«مستر نون» روايةّ تنبشُ في السيكولوجيا العكسيّة

2023-09-05

نسرين بلوط

العلاقةَ بين علم النفس والرواية ثابتة لا تتقهقر مهما لعبت الحداثةُ دوراً في تفعيل العوامل السلوكية، أو الاجتماعية التي تجوّف صرخات البيئة الجوفاء وتتّبع مراسمها الروتينية التي قد لا تتغيّر بفعل الزمن. ولأنّ الريبة والتعلّل بالوهم قد يشفعان للضمورَ الوجداني، الذي يعاني منه الإنسانُ المهمّش، والذي وُضع اسمه على لوح المقادير البائسة الناطقة بالجوى، ولأنّ الادعاءَ بنكران الواقع، يؤّجل قليلاً من وقع الجراح المثخنة في انكسار روح العليل، يمضي مستر نون بطل رواية نجوى بركات التي تحمل الاسم نفسه، في الانتقال الديناميكي بين تعريف الأحداث وتطريفها صوب الأبعاد اللامرئية، مجزّئاً ماضيه إلى امتداد مساحاتٍ زمنيّةٍ صاخبة، لم يبرأ بعد من ثقل رحاها.

يقتبسُ مستر نون محاولته للعودة إلى الكتابة بعد انقطاعٍ طويل، من قصّة لعازر الذي قام من الموت بعد أن فكّ عنه المسيحُ طلاسمه الصدئة، ولكنّه يتساءل كيف عاد؟ وكيف تنبثقُ كلّ تلك المشاعر الإنسانيّة التي تبعثرت وتعرّت وتصلّبت إلى الحياة من جديد بعد أن احتواها الرقاد العميق بأجفان السكينة العميقة؟

يعود مستر نون من رحلته الفلسفيّة، ليفردَ أوراقَه في كفّ الزمن، يحدّثُ عن المكان الذي يعيش فيه، باعتباره فندقا، ويشيد باهتمام مدير الفندق أندريه ومساعدته زهرة التي تحرص على راحته، يبحث من حوله عن وجوهٍ ألفها في مكان إقامته، فيذكر جارته السيدة التي قتل زوجها وأولادها في انفجار البراميل في حلب، وبقيت تتنفّس دون حياة، فقد ذوت براعم سنواتها وجفلت ضفائرُ صباها وخلّفتها الريح سنبلةً عوجاء لا رمق فيها، تزدادُ شحوباً ونحولاً كلّ هنيهة. يحدّث مستر نون كذلك عن جاره داوود الذي يسمعه كلّ ليلة وهو يضرب بيديه على جدران غرفته، يسبّ ويلعن زوجته دون سببِ واضح، ودون أن تصدرَ أيّ صوت، ليكتشفَ لاحقاً بأنّه يتصارعُ مع خيالها الذي يطارده بعد أن تقمّصته عقدة الذنب بسبب انتحارها، الذي عزاه إلى إهماله الدائم لها.

في رحلته الرجعيّة نحو الماضي، يحضر مستر نون صورة والدته ثريّا، التي ثقبت دوائرَ من كلمٍ لا تغيب في قلبه، وتجرأت لتنتزعَ حقّه عليها في أمومتها وحنانها، بحيث نشأ وحيداً متكوّراً على عزلته بين المقعد وزاوية الصالون، كانت قد اكتفت من الغرف من لآلئ الأمومة حين أنجبت أخيه الأكبر «سائد» وأغدقت عليه طوفان عاطفتها، وكان مجيئه إلى عائلتها حسب اعتقادها خدعة من الغيب لم يكن لورودها من حسبان في أجندتها، جعلتها تزدادُ مقتاً ونكراناً لوجوده في حياتها. فلجأ إلى أبيه الطبيب ليعوّضَ القليلَ من القحط والجفاف الشعوريّ الذي يعانيه، ولكنّ أباه يتخلّى عنه بدوره، حين يسير أمام عينيه نحو النافذة ويلقي بنفسه في أحضان الهواء المتسرّب من صقيع الموت، وربّما اختار الانتحار بسبب مجازر الحرب الأهليّة التي نحرت أرواحَ الأبرياء ولم يستطع بدوره كطبيب في مجزرة الدامور التي شهدها خلال عمله بأن يدرأ عنهم أخطارها.

يقول مستر نون، حسب وصف الكاتبة بركات، بأنّ يدَ الأمومة التي تربت على المربّع غير المنظور في ظهر الطفل قد ضربت بسهامها الآلام المعفّرة التي خلقها جفاءُ أمّه له، فأصبحت أطواره غريبة كالريح المزمجرة في صحوة العاصفة، يسير مفتعلاً المشاكل، ويزور منطقة الدورة ليصادفَ شخصاً من الماضي يدعى لقمان، كان والده قد وصفه له بصفته الشخص الذي ارتكب مجزرة بحقّ أطفالٍ كان يعالجهم في مركزٍ صحيّ، ولكنّ لقمان هذا يسلّط عليه شبّان محلّه ليعاجلوه بلكماتٍ حادّة عند اشتباهه بتحديقه الدّائم له، معتقداً بأنّه يتجسّس عليه، فيعود إلى منزله وهو يعاني الآلام المضاعفة، ولكنّ الغريب أنّه يصبح مدمناً على هذا الضرب المازوشي، فيجد نفسه يجوب الشوارع مفتعلاً المشاكل كي يتلقّى الضربات واللطمات وكأنّه يكفّر عن خطيئته بأنّه حي، لأنّ اختفاءه كان مطلب أمّه ثريّا التي عرّضته للاضطراب الانشقاقي. تجول به ذكرياته عبر الماضي إلى حبّ أليم مع ندى، التي أخلفت وعدها وهجرته بعد حبّ دام سبع سنوات، وكان تبريرها جملة واحدة تركت ثقلها وخشعتها الموجعة في أعماقه حين قالت: «لم أعد قادرة على حملك»، وكأنّها شبّهته بشيء ثقيل تحمله على كتفيها وتودّ منه الفكاك. ثمّ يعرج به الحنين إلى شايغا القادمة من النيبال للعمل في الخدمة المنزليّة، ولكنّها تقع في شرك رجلٍ يدعى المستر جو فيجعل منها فتاة ليل متمرّسة في البار الذي يمتلكه، ويلتقي بها مستر نون خلال نوبةٍ من تشرّده الروحيّ الشقيّ، خلال مشاجرةٍ مع بعض شبّان أحد الأحياء في منطقة الدورة، فتأخذه إلى منزلها وتعتني بجروحه وتطعمه وتعامله كطفلٍ صغير، وتقع في حبّه ليأخذها بعد فترة إلى منزله ويطلب منها أن تترك عملها مع مستر جو، فترتعد رعباً وتعارضه وتناقشه مبرّرة بأنّ الرجلَ شديد الإجرام، ولكنّه يطمئنها بأنّ الأخير لن يعرف مكان إقامتها.

وها هو مستر نون يصطادُ في مستنقع المتاعب، لأنّه يذهب بعد فترة إلى البار الذي كانت تعمل فيه شايغا ليسأل صديقتها بطريقةٍ غير مباشرة عنها وعن موقف مستر جو بعد رحيلها، فتقع منه بطاقة هويّته بسبب ارتباكه. وعند عودته إلى المنزل يجد مستر جو بانتظاره مع اثنين من رجاله اللذين أوسعا شايغا ضرباً حتّى أغمي عليها، ويقومان بسحله وركله ولطمه، ثمّ يلقيان شايغا من النافذة لتلقى مصرعها. يُنقل مستر نون إلى المستشفى بين الحياة والموت، ثمّ يوضع بشهادة طبيبة نفسانيّة في المصحّ النفسي الذي يعتبره فندقاً ينالُ منه من الترفيه ما لم يصبه في واقع الدنيا، ثمّ تختتمُ نجوى بركات روايتها بالهلوسة التي تراود مستر نون وتجعل من التهيّؤات خنجراً مسموماً ينالُ منه، إذ يخالُ بأنّ لقمان يطارده ويقتحم عليه غرفته دون درايةٍ من أحد، وأنّه يلازمه كظلّه الأبدي، فيقوم بغرس أقلام الرصاص التي يمتلكها في جسده. وتأتي النهاية بتقريرٍ من الطبيب ينصّ على أنّ السيّدة نون التي قضت في المصح أكثر من خمسة عشر عاماً لم يزرها فيها مخلوق ماتت انتحاراً، كما وجدتها الممرّضة زهرة وقد غرست أقلام الرصاص في جسدها ونزفت حتّى الموت، وهي كاتبةٌ تتقن اللعب بالشخصيّات، وقد وجد إلى جانبها مخطوطةٌ مرقّمة تدعى «مستر نون».

كاتبة لبنانية









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي