من شرانق الحرير إلى الكتابة بالحرير

2023-12-23

الياس خوري

وأخيراً كتب جاد تابت الحكاية. والحكاية التي تتمحور حول معماري كبير اسمه أنطون تابت ليست حكاية فردية أو عائلية، فانطون تابت لا يُلخص بعائلته، فحكايته التي رواها جاد هي جزء أساسي من حكاية الثقافة اللبنانية في تحولاتها في زمني الانتداب والاستقلال؛ من العلاقة بالحركة السوريالية إلى تأسيس مجلة «الطريق»، ومن جورج شحادة إلى رئيف خوري وعمر فاخوري.

كيف استطاع ابن قرية بحمدون أن يخرج من كرخانات الحرير في «القريّة» قرب بحمدون ويصنع لنفسه وأبناء جيله حلماً بالتغيير؟

بدأت الحكاية بحداد بحمدوني يدعى جريس تابت الابن الوحيد لحنا تابت، تم استدعاؤه للعمل في صيانة المعدات في كيرخانة القرية لصناعة الحرير التي اشترتها شركة الأرملة غيران وأولادها. هكذا انقلب مصير عائلة تابت رأساً على عقب، وكان مقدراً لجميع أفراد العائلة، بمن فيهم أنطون الصغير، العمل في كرخانة الحرير.

لكن هذه البداية الكلاسيكية التي تنتمي إلى رواية كتبت في القرن الثامن عشر، ليست بداية الحكاية، بل هي مجرد إشارة إلى الكيفية التي حولت فيها الرأسمالية العالم، جاعلة من جبل لبنان مصنعاً تابعاً لمدينة ليون الفرنسية، قبل أن تتهاوى صناعة الحرير برمتها.

ارتبط الحرير في الثقافة في العالم بأسطورة الجمال والسلطة والحب، لكننا لا نرى له أي أثر في ثقافتنا اللبنانية المعاصرة باستثناء كتاب فواز طرابلسي المدهش، ورواية لهدى بركات روت فيها نهاية بيروت، لكنها لم ترو حكايات تجربة صناعة الحرير في لبنان.

لن نجد أسطورة حريرنا اللبناني سوى في مفارقة اسم مصانع الحرير «الكرخانات». والكرخانة كلمة تركية- فارسية تعني مكان العمل أو المصنع. وفجأة، دخل الاسم في تناقض مع معناه، فصارت الكرخانة تعني المبغى أو بيت الدعارة. يفسر بعض المؤرخين هذه الظاهرة بمجاعة الحرب العالمية الأولى، بينما يرى فيها آخرون جزءاً من شروط العمل الرأسمالي حيث تنتهك أجساد العاملات والعمال.

السؤال الذي خطر في بالي أولاً هو كيف قرأ جورج شحادة، صديق تابت في الجامعة وتوأمه الأدبي، هذه المفارقة؟ الشعر يصقل الكلمات ويعطيها المعاني، أما حين يصطدم المعنى بالكلمة ويصير نقيضها فنحن أمام مشكلة مستعصية. لم يكن أمام تابت المهندس من خيار سوى الانخراط في النضال السياسي والاجتماعي الذي قاده إلى الحزب الشيوعي. أما جورج شحادة الشاعر فالتحق بالحركة السيريالية كي ينفض المعاني القديمة عن الكلمات ويعيد صوغها طازجة ومتلألئة بالمعاني. من هنا نشأ ذلك اللقاء بين اليسار والحركة السيريالية، لقاء اتخذ أشكالاً متعددة وتعرض لانقسامات شتى، لكنه لم يتخل عن مشروعيته اليسارية.

سحرتني حكايات الحرير في كتاب جاد تابت، لأنها أخذتني إلى أعماق الأسى، إلى البخار والروائح الكريهة والمياتم والفقر، ولأنها علمتني أن تاريخنا يجب أن يُكتب بلغة جديدة، وأن الحرير دخل وعينا الجديد بقلمي جاد تابت وفواز طرابلسي.

رويتُ بداية الحكاية كي أستطيع الوصول إلى متنها، ومتنها هو نجاح جاد تابت في تحويل الكتابة إلى حرير من كلمات. والده أنطون هرب من كرخانات الحرير إلى الهندسة والعمارة وصار أحد مؤسسي العمارة الحديثة في المشرق العربي، وجورج شحادة كسر صدفة معاني الكلمات ليكون أحد أكبر شعراء القرن العشرين، أما الحفيد الذي اتسمت حياته بالخفر ونضاله بالتواضع وصداقته بالحب، فقد أكمل المسيرة على طريقته، ودافع عن بيروت وعن القيم التي صنعها العمل النضالي، ولم يتنازل نقيب المهندسين في كل المواقع التي شغلها.

لم أسأله كيف حول الكتابة إلى حرير من كلمات؟ فأنا رأيت علامات تلك التجربة الثورية الكبرى التي بدأها أنطون تابت في مجلة الطريق، وهي المجلة التي تعلمنا فيها أن نقرأ الأدب ونحلل الفن وننخرط في النضال دفاعاً عن الفقراء والكادحين والمهمشين. ومن على صفحاتها قرأت ألم أنطون تابت في زمن القمع البكداشي، وتغييب كبير كرئيف خوري.

هذا الرجل الذي كتب سيرة والده وسيرة أصدقائه: بونور، وجورج سير، وأنطوان موراني، ونعمة اده. مجموعة الفرسان تحولت إلى ذاكرة، أما القصائد التي كتبها شحادة، والمباني التي عمرها تابت الأب، والنصوص والمباني والمواقف التي صنعها مؤلف هذا الكتاب، فهي ذاكرتنا التي تقاوم زمن هذا الانحطاط الانهياري.

كم شعرت بالغيرة وأنا أقرأ الرسائل المتبادلة بين جورج شحادة وأنطون تابت، فنحن نعيش في زمن انتهى فيه تقليد كتابة الرسائل. فأنا لا أملك من صديقي سوى صور ذاكرتنا المشتركة التي ساهمنا من خلالها في صناعة ذاكرة بيروت.

نحن أبناء هذه المدينة نشعر أن بلادنا صارت منفانا، لكننا نقاوم المنفى بالإصرار على صناعة الحياة وسط الموت.

جاد تابت: لبنان البدايات في سيرة مثقف حداثي

دار رياض الرياس، بيروت، 2023








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي