عندما أنقذت المُذكرات بلقيس شرارة

2023-08-12

ملاك أشرف

صممت الكاتبة العراقية بلقيس شرارة أن تبعدَ نفسها عن الأحزان المُتراكمة في أعماقِها؛ لذا عادت خطواتها إلى الماضي، باحثة عن سكينةٍ منسية لَمْ تأخذها معها إلى المُستقبل، كي تنفدَ وتبقى وحيدة بلا وسيلةٍ علاجية تُعيدها إلى الحياة بشكلٍ نابض ومُطمئن! قررت أثناء تغلغلها في الماضي أن تكتبَ مُذكراتها بعدَ سنواتٍ عدةٍ مضت على تجاهل واستبعاد تلكَ الذاكرة الحادة لتصبح في ما بعد بلسما وعلاجا سيكولوجيا لذاتها المُنهكة العليلة، التي تحررت من القلق والاختناق، في وقتٍ مُتأخرٍ لا مجالَ فيهِ للشفاء الكبير والدائم.

«إنها ذكريات تحوم وتقبع في تلافيف دماغ كُل منا، تجعلنا نختلف عن الآخر، فليس هُنالك ذكريات تحملها تشبه ذكريات الآخر، إنها حقائب ذات ألوان مُختلفة بألوان مزاج وتجربة أصحابها» تكتب شرارة واصفة الذكريات بأنها مُتغيرة كحقيبة المُسافر إلا أن حقيبة الذاكرة تختلف عن حقيبته في أنها تفقد الأمتعة والأغراض بسرعة، إذا لَمْ يعتنقها صاحبها من أجلِ حبسها في مكانٍ ثانٍ كأن يكون الورق أو صفحة الهاتف البيضاء مثلا.

أصبحت المُذكرات المُنبثقة فجأة من تحت رماد الأيام وتكالب الأزمات كتابا كاملا، نشرتهُ دار المدى لاحقا، ووصل إلى ثلاث طبعات بغلافٍ شاعري بهي، يحمل ابتسامةَ بلقيس وزوجها رفعة الجادرجي بلقطةٍ على هيئةٍ واثقة مُريحة تُفصح عن طبيعة روحيهما.

افتتحت الفصل الأول من مُذكراتها المعنونة بـ»هكذا مرت الأيام» بميلادها وطفولتها المُضطربة في مدينة النجف، فبلقيس كانت أكثر البنات صراخا وصخبا في صغرها، لَمْ تهدأ قط مثل أُختها الأولى مَريم، كما لو كانت تتنبأ بقدوم الحرب العالمية الثانية وبكاء الناس في البلدان الدامية، دون أن يستمع أحدٌ لتنبيهاتها وتحذيراتها، إنما حاولوا إسكاتها وتوبيخها لئلا يعلو صوتها المُتهدج مُجددا، ويُوقظ الآخرين من سكينتهم وإهمالهم اللانهائي، وفي حين سكرة هانئة توفي الملك فيصل الأول في العراق واندلعت النيران الشرسة، واستفحلت الصراعات المألوفة في المُجتمع غير المُستقر والمُتآمر آنذاك. اختزلت الكاتبة حياتها النجفية بمرضٍ مُنتشرٍ لندرة المياه المُعقمة في البلاد، حيث أصابتها بالعدوى وأقعدتها في غرفةٍ ضيقة تتوسطها سجادة مُزخرفة كئيبة خوفا من عدوة أهلها وتمكنه من السيطرة على أجساد كثيرين ليسَت لديهم مناعة أو قوة لمواجهة أحداث الدهر والأوبئة الخطيرة. قضت وقتا طويلا في لبنان بمُجرد أن تجاوزت الخامسة من عُمرها، تحدثت عن تقاليد وخصوصيات المُجتمع اللبناني والضيعة الهادئة الراكدة التي بقيت فيها حينئذٍ حتى عودتها إلى العراق، أدركت مع مرور الزمن أن العيش بينَ الأصدقاء أحب إليها من العيش بين الأقارب والتجمعات العائلية المُنافقة السابقة.

أما محطتها اللاحقة في الناصرية فصورت من خلالها مشهد مُعلمتها المسيحية المُتسائلة عن أعمار تلامذتها، إذ تشير شرارة إلى الطفل المسيحي وكيفية تسجيله في الكنيسة منذُ البداية وعليهِ لا يضيع عُمره الحقيقي بينما التلاعب بالأعمار موجود بكثرة وبشكل طبيعي بينَ المسلمين، كيلا يلتحقوا بالجيش، أو يفوتوا الصفوف الدراسية بسبب صغر سنهم.. هذهِ ظاهرة لافتة ومُشكلة غريبة في آنٍ واحدٍ استعادتها الكاتبة بنبرةٍ غاضبة، كما استرجعت ذِكرَى جهلها بكلمةِ الوطن حينها لا شك!

انتقلت عائلة شرارة إلى مدينة الحلة وتحديدا إلى بيتٍ مُقيد المساحة، وخالٍ من الحديقة المُخضرة على عكس منزلهم الناصري، مُقتنعين بتعيين رب الأسرة كمدرسِ لُغة – يتقن اللغة العربية – في مدارسها الثانوية، جاءت المشاهد مُسترسلة وطازجة وكأنها وقعت لتوها باستثناء لوحة المرض الفتاك الذي نما في شَعر بلقيس المُمتد الحريري؛ ما بعثَ في نفسي الاشمئزاز ولسعَ جسدي من فرطِ قساوتهِ وبرودتهِ.

استأنفت السرد المغموم بإرغامها على ارتداء معطف شتوي من قبل عمتها الصارمة، مُستغلة غياب والدتها المُثقفة والرحيمة، لذا جابهت الواقع المفروض وتمردت تاركة نفسها بلا ثياب ثقيلة تحميها من اشتداد البرد إلى أن انتهى النزاع مع عمتها المُتزمتة، بالذهاب لشراء ما يحلو لها عن طريق أوامر والدها الحساس. رُبما طغى هذا السلوك البربري الهمجي داخل أغلب العوائل العراقية سلفا وإلى هذهِ اللحظة حتما، جراء تراجع فهمهم لحالات في غاية الأهمية منها: التمييز، الذوق الفردي، الاختيار الشخصي والرؤى الحسية؛ نظرا لذلك يكبر الأبناء وهُم مهزوزو وضعيفو الذات، لا يعرفون التعامل مع شؤون الحياة ولا التفريق بين الجيد والمُزيف، بينَ الباهت والبراق وإلى آخره من الأضداد التي تدفع الفرد نحوَ الضياع وفقدان ميزة الغربلة، والعقل النقدي بالإضافة إلى جعله ضحية لتسلط أُسري قاتل للبناء ومُحرض لا شعوري على الهدم..

أمست السينما الترفيه الوحيد لشرارة وعائلتها، أو لبقية الناس طوال فترة إقامتهم في بابل وعالمها المحدود بلا إيقاع، لا تهم الصغار مثل بلقيس القصة ومتاعبها للذهن، بل الفواصل الموسيقية ووجه المُمثلات المُغريات. على ما يبدو أن مثل أوضاع صبيانية كهذه اتخذها الكبار نمطا يُعبر عن غاياتهم وتطلعاتهم، ولَمْ يعد الأمر يقتصر على فئة الأطفال غير المُدركين، نلحظه تجاوزها، أصبح ناطقا بلسان العديد من السفهاء الفارغين اليوم. غير أن بلقيس ناقضت نفسها عندما اهتمت بالقصة وأنكرت غواية الملذات بعدَ حين، فقالت مسوغة اختلافها وبعدها عن طيش المُراهقة المُلتفعة بهالة الشباب وقتها بـ»إن تلكَ الأفلام أثرت في خيالنا ووسعت مداركنا، كُنا أنا ومريم نستعيد قصة الفيلم الذي شاهدناه في الليلة الماضية ونتحدث عنه بالتفصيل، كأننا نبحث موضوعا مُهما».

إن المُجتمع العراقي، ولاسيما في الجنوب، مُنغلق بالنسبةِ للمرأة، إذ الذكورة المريضة والعادات المُخزية لها دور جلي في التحكم بمصائر النساء وحرمانهن من حق انتقاء شريك الحياة، أو إقامة العلاقات المُحترمة كأبسطِ مثال، ما زالت مُستمرة أصلا وتقع على عاتقها تحريك المرأة كاللعبة كيفما تشاء، لكن بنسبةٍ أقل من النسب المُرتفعة والمُخيفة غابرا؛ لما عليه من مُناورات نشيطة فعالة تهدف إلى جعلهن سمكة مأكولة مذمومة في نهر ظلامهم المُكفهر، وعصرهم الذي ينعمُ فيه الأشرارُ وينذلُ فيه الأخيارُ.

بدأت القراءة والمُطالعة في المرحلة الثانوية، وعلى وجهِ الخصوص في مراحل استقرارها في العاصمة بغداد، استحوذ عليها الشعراء الرومانتيكيون الإنكليز، خاصة بيرسي شيلي، جون كيتس وجورج بايرون، إلى جانب كتب المنفلوطي وهذا ما يفسر أسلوبها الشاعري وفيضها العاطفي والحدسي في الكتابة والحياة معا مُستقبلا. خسرت عاما دراسيا استنبطت فيه مُتأثرة بما حصل، أن الشهادة المدرسية أو الجامعية ما هي إلا مفتاحٌ فقط للمرور إلى مفاصل الحياة القليلة، وليست جوازا أو رخصة للحصول على الحياة بكاملِها، فالمعرفة والعلم كالبحر لا ينتهي باستلام شهادة النجاح والعبور فحسب، لا مفرَ من تناوب النور والظلام وتعاقبهما. كانت مُدرساتها للُغة العربية لبيبة القيسي مُلهمة الشاعر بدر شاكر السياب، والشاعرة التقليدية عاتكة الخزرجي، الجالسة بمُفردها في حديقة المدرسة، والمُتأملة الشاردة بغرض ولادة قصيدة ما.

استمعت شرارة إلى موسيقى الرومانتيكيين في دار الشاعرة الرائدة نازك الملائكة، أصغت إلى الألحان وغنت كلمات الشعراء وحفظتها عن ظهر قلب، حيث ربطت أفراد بيتها أواصر علاقة وطيدة وزيارات مديدة بينهم وبين الشعراء الرواد وقتذاك، لأنها صداقاتٌ فكرية خالية من المصالح الخبيثة والرغبات الوضيعة الدنيئة.

رأت أن شارع أبي نواس من شوارع المُشاة البغدادية ذات الأجواء المُكهربة، الذي شملها رذاذه؛ نتيجة التحرشات والمُضايقات البغيضة، رغم أنني أراهُ من وجهةِ نظرها وأُضم الرصافة الموبوءة كذلك إليهِ، أعتقد أن البيئة العراقية ظلت على ما كانت عليهِ من قبلُ، والعودة للخلف هي تخصصنا، نحنُ العراقيين!

استلمت قبولها في قسم اللغة الإنكليزية في كلية الآداب بعدَ مُدةٍ وجيزة من اجتماعها باللجنة المُكونة من الكاتب جبرا إبراهيم جبرا صديق عمها الكاتب عبد اللطيف شرارة، والكاتب دزمند ستيوارت. هُنا يتبين صوتها المسموع، اسمها واسم أُسرتها المُثقفة والمُواظبة على المعرفة، التدوين، إبداء الرأي والنقد والتحليل، بعيدا عمن كانوا مشلولين في التفكير وفي أحضان التلقين والدرخ. تعرضت للاعتقال وفصلت عاما كاملا من كلية الآداب، لصدور أحكام قاسية بحق الطلبة اليساريين والشيوعيين المُنخرطين والمُتورطين رسميا في السياسة، التي يشوب تاريخها القهر والندوب حينذاك. ارتبطت بلقيس في النهاية بالمُهندس المعماري رفعة الجادرجي، نتيجة التقارب الفكري الكفيل باقترانهما مع بعض، يأخذهم اللقاء على الدوام إلى الأُدباء والشعراء الإنكليز والمُوسيقى الغربية، لكنه يتجنب فن العمارة خوفا في قرارةِ نفسه من خدش بلقيس وجرحها؛ ذلك لأنها ببساطة تجهل الموضوع وما كانَ عليهِ سوى الشعور والفطنة بالشأن المُحرج، فلا مكانَ للانفعال والإثارة أو الغضب في قاموسه؛ ما يدل على سموه، رفعتهِ ورقيه الباهر المُتبلور بسبب تربية ونصح والده الحكيم.

ترتدي ألوانا تتبع تقلبات مزاجها ومُبتغاها، الأسود في الاحتفالات والأبيض في الأحزان، مُعتقدة أن الإنسان هو مَن ابتكر رموزا لتلكَ الألوان وأضافها إلى مُخيلته ثُم أسقطها على الأشياء، أنا اِنحازُ إلى هذا التصور، ولا أؤمن بخرافات الألوان والأعراف الاجتماعية السائدة قطعا. لَمْ تمضِ إلا بضعة أشهر على زواجهما حينما عزفت الكاتبة عن الأدبيات، وفتحت المجلات الشهرية التي تصل إلى دارها وتقرأ عن المعماريين الحديثين وتصاميمهم البراقة، بغية مواكبة الفن المعماري وحركاته الإبداعية، بيد أني قد وجدتها عملت عملا ناجحا وخطت خطوة مُوفقة، بما أن الحياة يسودها التنوع، لا تتوقف عندَ الأدب بنوعيه النثري والشعري فقط ولا بُد من الاطلاع الدؤوب والأخذ بطرفٍ من كُل علمٍ.

آمنت هي وزوجها رفعة بالتحرر من الأسلاف وليسَ الانقطاع المُطلق، فإن هُناك فرقا بينَ التحرر والانقطاع، الأول يعني الحفاظ على الهُوية والاستقلال الرصين الذي تغذيه جذور الماضي بينما الثاني يعني الاعتماد على الغرب وعدم الاستناد إلى التراث والكلاسيكيات المتينة العريقة والأخير هو ما نخشاه على الدوام.

كانَ العراق في عهدهم مُتقدما من جهة الأدب، الفن والعمارة، ومُتخلفا من الجهة الاجتماعية، والعقلية الريفية المُجحفة، يعيشُ تناقضا وازدواجية كبيرة، دامت إلى القرن الحادي والعشرين لكن – لسوء الحظ – غرق الأدب والفن والعمارة والبلد برمتهِ اليوم.. غالبا ما نأت شرارة عن نفسها وفقدت معنى كُل شيءٍ، مُحاولة أن تسترد الحياة في نوبات الألم والسقم الشديد وتجمد الزمن، أو تغادرها دون عذابٍ جهنمي ورتابة مُلقاة إلى جانبها على السرير، ترددُ ما قالهُ الشاعر النيجيري بن أوكري (Ben okri): «إما تعطيني الحياة وإما تقتلني» غير أنها كابدت الهشاشة والتفكك عبثا كُل الساعات. تنقلت بين أمريكا ولندن وهيمن عليها الحنين كونها لا تغادر بسهولةٍ أماكن معيشتها، كما يتخلى الغرب مُقدمين مصالحهم على حنينهم وعلى أي شيءٍ آخرَ، تُعاود كتابة (نُطارد الزمن/ نصارع الزمن) أكثر من مرة وهذا التكرار اللغوي لمعنى مُتسارعٍ واحد ما هو إلا خوفٌ ساكنٌ في أحشاء التيه وكناية بالرمز عن المُطاردات التنافسية المُلتهبة، أتت رياح هذا الزمن في النهايةِ وغيبت الجميع واطفأتهم إلى الأبد.

كتبت شرارة مُذكراتها أو سيرتها الذاتية بموضوعية وحيادية، رغم أنهُ كتاب قادرٌ على أن يستحيلَ رواية عن «رحلة امرأة أديبة ورجل معماري من الشرق إلى الغرب» إن تم تعديله وإضافة الحوارات المُحكمة والإفصاح عن الجانب العاطفي المُتعلق بكلا الزوجين، بدلا من التكتم والإعراب عن الشكليات الرسمية والعقلانية الزائدة عن اللزوم، التي لا تحتملها المُذكرات والذائقة الفضولية. كثيرا ما يؤسفني دعوة الكتاب لتدقيقه وتصويبه، لكنه ينتهي بلا سامعٍ أو باصر، التقطت شرارة بوساطةِ عدسة عينها حقبا خطرة وصاعقة مرّ بها بلدها العراق وانتزعتها رميا على الورق بطريقةٍ ماتعة سلسلة ومُنسابة، معروضة بلُغةٍ رشيقة مُفعمة بالشجن والرقة، ينتاب القارئ الرضى عندَ قراءتها والتمعن فيها.

كأن ذكريات بلقيس موجهة لنفسها بالدرجة الأولى للاطمئنان وملء الفراغ المُوحش، فأعطتها معنى وقيمة عالية حقا. تصنعُ المُذكرات أسلوبا مُعينا وخاصا للفرد، تمنحهُ هُوية مُحددة لا يجوز للثاني أن يتخذها وإلا كانَ مُقلدا وناسخا علنيا بالتأكيد، تصقل المُذكرات العقل والروح بقالبٍ يصير في الأخير بصمة لا تتكرر أو تُسرق على الإطلاق. الذاكرة بوصفها الحضن الأبدي للتغيرات الحياتية المقصودة والطارئة على حد سواء والعجينة الأساس في إتمام الكيان المُتفرد، المُذكرات هي الشمعة في الظلام، تستمد أمدها من جرح صاحبها النبيل وحكمته في العيش، وإن تضاءلت قدراته دائما على الإمساك الأصداء ومباهجها أو الصواب.

 كاتبة عراقية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي