عن حكاية داماريس العاقر وكلبتها تشيرلي: كيف لا يغادر الناس أرضهم الخالية من أي مسرّة!

2023-08-13

حسن داوود

الجرو الذي اختارت داماريس أخذه، من بين الجراء العشرة الموضوعة في صندوقة كارتون، كان كلبة أنثى. سكان تلك القرية الواقعة على جرف بين البحر والغابة يؤثرون اقتناء الكلابَ الذكور، لأنها لا تُنجِب. داماريس رأت، مرّات عدّة، كيف يرمون الجراء الصغيرة في البحر. كان لديها، أو لدى زوجها روخيليو، ثلاثة كلاب كبار، ذكور كلّهم. في القرية الجميع يقتنون كلابا، وهذا ما يبدو ضروريا لهم في عيشهم هناك بين حدّ الغابة الصعبة المسالك وحدّ البحر الخطِر. داماريس رأت بعينها أيضا كيف سقط الطفل نيكاليستو، رفيقها في اللعب، عن الحافة الصخرية التي غامر باعتلائها. كان الموج يضربها بقوّة، ولم يعثر عليه أبداً. تلك كانت مأساة داماريس الأولى، المسبِّبة لعذابها، إذ كان عليها أن تكون أكثر حزما في ثنيه عن تهوّره.

ذاك أنها لا تتذكّر إلا قليلا صعود أمّها في ذلك القارب، راحلا بها إلى غير رجعة. ربما لأن الفقدان والموت، والمرض، ليست مفجعة للمقيمين في ذلك المكان. والموت كثير على أي حال، وبعضه يكون مرّاً كمثل ما رآه الناس من موت السيّد فيني، الذي بعد أن شُلّت حركته بالكامل ولم يعد يستطيع تحريك شيء إلا أصابعه، توجّه إلى حدّ الجرف الصخري وألقى بنفسه، مع كرسيّه المتحرك، في البحر. زوجته روسّا أرجأها الموت حتى استفحال خرفها.

الكلبة التي اختارتها داماريس تحوّلت تعويضا عن طفل لم تستطع الحبَل به وإنجابه. كانت، لتُدفئها، تضعها تحت حمّالة صدرها، وكان ذلك يُحنق روخيليا، لا بدّ، إذ يرى أن ليس إلى هذا الحدّ يُدَلّل الكلاب، لكنه لا يُفصح عن شيء. هو قليل الحضور، يكاد يقتصر وجوده على خروجه من البيت ثم عودته إليه منتظرا طلوع الصبح حتى يغادر متجها إلى البحر الذي قد يغيب فيه ستة أيام كاملة. كانت الكاتبة قد تأخّرت في إبلاغنا أن ذاك الرجل هو زوج داماريس. في الصفحات الأولى يبدو لقرّأء الرواية أنه يمكن أن يكون والدَها، أو شقيقَها الذي تخافه، بل كنا، في ما نقرأ، نظن أنها ما تزال فتاة صغيرة وهي تطلب من السيدّة أوليديا أن تسمح لها بأخذ الكلبة. وهما لا يبدوان كزوجين على أيّ حال. لم يمرّ عليهما وقت كانا فيه حبيبين. من بين رجال كانوا متجمّعين على الميناء اختارته، زوجا لا حبيبا، اختارته مثلما اختارت الكلبة من بين الجراء في صندوقة الكارتون. ومن أجل أن تنجب كانا يقومان بما يقوم به الأزواج، مسرعين ملحّين قبل أن يتأخّر بها العمر عن إمكان ذلك. لم يوفّقا، لذلك راحت تربّي الكلبة مثلمّا تٌربّى طفلة.

كانت تطعمها الحليب بالزجاجة وتكثر من تنظّيفها، وتضمّها إلى صدرها لتغفو على دفئه. لكن، والكلبة ما تزال في شهورها الأولى، أغراها الذهاب إلى الغابة بعد أن رأت الكلاب الثلاثة راكضين معا إلى هناك. ولم ترافقهم تشيرلي (وهو الاسم الباذخ الذي أعطته لها داماريس) في العودة. بقيت في الغابة أياما طالت إلى حدّ أن داماريس كادت تعتاد الحياة دونها، لكن الكلبة عادت أخيرا، نحيلة جائعة ومصابة بجروح عديدة. كان ينبغي مداواة جروحها وتأهيلها من جديد. لكن، بعد أن شفيت وعادت إلى ما كانت عليه من قبل، عادت وهربت إلى الغابة. وقد تكرّر هروبها ومن ثم عودتها. كانت مثل ولد أسيئت تربيته، متفلّتة عاقة ما دفع داماريس إلى إهدائها لامرأة من ساكنات القرية، لكن تشيرلي لم تلبث أن عادت لتردّ على العقاب بالأذى هذه المرة. وكان أذاها فادحا إذ راحت تمزّق أردية البيت الذي تقيم العائلة فيه إقامة مؤقتة، وبالإعارة.

دولوريس التي لا تطيق القسوة ولا تحتملها وجدت نفسها تأخذ بخناق الكلبة وتظل تضغط بكل ما في ذراعيها من قوّة. ماتت تشيرلي مختنقة، ولم يكن ينقص داماريس إلا معاناة الشعور بالذنب من جديد. حتى أنها فكّرت، هي التي كانت وما تزال تظن أنها لا تصلح لشيء، أن تلقى مصير الطفل نيكاليستو. تلك الكلبة حوّلت حياة داماريس إلى مأساة. كان خنقها للكلبة يفوق قدرتها على الاحتمال، هي التي يصعب عليها أن تسقط من يدها آنية من أواني المطبخ، فتلعن نفسها وجسدها «الذي لا يمنحها الأبناء ولا ينفع سوى في كسر الأشياء». امرأة هشة وقلقة، رغم ضرورة الاعتياد على الصبر والفقر، والحياة الصعبة التدبّر، وسخط الطبيعة الذي لا يتوقّف حيث العاصفة تليها عاصفة ليفيض الماء دون أن تقدر على إيقاف تدفّقه. سيكون عليها، حين تنتقّل، أن تخوِّض في الماء حتى ركبتيها، لتعود بعد رحلتها خالية الوفاض. امرأة هشة سريعة الكسر، على الرغم من أنها، حين ترفع كفّيها وتحدّق في باطنهما، تجدهما سميكتين متشقّقتين مثل كفّي رجل. أما الحياة فلا تأتي إلا بالخسارات. ليس في ما يخصّها فقط، بل في ما يخصّ زوجها روخيليو أيضا، بل يشمل ذلك جميع أهل تلك القرية الواقعة على المحيط، حيث لا شيء يعد بالمسرّة.

الرواية الصغيرة، على الرغم من استغراقها بالتفاصيل، وإحاطتها بذلك المكان الداعي إلى التساؤل، كيف قدّر لهؤلاء البشر أن يبقوا فيه، تدعو إلى أن تُقرأ، من بدايتها إلى نهايتها، كنصّ شعري.

رواية «الكلبة» للكولومبية بيلار كينتانا نقلها إلى العربية أحمد محسن وصدرت عن دار الرافدين في 104 صفحات سنة 2023

‏كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي