الحقيقة في مواجهة الحَيْوَنَة

2023-12-03

سهيل كيوان

كل هذا الثمن المفجع كي تحاول الضحية أن تثبت أنّها ضحية، وأنها هي التي ينكل بها يومياً وأنها هي المحرومة من الحرية وهي المهدَّدة في كل تفاصيل حياتها.

كم كان محمود درويش دقيقاً عندما قال في مديح الظِّل العالي «سَرقت دموعنا يا ذئب، تقتلني وتسرق جثّتي وتبيعها»، فسرقة دموع الفلسطيني وآلامه والسَّطو على دمه ليس أمراً جديداً، بل إنه منذ بداية هذا الصِّراع، اتهم بالإرهاب منذ أول صرخة صرخها في مواجهة خطر اقتلاعه من تراب وطنه وعلقت له حبال المشانق منذ بداية الهجرة اليهودية إلى فلسطين، أما السَّطو على جثته فلم يبق مجازاً، وفي تحقيقات حول الموضوع في إحداها تحدثت مسؤولة عن بنك الجلد في إسرائيل في مقابلة للقناة العاشرة عام 2014 مع مسؤولة في بنك الجلد قالت إنهم لا يأخذون جلداً من إسرائيليين متوفّين لأنّ الدين اليهودي يحرّم هذا، والمتبرّعون بالجلد من اليهود نادرون جداً، وقالت للصحافيين اللذين أعدا التقرير: «لك أن تتخيّل إذاً من أين نحصل على الجلود»! ثم أوضحت… من الفلسطينيين ومن القادمين الجدد والعمال الأجانب. وهذا ما يفسر السَّطو على جثث الشُّهداء في مستشفى الشِّفاء، ويفسِّر أيضاً ما قيل من قبل عن إرغام أسر الشهداء في المناطق الخاضعة للاحتلال، على دفن الشهداء ليلاً وبحضور أبناء العائلة فقط ودون كشف جثمان الشّهيد.

تواجه الضَّحية صعوبة كبيرة لتثبت أنّها ضحِيّة، فتتضاعف مُصيبتها، وخصوصاً عندما يكون المجرم على قدر كبير من الذّكاء والحنكة والسَّيطرة والتجربة في كل أشكالها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والإعلامية والعسكرية، ويعرف متى يستغل اللحظة المناسبة للعب دور الضّحية، وعادة بالذات في اللحظة التي يكون غارساً أنيابه ومخالبه وسيوفه الحديدية في قلب ضحيته.

وقد رسم لنفسه أمام العالم صورة الديمقراطي والإنساني في وسط غابة من الدكتاتوريات والشعوب البدائية المتوحِّشة.

كشفت هذه الحرب التي لم تنته بعد، لشرائح شعبية واسعة عبر العالم كله حقيقة الذِّئب الذي ما زال مصرّاً على لعب دور الحمل، في عملية استغباء للبشرية كلها، حتى صار يبدو مُضحكاً وهو يقدم نشرات إعلامية في مؤتمرات صحافية أشبه بالتهريج، خصوصاً باكتشافاته العظيمة في أقبية مستشفى الشّفاء، وخصوصاً برنامج أيام الأسبوع، وشنطة السِّلاح التي لم يخش من انفجارها، وفتَحها كما لو كانت حقيبته التي يأخذها معه إلى شاطئ البحر للاستجمام، وافتضاح ممثلة إسرائيلية تحجّبت وبالإنكليزية وعربية ركيكة تدّعي أن حماس يسرقون الأدوية من المستشفى وتدعو العالم لإنقاذ المستشفى الذي ما لبثت إسرائيل أن دمرت أجزاء منه ومنعت الدواء والماء والوقود عنه، وقتلت من قتلت فيه.

تنافس المسؤولون الإسرائيليون في وصف الفلسطينيين بالوحشية والهمجية، فذكر بيبي نتنياهو بأنهم العماليق الذين ذكروا في العهد القديم، وهم قبائل بدوية حاربت بني إسرائيل في الأزمنة الغابرة، وهم متوحِّشون يجب قتلهم وإبادتهم. ووصفهم أكثر من مسؤول بالحيوانات البشرية، وكي تنجح حملة حيونة الفلسطيني، يجب منع ظهور الفلسطيني بأي مظهر إنساني؛ لأنّ ظهوره كإنسان يعني أنّ قصف مستشفى أو مدرسة يتجمّع فيها النازحون أو حيٍ مكتظٍ بالسّكان المدنيين لا يجوز. الظهور الإنساني قد يُسبِّبُ تعاطفاً معهم، لهذا يجب التأكيد أوّلاً على همجيّتهم ووحشيتهم وحتى نازيّتهم ثم منعهم من الفرح أو إظهارهم في تصّرف نبيل.

لهذا السَّبب أُحرج أصحاب نظرية الإبادة العرقية للفلسطينيين من طريقة تعامل المقاومين مع الأسرى الإسرائيليين، وأسقط في يد محلّليهم وأصحاب المخيّلات القذرة والمنحطّة عن تعذيب الأسرى واغتصابهم وجزّ رؤوسهم.

كان أحد المستوطنين من أصل إيرلندي، قد أعرب عن ارتياحه عندما أعلموه في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، بأنَّ طفلته قُتلت وليست ضمن الرهائن، قال يومها إنَّ موتها أرحم من أن تكون تحت رحمة وحوش بشرية، أخذه خياله المريض إلى مواقع مظلمة سوداء، ولكن المفاجأة حدثت بظهور اسم ابنته بين أسماء الأحياء من الرهائن، ثم حُرِّرت في الدفعة الثالثة، وبدَت الطفلة في صِحّة جيدة، إذ إن الوحوش البشرية لا تأكل لحم الرهائن والأسرى، وهذا مُحرجٌ للإعلام الإسرائيلي المُجنّد.

الابتسامة العفوية التي ظهرت على وجه طفلة أخرى من المحرّرات وهي في سيارة الصليب الأحمر وتلويحة يدها، لم تترك مجالاً للشّك بأنّها تعبِّر ليس فقط عن رضى من المعاملة، بل عن محبة وامتنان وبدون أي ضَغط نفسي.

في شهادة أخرى، أنّ الآسرين من رجال المقاومة أحضروا أطفالاً من الغزّيين، كما يبدو من أبنائهم، لمشاركة الأطفال المحتجزين في اللعب معهم كي يهدّئوا من روعهم، «الوَلد بَدّو ولد».

أسْرُ الأطفال والمسنين والنساء من غير المقاتلات ممنوعٌ من أساسه، ولا يوجد ما يبرّرُه، وهي ورقة استخدمت ضد الفلسطينيين، تناقلتها وسائل إعلام عالمية ذات تأثير كبير! إلا أن وسائل الإعلام العالمية والعربية انتبهت خلال عملية تبادل الأسرى إلى أعداد الأطفال الكبيرة الذين تعتقلهم إسرائيل لسنوات، لقد كانت هذه الحقيقة غائبة عن الإعلام العالمي والعربي، هذا إضافة إلى أعداد الأطفال الذين قتلوا في الضفة الغربية وقطاع غزّة، في مختلف مراحل الصراع ويعدُّون بالآلاف، وكانت هذه الحرب أبشعها وأكثرها جريمة مع سبق الإصرار والترصُّد للأطفال وأسرهم، وهي جرائم حرب يجب أن يحاسب عليها مرتكبوها.

يصرُّ الاحتلال على منع الفلسطينيين من مظاهر الفرح بتحرير أبنائهم وإخوانهم، فالتعبير عن الفرح هو حالة إنسانية تلغي صفة الحيوانات عنهم، وهذا أمرٌ خطير، ثم إنّ الفرح بإطلاق سراح أسير يشجّعُ غيره من الشبان والفتية على مقاومة الاحتلال، لأن الفتى المُحرّر يتحوَّل إلى بطل في أعين الأولاد والشبان، فيقلدونه.

رغم كل الموت والدمار فإن إرادة الحياة لديهم تبقى أقوى من الموت والقهر والظلم، بل إنّها تتضاعف، ففي إحدى مدارس الأونروا حيث تجّمع آلاف النازحين فأقاموا حفل زفاف لشاب وفتاة كانا مخطوبين من قبل كما يبدو، وكانا على موعد مع زفافهما، فأقام النازحون لهما حفل زفاف في ساحة المدرسة، وأعدّوا لهما غرفة كي يدخلاها زوجاً وزوجة. وبإذن الله، سوف يرزقان بالأطفال خلال الأعوام القادمة، وسوف يذكران ويعلّمان أبناءهما هما وغيرهما من الأجيال القادمة متى وكيف تزوجا وفي أيّة ظروف، وهذا ردٌّ طبيعي على فذلكات بيبي نتنياهو الاستعلائية التي يطالب فيها بتربية جيل فلسطيني مُحبٍ للسّلام ولدولة إسرائيل، ويصف هذا ببرامج التعليم في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، في محاولة سخيفة لربط حركة المقاومة الفلسطينية بالفكر والممارسات النازية التي تبنت نظرية التفوّق العرقي الآري على الأمم الأخرى!

لا يشعر الفلسطينيون بتفوّق عرقِيٍ على أحــدٍ، ولكنّهم ببساطة يرفضون أن يكونوا أقلَّ من أحد، ويحقُّ لهم ما يحق لكلِّ البشر، العيش في حرية وكرامة في وطنهم، وطن آبائهم وأجدادهم.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي