الالتزام السياسي والإنساني في «برديات محمود درويش»!

2023-09-09

عبدالله الحيمر

أردت من كتاب «برديات محمود درويش» أن أقدم درويش الآخر بالفرنسية، الحكيم الإنساني. في شذراته وحكمه وأقواله للقارئ الأوروبي، بروحه الكنعانية الشفافة وإلهامه الإنساني، وهو ينصف الكل بآرائه ومواقفه حتى عدوه. وأن ينظر إلى جوهر فلسفة أفكاره من ناحية حمولتها الإنسانية، والوقوف على تخوم نوازعها الخاصة، وبواعثها الدخيلة نحو الإنسانية العميقة فينا.

أولا لا أدعي أنني كنت من أصدقاء درويش في الرباط، كنت أتابعه في كل لقاءاته الشعرية بشغف أسطوري من بعيد. فيما يلي فقرات من مقدمة الكتاب بالفرنسية.

هناك قضية إنسانية خلقت كل شيء في الشرق الأوسط، وهي قضية فلسطين المحتلة، قضية شعب كان ضحية صراعات ومصالح دولية، كثير من الكتاب والشعراء والمثقفون خرجوا من رحم قضية فلسطين الإنسانية، وعلى رأسهم محمود درويش، الذي برع من طفولته المبكرة ونظر إلى الحياة من خلال روحه الإنسانية الطيبة، آمن بحقوق الإنسان بعيدا عن التحيز والكراهية والتعصب العقائدي، وكتب لشعبه وغيره من الشعوب المضطهدة، من خلال رؤيته الإنسانية واستعداده لإظهار مواقفه، بعيدا عن أي اعتبار من مصالحه الشخصية. كان لمواقفه السياسية والثقافية أثر كبير على كل الناس على اختلاف جنسياتهم وأفكارهم وآرائهم، بل إن روحه الإنسانية وإلهامه اللامع اقتضاه أن ينصف الجميع بآرائه ومواقفه، ولم يهتم بما قد يفعله. منعه من انتقاد السلطات لفهمه وضميره الإنساني.

درويش صوت الآخر، الذي أصبح شاعرا للإنسانية، وليس فقط شاعرا لفلسطين، استطاع إخراج الأدب الفلسطيني من ضيق السؤال في فضاء المأساة الإنسانية، مثل اليونانية وغيرها.

كان محمود درويش (1942-2008) في السادسة من عمره حين أيقظته والدته ليلاً، عندما اضطرت عائلته إلى مغادرة فلسطين إلى لبنان. ليس بعيدا عن عكا، عاد إلى فلسطين بعد حرب 1948 ليجد قريته الفلسطينية «البروة» مدمرة تماما واستبدلت بمستوطنتين يهوديتين – يسكنها مهاجرون من أوروبا. يشعر محمود درويش بالغربة في فلسطين مرة أخرى، وعلى الرغم من خسارته قريته، قرر بذل قصارى جهده لتحسين وضعه. لم يرفض العبرية، بل استخدم لغة المحتل كاستعارة في إطار ثابت، حوّل مكتبه إلى نافذة ينظر من خلالها إلى جيله من الجانبين. رغم أن محمود درويش هو شاعر الوطن ورمز المقاومة الفلسطينية في الحفاظ على الهوية الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وكما يسميه شعبه، فهو صوت من لا صوت لهم. ومع ذلك، فقد بحث دائما عن جسور التفاهم بين الناس.

يقول درويش عن التوراة: «تبرز التوراة كأحد هذه الجوانب، كتاب مهم رغم كل شيء»، رغم أنه «مادة لا يستطيع أي مثقف الاستغناء عنها»، كما يقول محمود درويش. ويضيف أيضا: «ربما ستندهش إذا علمت أنني قرأت المآسي اليونانية بالعبرية لأول مرة، لا يسعني إلا أن أقول إنني مدين بالعبرية لمعرفتي بالأدب الأجنبي. بالنسبة للمفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، درويش واحد من أكثر الشعراء العرب موهبة، وله حضور بارز في فلسطين وإسرائيل – البلد الذي نشأ فيه، ولكنه نفي عام 1971. وبالنسبة له، شعر درويش هو «جهد ملحمي لتغيير كلام الضياع. نحو دراما عودة مؤجلة إلى ما لا نهاية». ووفقا لإدوارد سعيد، عرّفت قصائد درويش الوطنية المبكرة الوجود الفلسطيني، وأعادت التأكيد على هويته بعد نكبة 1948. وكان أول موجة من الشعراء يكتبون في إسرائيل، على الرغم من ادعاء غولدا مائير أنه «لا يوجد فلسطينيون». تزامن شعر درويش مع ولادة الحركة الفلسطينية بعد الهزيمة العربية في حرب الأيام الستة عام 1967. لكنه تجنب الثناء تضامنا معها. وكتب مقالا يقول نريدكم أن تحكموا علينا شعراء، لا شعراء مقاومة. على الرغم من أنه يكتب بالعربية، إلا أن درويش يقرأ الإنكليزية والفرنسية والعبرية. (تجاوزت مبيعات كتبه المليون وترجمت أشعاره إلى 22 لغة). ووصف درويش الصراع بأنه «صراع بين ذاكرتين».

تتحدى قصائده المبدأ الصهيوني المتجسد في قصائد مثل قصائد حاييم بياليك «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». على الرغم من إعجابه بالشاعر العبري يهودا عميحاي، إلا أنه كان يقول:» شعره يمثل تحديا بالنسبة لي، لأننا نكتب عن المكان نفسه. يريد استخدام المناظر الطبيعية والتاريخ لصالحه، والبناء على هويتي المدمرة. المنافسة: من يملك لغة هذه الأرض؟ من يحبه أكثر؟ من يكتبها بشكل أفضل؟». ويضيف: «الشعر والجمال يصنعان السلام دائما. عندما تقرأ شيئا جميلا تجد التعايش يكسر الجدران.. أنا دائما أتعاطف مع الآخر، حتى إنني أتعاطف مع الجندي الإسرائيلي»، وهو ما فعله في قصائده. مثل «جندي يحلم بزنابق بيضاء» كتبت مباشرة بعد عام من حرب عام 1967، وانتقد كثير من العرب هذه القصيدة، لكنه شدد: «سأستمر في إضفاء الإنسانية حتى على العدو».

كان المعلم الأول الذي علمني العبرية يهوديا. كانت أول علاقة حب في حياتي مع فتاة يهودية. كان القاضي الأول الذي أرسلني إلى السجن امرأة يهودية. لذلك منذ البداية لم أكن أرى اليهود شياطين أو ملائكة، بل كبشر، فقال: «عدة قصائد مخصصة لعشاق اليهود، وهذه القصائد موجهة نحو الحب وليس الحرب».

يقول عن العبرية: أنا مدين للترجمة، أولاً وقبل كل شيء في اكتشافه للأدب الأجنبي المترجم إلى العبرية (لغة يتقنها تماما لأنه تلقى تعليمه في مدرسة إسرائيلية). جيلي كله يتحدث العبرية بطلاقة. كانت اللغة العبرية نافذة لنا على عالمين. الكتاب المقدس أولا. كتاب أساسي رغم كل ما مررنا به باسمه. هكذا قرأت المزامير، نشيد الإنشاد، سفر الخروج، سفر التكوين. تشكل هذه النصوص مجموعة لا غنى عنها لمن يطمح إلى الاهتمام بالثقافة. ذلك من الأدب المترجم لاحقا. كانت حركة الترجمة إلى العبرية نشيطة للغاية في ذلك الوقت. كانت قراءتي الأولى للوركا باللغة العبرية. وبالمثل بالنسبة لنيرودا. وستندهش إذا أخبرتك أنه باللغة العبرية قرأت المآسي اليونانية لأول مرة، لا يمكنني إلا أن أعترف بالديون العبرية مقابل اكتشافي للأدب الأجنبي.

وعن الترجمة إلى العبرية يقول درويش: لسوء الحظ، لم أرها جميعا. أنا سعيد بالاهتمام الذي أثارته نصوصي، لطالما اشتبهت في أن هذا الاهتمام جاء بدوافع سياسية وليس بدوافع أدبية. أخشى أن هذا العمل لا يخلو من دوافع خفية. هذا ما حدث مع الترجمات من العبرية إلى العربية: معرفة كيف يفكر الإسرائيليون، وإيجاد نقاط ضعف العدو أمر طبيعي، آمل أن ننهي الشكوك المتبادلة. يقول: «حررت نفسي من كل الأوهام وأصبحت ساخرا. سألت أسئلة مطلقة عن الحياة، لأنه لا مجال للأيديولوجية القومية». نُفي درويش إلى باريس من عام 1985 إلى عام 1995. كتب أيضا بعضا من روائعه: «أحد عشر كوكبا» (1992) هو تسلسل «غنائي ملحمي» 1994، قصة رحلة كريستوفر كولومبوس التي دمرت العالم الأمريكي الأصلي، وطرد عرب الأندلس، وهما متوازيان مع فلسطين. النكبة بالطريقة التي وصف بها الفلسطينيون قيام دولة إسرائيل عام 1948. «لماذا تركت الحصان وحيدا؟» (1995) هي «سيرته الذاتية الشعرية». انتشرت قراءات شعر محمود درويش وسعت إلى حصر دوره في الجانب السياسي، والشاعر هو حقا من يستطيع أن يعطي شعره بعدا إنسانيا يتخطى من خلاله إطار الجغرافيا. أن يصبح حاضرا في التاريخ. لقراء الشعر في جميع أنحاء العالم قائمة طويلة من الشعراء الذين حملوا راية التعبير عن قضاياهم الوطنية، لكن شعرهم اتسع في الوقت نفسه ليحمل طابعا إنسانيا أكثر عمقا، وبالتالي قراء القصائد يمكن أن يشعرهم لوركا، وبول إيلوار، وبريشت، وبابلو نيرودا، اليوم، بقدر كبير من الامتنان لما تمنحه هذه القصائد من مشاعر تفيض بالتضامن الإنساني، وتعزز وجود القيمة الجمالية كأهم معيار للحكم على ميزة النص الأدبي. سعى محمود درويش طوال حياته المهنية التي امتدت لأكثر من نصف قرن، إلى إدخال شعره في فضاء إنساني أعمق من دائرة الانخراط السياسي اليومي.

قال درويش في حديث: «لم أعد أعبر عن اللحظة السياسية الفلسطينية، بل أعبر عن إنسانية الفلسطيني، وهكذا انتقلت من نموذج يحتذى به إلى الإنسان، أي أنني مطرود من صياغة الخطاب السياسي، وأن الخوض في مأساة الحالة الإنسانية، المسألة القومية للوجودية العامة»..

عاش درويش حياته متشبثا بالأمل، واستندت رؤيته إلى تصور أنه إذا لم يكن هناك أمل فعليك اختراعه. وقال درويش في حديث للناقد شربل داغر: «قوة الأمل لا تأتي دائما من قوة التعبير عن نهاية متفائلة للذبح البشري، لأن قوة الحزن وحتى قوة اليأس، إذا تم التعبير عنها بشكل خلاق، تخلق أمل. وهو أمل الإبداع البشري». ولعل الشعور بالأمل من أكثر الحواس غزارة في نصوص الشاعر الراحل، حيث أراد من خلاله خلق «هوية مشتركة» تعالج مأساة الاحتلال. أصر درويش في عدة مناسبات على رغبته في تحرير قصيدته من طابعها الوثائقي، ينجح في المقابل في تطوير التفكير في مفهوم الالتزام السياسي، ويجعله رفيقًا للالتزام الإنساني، وتعكس أشعاره. مسار هذا التطور بوضوح مذهل، مرتبط بتجارب الشاعر وتجاربه المتنامية، بداياته داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة والتهجير واللجوء. في الثمانينيات كتب مقالا أظهر فيه وعيا استثنائيا بأهمية تحرير النص من ضغوط اللحظة وأعلن: «ما يهدد نمو كتابتنا الأدبية هو الجانب اليومي للسياسة، لأننا دائما نتعرض لمشروع إبادة، يحشد كل طاقات الدفاع عن النفس لمواجهته، ما يضع البراعة الأدبية في حرج أخلاقي، مثل التساؤل عما تنبثق الإنسانية من هذه الجمالية؟ ويضيف: «إذا كان من سمات الأدب أن يكون ورشة لإنتاج الجماليات، فإلى متى سيقتنع الإنسان فينا بهذا التناقض الذي يحول الجرح إلى وردة؟ هل عودتنا الحياة على إعطاء الأولوية للوظائف على الجماليات؟ لكن الأدبيات تعرض فعاليتها من حيث الأدب، والفعالية، وليس من حيث الفعالية. تحرر شعر درويش في مرحلته الأخيرة من المعنى السياسي المباشر، وذهب للبحث عن تفاصيل صغيرة. عمل على صياغة مفهوم إنساني للهوية الفلسطينية، بناءً على تجارب الأماكن، وصولاً إلى التعريفات التي استعبدت الفلسطيني. لقضيته وحدها، أو لأوصاف اللجوء وحدها.

قال درويش في حديث: «لم أعد أعبر عن اللحظة السياسية الفلسطينية، بل أعبر عن إنسانية الفلسطيني، وهكذا انتقلت من نموذج يحتذى به إلى الإنسان، أي أنني مطرود من صياغة الخطاب السياسي، وأن الخوض في مأساة الحالة الإنسانية، المسألة القومية للوجودية العامة».. رفع محمود درويش الجرح الفلسطيني إلى المستوى الإنساني والكوني، ونضاله الذي حدد القضية الفلسطينية وجعلها قضية عالمية. مارست تجربة محمود درويش الأفق البشري، ورسخت معاناة الذات والجماعة (الشخص الفلسطيني) في الإنسان العام، من خلال الجمع بين أوجه الشبه (تجربة العرب في الأندلس، إبادة الحمر، وحاجة أحصنة طروادة لشاعر يديم هزيمتهم في سموه الإنساني) والفرق الذي يجعل الفلسطيني متجذرا في الوطن بسبب اللغة والبعد المأساوي. كل إنسان عند ترديده لشذرات وأشعار محمود درويش سوف ينبهر، ليس فقط لأنه يكتشف بُعدا أعمق للإنسان، ولكن أيضا بعدا جديدا لطبيعة الارتباط بالأرض، وتكتشف أن الظلم أن يجعلك وحشا، وتعيد اكتشاف كل محبتك للرجل الآخر، دون أن تفقد الحق المشروع في مقاومة الظلم وغياب العدالة، وهذا هو جوهر شعر درويش الإنساني.

أخيرا، قبل أن يودع العالم، نجح درويش في إعطائنا الإحساس والوعي بأن شعره لم يكن للفلسطينيين فقط، بل أعطانا قناعة بأنه شاعر للبشرية جمعاء، ولكل إنسان يكافح أو يتعرض للتهجير أو العيش في الشتات، كما يعيش شعبه الفلسطيني، لذلك لا يقتصر شعر درويش على الفلسطينيين أو همومهم، كما أن الفلسطيني ليس وقفا لنا نحن العرب، بل هو ملك للتجربة الشعرية والإنسانية في جميع أنحاء العالم.

كاتب ومترجم مغربي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي