سعيد رضواني: أتبنى التجريب الذي يحافظ على روح الإبداع

2023-08-05

حاوره: عبد اللطيف الوراري

سعيد رضواني (1972) قاص وروائي مغربي، صدرت له مجموعتان قصصيتان: «مرايا» 2010 و»قلعة المتاهات» 2022. وهذا العام، صدرت روايته الأولى «أبراج من ورق» عن دار الآداب. من عمل إلى آخر، نعثر على رسوخ كتابة سردية مغايرة تتحرك ضمن حساسية أسلوبية جديدة في التعبير عن الذات والعالم، هي في حدّ ذاتها امتدادٌ لميراث العميان والسحرة وصانعي المتاهات في القرن العشرين. فالكاتب لا يكتب وحسب، بل إنّه يصمم ويهندس. فهو يتبنى التجريب كاستراتيجية خطابية في تمثيل كائنات عالمه السردي والتخييلي، من خلال اتكائه على تقنيات وموتيفات جمالية مختلفة؛ وهذا التجريب يتجاوز ما هو شكلاني محض إلى النهوض بمحتوى معرفي مُفكّر فيه، يحمل في ثناياه رؤية «نقدية» لسرديّات السائد والتافه والمبتذل، دون أن يزعم التغيير أو القفز على ما هو «واقعي» بشكل ساذج، لكن لا نعدم في ما يكتبه غبطة الأمل الذي يمرح ويسرح في وهاد السرد، ولا يجد في دُوار اللغة سوى عزاء آخر.

ما الذي قادك إلى حكاية السرد؟

ربما قادتني إليها الذات الحالمة التي كانت ترى في السرديات الكبرى، قبل انهيار معظمها، خلاص العالم، رغم ان هذه السرديات كانت منغلقة على نفسها عقائديا وأيديولوجيا، إلا أن فسحة الخيال فيها كانت شاسعة، تتيح للفرد الهيام في عوالم أخرى، سواء أكان مع هذه السرديات الكبرى أو السرديات المضادة؛ إنه الصراع المولد لحركية الخيال، أو قادني إليها كياني الذي كان وما زال يرى أروقة المكتبات أروقة معابد، وطقوس الكتابة طقوس صلاة.

ما هي المصادر أو الينابيع التي فتحت عينيك عليها، أو التي اطّلعت عليها في سبيل تشييد عالمك السردي؟

من يعتبر المكتبات معابد أكيد سيصلي في معابد بوذا والشنتو والزن مع ياسوناري كاوباتا ويوكيو ميشيما وريونوسوكي أكوتاغاوا، قبل أن يصلي مع هاروكي موراكامي.. وسيصلي في المساجد مع المنفلوطي والغزالي وابن رشد، قبل أن يصلي مع صفوف طويلة مع المبدعين الذين جادت بهم قريحة هذه الجغرافية الشاسعة، التي تمتد من المحيط إلى الخليج.. وسيخشع في كنائس الأدب مع جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، قبل أن يعتنق ديانة التسامح مع هؤلاء وغيرهما، وقبل أن يصعد إلى المكتبة التي في قمة الجبل ويخلو للتقرب إلى نفسه عبر النهل من أمهات الكتب، التي أنجزت على مرّ العصور، قبل أن يتعرف على الأدب الروسي وأدب أمريكا اللاتينية، اللذين غيرا بوصلتي الأدبية وساقاني إلى التخوم القصوى التي تطل على أغلب المعارف التي أنجزها الفكر البشري في شتى المجالات: فلسفية وعلمية وأدبية..

في مجموعتيك القصصيتين «مرايا» 2010 و«قلعة المتاهات» 2022، تنفتح على تقنيات سردية وموتيفات جمالية جديدة ومغايرة لا تخلو من نزوع تجريبي- عجائبي، هل هو سأم من الواقعية بأنواعها؟

الواقعية بكل أنواعها قد تلائم ذوقي في القراءة، لكنها لا تتناغم مع ذوقي في الكتابة؛ ولذلك أحاول ما أمكن في إبداعي أن أنزاح عن هذه الواقعية مجربا أشكال جديدة في الكتابة، وأنا أعرف أن التجريب، إذا لم يحتفظ بروح الحياة في متنه، سينقلب إلى تخريب لا غير. لقد نجح كل من خورخي لويس بورخيس وخوليو كورتازار في نفخ الروح في نصوصهما، ولذلك فرضا بصمتيهما على الأدب العالمي، لكن الكثيرين أخفقوا في تجاربهم، ومهما يكن يبقى المجرب والمجدد أفضل بكثير من المقلد. وفي مجموعتيّ القصصيتين «مرايا» و»قلعة المتاهات» حرصت على أن أهتم بالشكل مع محاولة التجديد فيه، وأعتقد أن العجائبي كان في الشكل أكثر مما في المضمون في محاولة مستميتة للتمرد على الأدب الفانتاستيكي نفسه، لأني كنت شبه متيقن أن الأدب الفانتاستيكي الذي يعد تجريبيا في أشكاله الجديدة هو تقليديا في جوهره، وكثيرة هي الأعمال الأدبية الفانتاستيكية الكلاسيكية.

هل تعتقد أن التجريب يمكن أن يطاوع دائماً رؤية الإبداع لدى الكاتب، ومن خلالها يستطيع أن يؤسس رؤية «نقدية» للعالم خارج سرديّات السائد؟

لا أعتقد فقط، بل أثق في أن التجريب المؤسس المستند إلى دعامات نظرية متينة، هو الوحيد الذي يستطيع أن يخلخل النماذج السردية السائدة ليساير التحولات التي حدثت في الأنفس بعد انهيار السرديات الكبرى ومعها الكثير من القناعات والأحلام، مثلما انهار الأمل في التغيير. قد تُؤسَّس سرديات أخرى وتنتعش معها الأحلام من جديد، لكن هذه المرحلة الآنية هي مرحلة انعطافية وجيلنا جيل تجريب، كما أبدع في التجريب، هو أيضا جيل مورس عليه التجريب. جربوا فينا كل مناهجهم التي لا ترتكز على أسس متينة، والنتيجة جيل شبه ضائع مهما حقق من نجاحات، الانهيار الداخلي صعبٌ ترميمه. أعود وأكرر أن التجريب الذي أقصده هو التجريب الذي يحافظ على روح الإبداع، والذي يظل يمتح من الإبداعات الكلاسيكية، التي كانت هي نفسها تجريبا ذات زمن، أما التجريب الذي يدعي الثورة على الإبداع الكلاسيكي، والقطيعة نهائيا مع الأشكال القديمة فلا أتبناه، لأنني أستمد روح الإبداع من الإبداع الكلاسيكي الذي عرف كيف يخلق شخوصا تدبّ فيها الحياة.

بعد وفاء عمر لجنس القصة القصيرة، أقدمت على كتابة الرواية، هل هو تمرين روحي وجمالي قبل الانخراط في عالم تخيلي يتسع لفضاءات وأزمنة متراحبة تضيق بها القصة؟

أظنني سأظل وفيا للقصة القصيرة مهما حاولت الكتابة في أجناس أخرى، وقد خضت غمار كتابة الرواية بتحريض من صديقي الكاتب هشام ناجح، وها أنا الآن منغمس في كتابة رواية أخرى ومجموعة قصصية أخرى.

كلّ كتابة لها اشتراطاتها الفنّية، وأعتقد أن شرط الرواية الأساسي هو الفضاء بما ينطوي عليه من نموّ وهندسة وثراء ودوار وصراع، قبل كتابة الرواية، هل تضع في حسبانك مسألة الفضاء؛ أي أن تضع تخطيطاً له وما يتفرع عنه من خطوط وأجروميات وتقابلات؟

تسعى القصة القصيرة إلى رصد لحظات كثيفة وفق شكلها الذي لا بد أن يحقق وحدة الأثر والانطباع، وهذا ما يجعلها في كثير من الأحيان تضيق حيز الزمان وحيز المكان اللذين تدور في فلكيهما أحداث القصة، أما الرواية فمساحتها شاسعة، ولم تتسع أصلا إلا لتعطي للزمان والمكان حقهما، فشخصيات الرواية غالبا ما تنمو وتتطور، وهما عمليتان لا يمكن أن يحدثا بلا حيز شاسع من الزمان والمكان. والطريقة التي أنهجها في الإطار العام للقصة أو الرواية، أقرب للهندسة منها للأدب. أصمم الخطوط العريضة والشكل العام للعمل الأدبي الذي أنوي كتابته، ثم أشرع بعدها في الكتابة. جمل الكتابة نفسها تخضع عندي لعملية هندسية، وسأوضح الأمر بمثال كتبته سابقاً:

«كهواء دافئ تخرج أنفاس وكأنفاس دافئة يخرج الهواء» هنا هندسة تقابلية لا تخطئها العين، ولأنني أشتغل بهذه الطريقة أعتبر نفسي مُقلاً في الإنتاج، وكل عمل من أعمالي يستنزفني ويتطلب مني طاقة كبيرة، لكنه استنزاف جميل وممتع.

في روايتك «أبراج من ورق» (جائزة أسماء صديق المطوع 2023) ثمة وفاء لأسلوبك السردي وعودة إلى محكي الطفولة وتاريخها الشخصي. إلى أيّ حد يمكن اعتبار هذه الرواية بمثابة سيرة ذاتية تكتب بيد وتمحو بأخرى؟

يعرّف فيليب لوغون التخييل الذاتي على أنه «سيرة ذاتية لا تريد الإفصاح عن نفسها، وتخييل لا يريد الانفصال عن صاحبه» وأرى أننا إذا ابتعدنا عن التجنيس يجب اعتبار الأعمال الأدبية سيرا ذاتية، وكلها سينطبق عليها هذا التوصيف، أما إذا ما تم تأطير الأعمال بتجنيس معين فستظل السيرة الذاتية ذلك الجنس الذي تأسس على يد الأدباء الغربيين، وربما استلهموا تجربة الاعتراف بالخطايا عكسنا نحن الذين أسسنا للسيرة الغيرية وتراثنا حافل بالكثير من هذا الجنس الأدبي، وستظل ذاك الجنس الأدبي الذي يعتمد التطابق بين المؤلف والسارد والشخصية في جنس أدبي يحتفي بالتجربة الشخصية، سواء من خلال اعترافات كاعترافات جان جاك روسو، أو احتفاء بتجربة القاع كما فعل محمد شكري وهنري ميلر، كما سيظل التخييل مرادفا للأعمال الروائية. وفي روايتي «أبراج من ورق» بعض مني والكثير من غيري. لكن الأهم، بالنسبة لي في روايتي «أبراج من ورق» ليس مضمونها، الذي أجزم أن فيها شيئا من نفسي، أو حتى في شكلها، بل في التناغم بين هذا الشكل والمضمون، الذي أردته تجربة مغايرة لما أقرأه، فاخترت الهندسة تصميما لكتابتها، إذ جعلت شكلها قسمين متوازيين متناظرين متقابلين، كما الأعمدة الرخامية الأبنية والصروح والقلاع، وجعلت مضمونها قلعة أعمدتها وجدرانها كما أحرف وكلمات الكتب.

في المسار السردي الذي تنتهجه هذه الرواية، نتتبع خطى «سمير» الحفيد الذي يسعى إلى صون الذاكرة العائلية/ الجمعية من واقع الزيف والتغير المتسارع، هل بالفعل استطاعت سردية الحفيد أن تُؤمّن لنفسها شكلاً حقيقيّاً للمقاومة، أم ظلّت عزاء أنطولوجيّاً عبر تدوين شهادتها وحسب؟

لقد أردت من رواية «أبراج من الورق» أن تكون انتصارا للحفيد الذي استطاع أن يعيد ترميم ضيعة الجد وإحياء رواية الكاتب، وكان هدفي من اختيار هذه النهاية أن أضخ نفسا تفاؤليا في العملية الإبداعية، حتى لا تبقى مجرد توثيق لخيباتنا وتسجيل لانكساراتنا. الكثير من المبدعين، وأنا منهم، لا يجدون في حيواتهم ما يستحق أن يحتفى به كتابة، ولذلك يعمدون إلى التخييل، وعملي هذا هو عمل تخييلي، ولا أقبل أن يظل ما أتخيله حبيس العزاء، ولذلك أطلقت العنان لخيالي ليدون ما أطمح إليه، وليس الذي أعيشه، وفي خاتمة الرواية يبدو الحفيد مزهوا بإنجازه الأدبي الذي يواكب إنجازه على الأرض محققا العدالة لوالده ولروايته الضائعة، ومحققا لنفسه إنجازا أدبيا وثق هذه التجربة. وهكذا استطاع أن يشكل مقاومة حقيقية سواء في الإبداع أو على الأرض.

كيف تنظر إلى واقع الكتابة السردية في المغرب، وإلى مصاحباتها النقدية «الجادّة» والعالمة؟

عندما كانت الكتابة السردية المغربية في بدايتها واكبها نقد جاد، في زمن كان فيه للمبدع والناقد دور مهم في توجيه بوصلة المشهد الإبداعي، واليوم تطور الإبداع وتطور النقد أيضا، لكن نقطة التماس بينها انقلبت إلى هوة – ولا أتحدث عن الاستثناءات – شاسعة وسحيقة. أتمنى أن يساهم الجميع في بناء قطرة تجسر هذه الهوة الآخذة في الاتساع، ولن يتحقق هذا الأمر إلا إذا وثق المبدعون في ما ينتجونه وفي ما ينتجه غيرهم، ووثق النقاد بتجارب مبدعينا، طارحين عنهم وهم تفوق الأدباء الغربيين؛ فالإبداع الحقيقي يخرج من معاطف الدول النامية أكثر مما يخرج من معاطف الدول المتقدمة، ولنا في تجربة كتاب أمريكا اللاتينية خير مثال، فلولا تمرد مبدعي أمريكا الجنوبية لظل الأدب يدور في فلك الأدب الغربي، الذي أراه يتراجع أكثر مما يتقدم، وأؤكد أن بلدنا فيه إبداع يضاهي الروائع العالمية ولا يحتاج إلا للمتابعة النقدية والإعلامية.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي