيادة المساعدات الإنسانية!

النظام الأمريكي لا يقلُّ عنصرية عن حكام جنوب أفريقيا الغابرين، فهو يرى في ضحيّة أمريكية واحدة أهمّ من عشرات آلاف المدنيين والأطفال الفلسطينيين وتجويع ملايين! قمّة العنصرية والوقاحة والانحطاط الأخلاقي والعنصرية، وفوق هذا يعتبر أنتوني بلينكن أنّ توجّه جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية «لا قيمة له» وبأنّه يصرف الأنظار عن الجهود لتخفيف المعاناة الإنسانية ومنع الحرب من الانتشار! وفي الجملة نفسها يعلن أنّه ضد وقف الحرب، ولكنّه يتحوّل إلى حمامة سلام ولا يريد لهذه الحرب أن تنتشر!

مواقف الأنظمة العربية بائسة، ولم ترتق إلى مستوى طموح الشُّعوب العربية أو مستوى تضامن الشعوب مع القضية الفلسطينية، لا بل وبعضها يقمع من يتظاهر أو يرفع علماً فلسطينياً.

موقف جنوب أفريقيا ليس جديداً، فقد كان لمنظمة التحرير وعلى رأسها الراحل ياسر عرفات، علاقة احترام متبادل مع الرَّئيس نلسون منديلا.

في مذكرات بسّام أبو شريف الذي كان مساعداً لعرفات في تونس، يقول إنه عندما أخبر عرفات بخبر إطلاق سراح نلسون منديلا في 11-2-عام 1990 من سجنه لمدّة ربع قرن، قال عرفات للقيادي بسّام أبو شريف: «هذا حدَث عظيم، وبداية تحوُّل استراتيجي في جنوب القارَّة الأفريقية، ولا شكَّ أنَّه سيعكس نفسه على الأجواء السياسية العالمية باتجاه حل المشاكل العالقة في مناطق مختلفة من العالم».

ها هي جنوب أفريقيا تبادر إلى ما لم تبادر به أنظمة من ذوي القربى من العرب، ولا حتى من باب حقّ الجار على جاره.

في خضم التّحريض على مواصلة الحرب من قبل أكثرية الإسرائيليين الذين يحتفون بالعقوبات الجماعية ومتخذّين من عملية حماس في السَّابع من أكتوبر صكّ غفران وترخيصاً لجرائم الحرب، ننسى مواقف مبدئية لشخصيات يهودية مثل المؤرخ إيلان بابيه، الذي أدان هذه الحرب واعتبرها استمرارًا لما سبق من سياسات تهجير للفلسطينيين، ومثل موقف النائب اليهودي عن الجبهة الديمقراطية للسَّلام والمساواة (عوفر كسيف) الذي وقّع على تأييد لشكوى جنوب أفريقيا، الأمر الذي أثار ضدَّه حملة تحريض كبيرة شعبية ورسمية، وبدأ بعضهم بجمع تواقيع لطرده من الكنيست، وهذا يحتاج إلى موافقة تسعين عضو كنيست، جمعوا منها حتى الآن ستة وسبعين توقيعاً، ويتوقّع أن يزداد هذا الرّقم.

أعدّت جنوب أفريقيا مرافعة مؤلفة من 84 صفحة، جمَعت فيها شواهد لجرائم حرب ارتكبت في قطاع غزة وتدعو إلى وقف إطلاق النار، وسوف تبدأ المرافعة اليوم الخميس وغداً في لاهاي، مؤيَّدة من عدّة دول أعلنت دعمها لجنوب أفريقيا ومنها دولٌ عربية، إضافة إلى أكثر من ألف جمعية ونقابة وحزب حول العالم.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي