بين سطح الأرض وباطنها

2024-01-14

الياس خوري

لم تعد أخبار غزة تشبه الأخبار، صارت جروحاً في الجسد؛ كل كلمة جرح، وكل صورة مأساة، وكل جرح ينزف، والخراب يحاصرنا من كل مكان. لم نعد قادرين على احتمال ما يجري، فما يجري هو فعل مناف للقيم الإنسانية ولإحساس الإنسان بمعنى الموت.

لم أعد أفهم أعداءناقاتلينا الصهاينة؛ لأنهم صاروا يشبهون آلات معدنية تجرف وتحطم بشكل أعمى ولا تصل إلى مكان.

لم أعد أفهم لذة الخراب ومتعة مشاهدة الأنقاض التي يمارسها الصهاينة كل يوم فوق أرض غزة.

لم أعد أفهم سوى شيء واحد دلّني عليه شاعر فلسطين، إبراهيم طوقان، حين وصف الفدائي في زمن مضى، فإذا بالفدائي يتجسّد اليوم في غزة، وأفهم أن استعاراته وتشبيهاته لم تكن سوى حقائق ملموسة، رآها الشاعر بعيني حدسه فجعلته يكتب ما اعتقدنا أنه مبالغات، فإذا بالحقيقة تصبح أكثر بلاغة من المبالغة نفسها. لا يمكن تشبيه صمود غزة بصمود مدن دخلت في الأسطورة كستالينغراد على سبيل المثال. ستالينغراد صمدت وتأسطرت لأنه كان خلفها جيش جرار هو الجيش الأحمر. أما غزة فخلفها الخراب العربي والذل العربي والمهانة العربية واللاوجود العربي.

المدينة تقاوم وحدها، تغرق في أنقاضها ثم تنهض كعروس تقاتل ولا تنحني ولا تسقط.

كأن شبان غزة يخرجون من كلمات إبراهيم طوقان ليقولوا لنا كيف صنعوا أكفاناً من وسائدهم:

لا تسل عن سلامتِهْ

روحه فوق راحته

بدلته همومه كفن من وسادته

هذا الذي جعل وسادته كفناً، وحلمه يقظة، وموته بداية، واسمه احتمالاً لنصر، حتى وإن كان بعيداً فإنه في متناول العينين.

هؤلاء الشبان يبلسمون جراح أجسادنا التي تأتي من أخبار غزة ببطولاتهم وموتهم وقدرتهم على اللعب بين سطح الأرض وباطنها. يرى هول ساعته، لكن فحمة الدجى تشتعل من شرارته:

يرقب الساعة التي

بعدها هول ساعته

من رأى فحمة الدجى

أضرمت من شرارته

لا يخاف الموت لكن الردى يخافه لأنه صامت ويستبدل الكلام بفعل ينتصر للحق:

صامت لو تكلما

لفظ النار والدما

قل لمن عاب صمته

خلق الحزم أبكما

أين نجد هذا الفدائي؟

منذ عام 1965 حين ولدت الثورة الفلسطينية المعاصرة وانطلقت شرارة الكفاح المسلح ونحن نرى كيف يولد. ولد على دفعات، وكانت فتح حاضنته الأولى ومدرسته الأولى. في تلك السنوات عشنا صمود تل الزعتر وبطولة دلال المغربي واستشهاد ألوف الفدائيين الذين نذروا حياتهم لفلسطين. غير أن ما نشهده في غزة اليوم هو قمة تجلي معنى الفدائي وقد تحوّل من حالة صغرى إلى بلاد كاملة. وفي غزة اليوم نضج فينا الموت وصار الفدائي قادراً على أن يصنع ما سيكون، فإذا به يخيف الموت بموته، وينتصر على الخوف بجرأته، ويصنع من فلسطين أسطورته التي لن يخبو بريقها:

هو بالباب واقفُ

والردى منه خائف

فاهدئي يا عواصف

خجلاً من جرأتهْ.

أين نجد اليوم الكلمات التي تصف أسطورة مغطاة بالخراب؟

كيف نعيش وسط أسطورة تصنعنا وتعجننا بالموت والبطولة والشهامة والغياب؟

أين نجدك يا غزة وقد تحولتِ من مدينة إلى حكاية وجعلتِ من الحكاية ركاماً من الحجارة والخرائب؟

أين نجدكِ يا غزة وقد صرتِ روحنا التي ينبض فيها الحب ويشتعل على أطرافها حقدنا على البغاة؟

نبحث عنكِ كل يوم ونراك وقد صرت رؤية مغطاة بأرواح الشهداء، كأنك غيمة تظلل هذا العالم العربي المستسلم لذله، بعبق الشهادة وروح التجدد.

من كان يعتقد أن المدينة المهدمة ستكون أجمل المدن وسنسكب على قدميها العطر كي نمحو أثر روائح الهمجية التي تسللت إليها. نغسلكِ الآن وسط خرابك وفي سياق تحررك بماء الورد كما فعل صلاح الدين حين غسل أسوار القدس وجدرانها بماء الورد كي تستعيد المدينة رائحتها الأولى.

لفدائييك يا غزة وفقرائك وأزقتك تنحني هاماتنا كي تستعيد أرواحنا القدرة على الحياة.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي