غوردن يقرأ تاريخ آسيا في 1000 عام

خدمة شبكة الأمة يرس الإخبارية
2011-03-06

كتب ـ محمد الحمامصي - يدخل هذا الكتاب "عندما حكمت آسيا العالم" للباحث ستيوارت غوردن إلى آسيا كاشفا لتجليات قوتها الروحية والفكرية والعلمية والاقتصادية والسياسية، من خلال رؤية جديدة تنطلق من الداخل في رحلة تمتد إلى ألف عام، عبر مذكرات وشخصيات وأحداث حقيقية معروفة، فمن الشخصيات القائد والعالم، الطبيب الفيلسوف والتاجر والرحالة، ومن بين الأحداث حطام سفينة إنتان عام 1000، لنعيش في قلب هذا العالم المترامي الأطراف، الذي تعد الجزيرة العربية والشام والعراق جزءا حيويا في تكوينه بل جوهريا في سيطرته على العالم، فقد نزلت هنا الديانات السماوية الثلاثة، كما أن طرق التجارة الآسيوية القديمة لعبت دورا رئيسا، الأمر الذي أهل آسيا لحكم العالم قديما اقتصاديا وسياسيا وعلميا وفكريا وروحيا وحتى اللحظة الراهنة وإن كان يشاركها قوى أخرى كأميركا وأوروبا على الأقل سياسيا وعلميا.

ففي المجال العلمي أكد المؤلف أن الشرق الأوسط والهند والصين كانت تضم حتى القرن الثالث عشر مراكز التجديد الرئيسية، وأن العالم الآسيوي عامة استفاد من ديانتين رئيسيتين ذاتي بُعد عالمي هما: الإسلام والبوذية، فقد خاطبتا كلتاهما الحاجات الإنسانية العالمية، وجندتا من آمن بهما نسبيا على أساس الالتزام الشخصي البسيط بدلا من العرق أو الإقليم أو اللغة أو الجنس.

يبدأ الكتاب الصادر عن مشروع كلمة أحد مشروعات هيئة أبوظبي للثقافة والتراث برحلة الراهب البوذي شوان تسانغ "618 ـ 632" الذي شهد سقوط حكم سلالة سوي لتصعد سلالة التانغ التي وحدت جنوب الصين مع شمالها، رحلة تعرف فيها على أقاليم الأديرة البوذية من الصين إلى الهند والتقى خلالها خلالها ملوكا بوذيين منتشرين في هذه المناطق، رأى شوان أن شغلهم الشاغل هو بناء الولاء متخطين اللغوية أو العرقية "كانت سلسلة الأديرة بمثابة البنية التحتية للتجارة فحيثما ازدهرت البوذية كانت التجار رعاة بارزين للمقامات والأديرة، وغدا أحد تجسيدات بوذا، أفالو كتشارا الرحيم ضربا من القديسين الذين يرعون التجارة والمسافرين".

هكذا إذن كان للديانة البوذية دورها الذي تكشف عنه رحلة شوان مؤكدة أن البداية القوية لسلالة التانغ في الصين كشفت عن "امتداد نفوذ الصين لا إلى الأبراج السبعة في رحلة شوان تسانغ فحسب، وإنما امتد نفوذ الصين غربا إلى أكثر من ألفي ميل على امتداد الطرق التجارية، وكذلك امتد نفوذ الصين شرقا إلى كوريا واليابان".

وفي عدة أجزء من مذكراته وصف شوان تسانغ الملوك الذين التقى بهم بأنهم متحضرون ومحنكون وروحانيون "وقد أطلقت رحلة شوان الدينية كوكبة من الإرساليات الدبلوماسية بين الصين والعند تجاوزت الخمسين في القرن التالي، وكان الكثير من هذه المبادلات الدبلوماسية مصاغا بعبارات بوذية: بعضها يهب ثوبا صينيا معينا لدير هندي، أو لاستقبال السفير الهندي، وشكر الإمبراطور الصيني على الهبة، إلا أن هذه الاتصالات بين ملوك الصين والهند كانت تخدم غايات أخرى تتخطى البوذية إلى المصالح المتبادلة والتعرف على إمكانيات الآخر التجارية".

الرحلة الثانية جاءت تلبية من خليفة المسلمين في بغداد للملك المش بن يلطورا ملك قبيلة كبيرة من البلغار تقع على مقربة من نهر الفولقا فيما يعرف الآن بروسيا، يطلب فيها هذا الأخير من خليفة المسلمين في بغداد "أن يرسل له شخصا يعلمه الدين ويعرفه شرائع الإسلام ويبني له منبرا يدعو من عليه للخليفة في مدينته وجميع أنحاء مملكته".

ويختار الخليفة لترأس هذه الإرسالية شخصا يدعى ابن فضلان وهو صاحب مذكرات الرحلة الثانية "921 ـ 922"، يرافقه معلما دينيا وفقيها في الدين وسفيرا أيضا، وعلى الرغم من أن المؤلف هنا لم يتوسع في قراءته لرحلة ابن فضلان، حيث تشكل صورة مهمة لعالم آسيا وما كان عليه في ذلك الزمن، لكنه على أية حال أكد أن "العالم الآسيوي كان في القرن العاشر عالما متعدد الرؤى الدينية، متنافسا على الدعم والتابعين"، موضحا أن "الدين والسياسة كانا متداخلين في كل من المراكز المدنية الكبيرة مثل بغداد وكذلك في بلاطات الملوك الصغيرة مثل مملكة المش، وكان الملوك كبارهم وصغارهم في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى يشتركون في حزمة من المراسم والرموز ذات درجات متفاوتة من الولاء والتبعية".

وفي الفصل الثالث الخاص بالطبيب الفيلسوف ابن سينا "1002 ـ 1921" يضيء المؤلف دور بغداد كمركز للسلطة الإسلامية كيف اضطلعت بمشروع ترجمة هائل للنصوص اللاتينية والإغريقية إلى العربية، اشتمل على ترجمة عشرات الآلاف من الكتب في الفلسفة والرياضيات والمسرح والطب، ويؤكد "لقد تخطى تعهد العلم في بغداد مجرد ترجمة النصوص الكلاسيكية، فسرعان ما بنى العلماء على هذه المعرفة، كما تم فتح علمي جديد في القرنين التاسع والعاشر على أيدي علماء وباحثين من آسيا ضمن مراكز السلطة الإسلامية بشكل أساسي".

نتعرف على جزء من سيرة ابن سينا نشأته وتلقيه العالم وعلاقة عائلة بالإسماعيلية ومؤلفاته وما كابده من مشاق بين بلاطات الإمبراطورية الإسلامية، ليصل إلى أن "حياة ابن سينا ومصنفاته تظهر عمق التزام النخبة المسلمة من أسبانيا إلى آسيا الوسطى بالتعليم، فبعد سقوط روما انتقلت حركة التعليم إلى العالم الآسيوي حيث ترجمت المعارف الإغريقية وعلق عليها وطورت حتى فاقتها في نهاية المطاف".

ويتوقف الفصل الرابع عند حطام سفينة إنتان عام 1000 تقريبا التي غرقت في بحر جاوة على مسافة 600 ميل إلى جنوب شرق بخارى، وعثر في قعرها آلاف الأرطال من القصدير المسبوك على شكل أهرام بأحجام متساوية مربوعة ومعلمة مصدرها إقليم كده في غرب شبه جزيرة مالاوي "كانت سبائك القصدير متجهة إلى جاوة التي كانت تصهر هذا المعدن، وهو معدن واسع الاستعمال بشكل ملحوظ وقت تحطم السفينة، كانت تسكب منه التماثيل والمستلزمات الدينية والمنزلية البسيطة مثل الهاون ومفصليات الأبواب والجواهر والأسلحة، وتسك منه العملة البرونزية التي تحتوي على نسبة عالية من القصدير في الهند والشرق الأوسط وكذلك في جنوب شرق آسيا".

السفينة الغارقة كانت تحمل أيضا حديدا للصين متمثل في سبائك وقدور الطبخ ورؤوس الحراب، وتم انتشال أكثر من 245 سبحة زجاجية متماثلة في الحجم والطراز ومثيرة للاهتمام لأنها على شكل عيون، وأيضا تمثالا بوذيا برونزيا وأضرحة برونزية وفخارية منمنمة وأوان خزفية وقدرو نحاسية وأقمشة حريرية وقطنية وخرز، حيث بحلول القرن العاشر "نقلت الأغراض البوذية والهندوسية والأفكار المتعلقة بها على امتداد طرق التجارة إلى بلدان جنوب شرق آسيا وعبر فترة لا تقل عن 500 عام".

من أين حصلت هذه السفينة على هذه التشكيلة من البضائع وما مصدرها "جميع البضائع تم تحميلها من مركز توزيع في سومطرة وعلى الأرجح من مركز توزيع بالمبانق، فلقد كانت البضائع تجلب من جميع الاتجاهات إلى ميناء واحد حيث يخزنها التجار ويعيدون تجميعها في حمولات متجهة إلى موانئ مختلفة، تلك هي طبيعة التجارة بحرا عبر جميع أرجاء آسيا في ذلك الزمان".

الاكتشاف الأهم الذي خرج به العلماء من حطام السفينة إنتان "تطورت تكنولوجيا الملاحة بدخول القرن العاشر محدثة تغييرا في الطرق والموانئ، فقد عثر الغواصون في حطام السفينة على صحن بوصلة، فقد جاء هذا الاكتشاف العلمي من الصين، إلا أنه انتشر عبر جنوب شرق آسيا ومنها إلى الهند عن طريق مسارات الشحن في ذلك الحين".

ويختتم المؤلف فصله هذا بالقول "وكانت السلع التجارية أساسية في الممارسات الدينية، إن العثور على أبواب باهظة الثمن على متن السفينة التي تحطمت يدل على أن نظام الأديرة البوذية كان يشهد ازدهارا وحيوية في جزر جنوب شرق آسيا في ذلك الزمان، وتشير الأغراض المستخدمة في الطقوس البوذية الفاجرايانية إلى فرقة جديدة دائبة الحركة، كان الإسلام آنذاك دينا جديدا ينتشر على الطرق ذاتها، وأخيرا فإن التجارة بدت ضرورية لدوام الممارسات الحضارية اليومية في العالم الآسيوي، فاحتاج الصينيون إلى بخور جنوب شرق آسيا من أجل طقوسهم، كما أن الذهب المستورد كان يستخدم في قصور جاوة".

ومن آثار حطام سفينة إنتان إلى رسائل تاجر التوابل اليهودي أبراهام بن يوجو "1120 ـ 1160" التي كشفت عن القدر الكثير عن تجارة التوابل في العالم الآسيوي العظيم في القرن الثاني عشر "كان نموذج العمل التجاري السائد يعتمد على الثقة والسمعة والعلاقات العائلية والشخصية"، مرورا بابن بطوطة ورحلاته الشهيرة التي رصدت جوانب بارزة في تلك المجتمعات الآسيوية.

إن تواريخ الرحلات امتدت ما بين عام 500 و1500 منصوص عليه في بداية كل فصل، هذه الـ 1000 عام كان العالم الآسيوى فيها مكانا للإمبراطوريات العظيمة والعواصم الضخمة، ففي جنوب شرق آسيا كانت هناك ممالك سريفاجايا، وبيقن، وأنكور، وشامبا وداي فيت، ومع أن الصين مرت بتغيرات طالت السلالات الحاكمة، إلا أنها داومت على ارتباطها ببقية العالم الآسيوي ارتباطا وثيقا، وكذلك كانت هناك عدة إمبراطوريات في الهند، أما الخلفاء العباسيون فقد تمركزوا في الشرق الأوسط، وفي آسيا الوسطى كانت إمبراطورية جنكيز خان وإمبراطورية تيمور لنك.

إن كتاب "عندما حكمت آسيا العالم" جدير بالقراءة كونه يحيط عالما مترامي الأطراف هو عالم آسيا، ويوغل فيه عبر رجال منهم العالم والتاجر والرحالة والقائد عاشوا وعملوا وارتحلوا وقرأوا وتعلموا في هذا العالم العبقري آسيا، مؤكدا على أن الإسلام وعلماءه لعبوا دورا متميزا في تشكل قوة هذا العالم.

المؤلف ستيوارت غوردن باحث مرموق في مركز دراسات جنوب آسيا جامعة متشيغان، ومؤلف عدة كتب عن آسيا، أما مترجم الكتاب فهو د. زياد المواجه حاصل على شهادة الدكتوراه بتميز من جامعة إنديانا في بنسلفانيا ـ الولايات المتحدة الأميركية ـ في أخلاقيات نظريات ما بعد الحداثة والدراسات الحضارية، وهو يدرس في جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، ومهتم بخطاب أدب الرحلات والاستشراق وتداخلاتهما مع الخطاب الاستعماري.

 









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي