البحث عن السيناريو الأخير في رواية « الجنة أجمل من بعيد»

2023-08-11

كه يلان محمد

الاستهلال هو ما يشدُ الاهتمام أكثر في الأعمال الروائية ويكون مثار الاشتغالات النقدية باستمرار، لأنَّ ما يفتتحُ به النص يحددُ مستوى التلقي والتواصل مع ما ينتظمُ ضمن المادة المسرودة، أكثر من ذلك فإنَّ الجملة الافتتاحية هي بمنزلة النواة الجينية لمكونات النص الروائي، لكن العقدة التي تنسفُ مشروع الكتابة في رواية «الجنة أجمل من بعيد» وهي الإصدار الأحدث للروائية كاتيا الطويل، ليست التخبط في البداية ولا متاهة الاختيار للعبارة الأمثل التي يسلمُ لها المُتلقي دفة الرحلة، بل إنَّ الصراع مع النهايات والسيناريو الأخير للروايات المؤجلة يعيدُ بندول السرد إلى المربع الأول. الأمر الذي يضاعف الغموض حول مصير الشخصية المفوضة بكتابة الرواية بقدر ما يضعها أكثر في وجه جملة من الافتراضات المُرشحة من الحوارات المُتقطعة بين الشخصية العالقة على السطح الأبيض، وما يسمى بالخالقة، ومن نافلة القول إنَّ الأخيرة كناية عن صوت الكاتبة.

كشف الأوراق

لا يشقُ على المتلقي إدراك محورية دور الشخصية في بناء حلقات الرواية، وهذا المنحي تعبرُ عنه الحركة المشهدية في المطلع الحواري، إذ تتجاذب الشخصيةُ الكلامَ مع مقابلها الورقي حول حيثيات تواري الكاتبة وتوقفها عن الإقرار بشأنِ مصير الشخصيات، وتوحي المؤشراتُ بأنَّ هناك رغبةً لسد الفراغ الذي تركه غيابُ الخالقة، ويبدو أنَّ هذا الموضوع لا يخلو من الريبة المشبوبة بالخوف من عواقب المبادرة ُ بالتربع على كرسي التأليف، لأنَّ الكتابة من المهن التي تصبح هي نفسها الحياة، كما أنَّ الشك يطالُ الوضعية التي تتقيدُ بها الشخصية، هل هي واقعة خارج الرواية أو فعلا عالقةُ في أجوائها؟ وما أن ينتهي شريط الحوارُ حتى ينفردُ صوت بالسرد وهو يعلنُ رفضهُ أنَّ يكون مترقباً لمزاج الخالقة.

ويرى أنَّ من حقه تنضيد حروف رواية هو يهيمنُ على مفاصلها، بالطبع تضخم دور الشخصية يعيدُ إلى ذهن رأي رائدة الرواية الحديثة ناتالي ساروت، التي سحبت المركزية من الشخصيات الروائية مشيرة إلى أنَّ هذا العنصر لم يعد الكاتبُ يؤمنُ به، كذلك الأمر بالنسبة للقارئ ما عادت الشخصيات مقنعةً، غير أنَّ الخطُ الذي تتخذه رواية كاتيا الطويل يكسبُ الشخصية موقعاً تأسيسياً في إدارة المعطيات السردية، ومن هذه المثابة يتخذُ الجدل بين الكاتبة وصنيعها منحى حجاجياً، لاسيما في المقاطع التي تستنكرُ فيها الشخصية وضعية اللاشكل، وعدم تحديد المعترك والاسم، لكن قبل أن يفتحَ السرد على منطقة الصراع بين الخالقة والشخصية التي تراودها رغبةُ الأخذ بناصية المبادرة، لحياكةِ ما هو في مهب الاحتمال فحسب. يتمُ كشف الغطاء عن مزاجية أصحاب الحرفة والتوقف في الأمتار الأولى مثلما هو واقعُ في حالة الكاتبة التي لا تقرر مصير شخصيتها العالقة في الرف، إذ تسمعُ على لسانِها أنَّ المجدَ اجتمع من طرفيه في تركيبة الخالقة لأنها امرأة وكاتبةُ في آن واحد. ولا ترتوي الشخصية عن وصف هذا الموقف بمصيبة مُضاعفة حتى ولو احتجت الأصوات النسوية مُحملةً إياها إثارة العنصرية.

ما يدفع بالشخصية الورقية نحو واجهة الرواية، ليس إلا تركيبتها الشعورية وهي تعاني من الوحدة في براح الصفحات الفارغة، ولا وجود لشبكة التواصل بينها وبين شخصيات أخرى. كأنَّ الكاتبة تريدُ الهروب من تحمل المسؤولية أو تتوجس خيفةً من مصادرة الكائنات الورقية لحياتها الواقعية، لذلك تتوقف عن متابعة مشروعها ولا تغامرُ بالمُقايضة مع المجهول، لا شك في أنَّ خيال المؤلف يصنعُ شخصية ورقية، لكن ما إن تقفُ الأخيرة على رؤوس أصابعها حتى يلوحَ سؤالُ من يتحكم بمن؟ أياً يكن الوضعُ فإنَّ الشخصية الورقية تأخذ بتلابيب القارئ في رواية «الجنة أجمل من بعيد» مُعلنة أنَّ شخصيات الروايات وحدها لا تكذب ويضمرُ هذا التصريح ما يثيرُ الريبة عن الشخصية التاريخية والواقعية. ويتقاطعُ مع ما تقولهُ الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي في سيرتها بأنَّها تُحب أبطال روايتها، لأنَّ الوقت لا يمضي هدراً في مُصاحبتهم.

متاهة الافتراضات

تبدأُ رحلة الشخصية الورقية في البحث عن السيناريو الأمثل لبناء الشكل الروائي، وتبادرُ بإدارة مصيرها خارج مُحددات مزاج الكاتبة، إذ تسردُ في الوحدة الأولى ظروف الولادة من أبوين لبنانيين. مشيرةً إلى أن بداية التواصل بين الاثنين كانت متزامنةً مع العرض الذهبي لمدينة «بيروت» وحظي المتكلمُ بالضمير الأول بطفولةٍ مُدللةٍ ولم يتغيرُ الوضعُ بعدما استقبلت العائلةُ شقيقاً صغيراً يكتفي السردُ بالتلميحُ إليه عائداً نحو الاستبطان الداخلي بصوت الابن البكر، وهو يعترفُ بأنَّ الشعور بالوحدة يفتكُ به كارهاً المدرسة، ولا يلبثُ الوقت طويلاً حتى تنشب الحرب الأهلية وتمتدُ العطلةُ، الأمر الذي يوافقُ نفسية الطالب لكن الحرب لا تمرُ دون أن تخلف ندوباً غائرة في تكوين المُتكلم هنا تتسعُ حلبة السرد للملفوظات التي تلخصُ رؤية من يختبر الحياة، واصطدم بالمطبات «أفضل الحالات البشرية هي الحالات الرمادية عندما يعيشُ المرءُ حياته على الحياد. لا هو يتقربُ من الناس فيحترق بنارهم ولا هو يبتعدُ عنهم ليموت صقيعاً»، كما تترافدُ الصور البيانية مع التشكيلة السردية، ما يزيدُ من شحنة عاطفية في لغة النص، وأنت بصدد ملاحقة المطافُ الذي ينتهي إليه المُتكلم يخيلُ إليك بأنَّه يحاكمُ الروائي لأنَّه ينتقمُ من الحياة بشخصياته فيخلقها كما لم يُخلق، ويتصرف بها كما كان يستطيع التصرف.

وبالتالي فإنَّ الخالقة تحرم تابعه من الحب لأنها أرادت تجاهل هذا الشعور من خلاله، بعد تعثر هذه النسخة من الرواية المفترضة يجربُ المُتكلم وجهاً آخر متقمصاً شخصية شقيقه الصغير الذي كان منبوذاً، وبالمُحصلة لا تنجحُ المحاولة ُ الجديدة. إلى هنا تتحركُ آلة السرد نحو فصل جديد، ولا يكون عنوانه سوى الانتظار، حيثُ تدورُ جولة أخرى من النقاش بين الخالقة وشخصياتها الورقية واللافتُ هو استماتة الشخصية في تذوق الحب، مقابل آراء الخالقة المشبوبة بالتوتر حول مفهوم الغرام، ومن ثمَّ تشير إلى حاديها لاختيار الرجل شخصية في الرواية، ولم تسند إلى المرأة، لأنَّ المرأة تسألُ وتحللُ وتعقد، بينما الرجل بسيط واضح ولا يعقد. وتستعادُ في هذا التفصيل تجربة المرأة التي كان لها دور في ورشة الكاتبة الإبداعية وانتهى أمرها بالانتحار.

سايكولوجية القارئ

تتوالى الافتراضات التي تهدف إلى تلبية رغبة الشخصية المُعلقة، يجنحُ الخيالُ بالكتابة للذهاب إلى روسيا باحثةً عن دور لشخصيتها الإشكالية، تختبر أنَّ تمنحها دور اللص في رواية «المعطف» يسرقُ أكاكي أكاكيفيتش. وفي جزء آخر من هذا الاتجاه التجريبي يتبادلُ الطرفان القولَ عن عنوان رواية وهي قيد الانطلاقة، والملاحظُ في حيثياتِ ما يقدمُ هو صورة الوعي بأركان العمل الإبداعي ولا تفوتُ الكاتبةُ الإشارة إلى روايتها السابقة «السماء تهرب كل اليوم» آخذة الاحتياط من مغبة التكرار والتدوير. بموازاة المحاولات المُتعاقبة لكتابة الرواية والقبض على صيغة النهاية يستمرُ النقاشُ بشأن مزاج القارئ وما تعجبه من النهايات وتعاطفه مع الشخصيات المقهورة. كما أنَّ الرواية البدينة لا تطيبُ لمذاقه المعاصر، ويخسر النص طاقته التشويقية، إذا قُفلت على قصة حب سعيدة. هذه المُعطيات المذكورة آنفاً والنبرة السجالية التي تتصدرُ مدخلَ كل مفصل من الرواية. تقودنا إلى تأمل ما يمكنُ تسميته بسايكولجية قارئ الرواية. يوجدُ في برنامج الخالقة وتابعها الورقي تصنيفُ جديد لأنواع القراء وما ينشدهُ النصُ هو القارئ الحقيقي الذي يتجاهل هموم الواقع مندمجاً مع مناخ يفوقُ الواقع تشويقاً وأقل رتابةً. ويجبُ على القارئ أن يشرع بالتواصل مع النص بعيداً عن الأحكام المسبقة والتوقعات والتعليقات في غير أوانها، لأنَّ كل ذلك يفسدُ القراءة ويفرغُها من المُتعة.

تنهضُ هيكلية هذا النص على حزمة من الافتراضات لسبك العمل الروائي بأنواعه المتعددة من الرومانسية والبوليسية وما يصطلحُ عليه برواية الأجيال، كما تحيلك متون السيناريوهات المفترضة إلى شخصيات نحتها الكُتاب العالميون في أعمالهم الإبداعية. وتقيمُ كاتيا الطويل مأدبة لشخصيات فاقت شهرة على صناعها لمناقشة مصير البطل الضد الذي ينتقل من انتكاسة إلى أخرى، إضافة إلى ارتشاف النص من إيحاءات الأساطير العالمية والقصص الدينية. يذكرُ أنَّ هذه الرواية ليست أحادية الفكرة فغير المصرح به وما يمكن معاينته بين السطور هو عديدُ من الأفكار الفلسفية والأحاجي الوجودية عن المصير والخلق والإرادة كما أنَّ الكاتبة لم تنسلخ من جلد الإنسان الشرقي الذي لا تهمه سوى معرفة شكل النهايات. يقولُ آرتو: لم يكتب أحد قط أو يرسم أو ينحت أو يصمم أو يبنى أو يخترع إلا للخروج من الجحيم. بيد الشخصية المعلقة في رواية «الجنة أجمل من بعيد» يسرق القلمَ للخروج من الجنة.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي