التضايُف بوصفه منطقاً وحياة مَعيشة

2023-07-26

عُلا شيب الدين

في علم المنطق، ثمة مصطلح يُسمَّى «التَّضايُفُ»، يقول هذا المصطلح: لكي يُفهَمَ حدٌّ أو طرف؛ يجب أن يكون هناك طرف آخر أو حد آخر في قُبالته، يرتبط به ارتباطاً وجودياً، ولا يُفهَم، بشكل أو بآخر، إلا من خلاله. يصعب ـ مثلاً ـ تصوّر وجود معلِّم من غير تلميذ أو طالب، والعكس صحيح، إذ أن كلًّا من الطرفين يستمد معنى وجوده على هذا النحو أو ذاك، من وجود الآخر الموجود على هذا النحو أو ذاك. كذلك يسِمُ التضايف العلاقة بين الطبيب والمريض، حيث يصعب وجود الطبيب كطبيب من غير وجود المريض كمريض. ينسحب الأمر عينه على العلاقة بين الكاتب والقارئ… وهكذا، يمكن لنا تصوّر الحياة المعشرية برمّتها بين الناس، بوصفها علاقات تضايف، فيتكشف ذلك الجانب الحياتيّ الملموس اليومي المَعيش لمصطلحٍ منطقيٍّ كالتضايف. مصطلح يقبع في عالم التجريد العقليّ؛ ليتبين أن للمفاهيم والمصطلحات الدالّة البسيطة كلها؛ مدلولات في المَعيش الواقعي المعقد، ولا يُفهَم هذا إلا من خلال ذاك في تضايف مستمر لا ينضُب.

مع التضايُف، يصير كل شيء تقريباً، نسبياً، ما دام هذا الطرف لا يُتعرَّف إليه إلا بعلاقته بذاك الطرف، فيصبح هذا الشيء كذا (بالنسبة إلى) كذا.. ولا تعود الهوية أو الهويات التي تشكل كل فرد منا، مطلقة أو مغلقة، كونها وُجدَت أصلًا «من خلال»، وليس «بذاتها». فحين يعرِّف أحدهم بنفسه كطبيب (مثلاً)، فإن هذه «الهوية الطبية» التي طالما أُضيفت إلى هويات أخرى ساهمت وتسهم باستمرار في تشكيل الشخصية؛ لم تكن لتوجد لولا وجود من له علاقة بها ومعنيّ بأمرها، ويُسهم في تشكيلها، أي المريض.

لكن الطبيب قد يمرض، فيدخل، عندئذ، في علاقة تضايف مع نفسه هذه المرة، إذ هو الطبيب وهو المريض في آن، وتتحول الهويات وتتداخل. وإذا ما وددنا استخدام لغة أرسطو في الحديث عن الوجود بالفعل والوجود بالقوة، فقد يتحول المريض بدوره، إلى طبيب، إنْ هو اختار وشاء تحويل الموجود فيه بالقوة، إلى وجود بالفعل، طالما أن هناك، في كل فرد قوة كامنة (هيولى) قد تبقى كامنة، وقد تخرج من كمونها وتتشكل على هذه الهيئة أو تلك.

كل الكلام الآنف حول التضايف وعنه، حضرَ في رأسي دفعة واحدة، حين التقيتُ ـ مصادفةً ـ تلك الرسمة ـ اللوحة التي تصوِّر رأس أسد بجسم حلزون على حائط صغير أمام حديقة. كان ذلك حين كنتُ أتسكّع بلا هدف، ذات مساء، في إحدى الحارات الوادعة الهادئة على أطراف مدينتي الجميلة كولونيا أو كولن. التسكع الذي يمثل بالنسبة إليّ طقساً خاصاً، يصير فيه التجوال خوضاً في متاهات اللامتناهي وأنهاره الثرية الرقراقة المتدفقة! قد لا تكون الرسمة ـ اللوحة إياها، ذات شأن رفيع فنياً وجمالياً، على الأقل بالنسبة لي. غير أن فكرتها مبدعة بلا شك، وإبداعها، في نظري، يكمن في تقويض المسَلَّمِ به الذي لا يُناقَش.. المطلق المقفول.. المستقل بالكامل.. الناجز الثابت بلا حراك… فهذه كلها وما شابهها، غير موجودة إلا في الذهن، أما في الحياة المعيشة الملموسة الكائنة النابضة الموجودة الحية، فهناك العلاقات والتشابكات، والهويات المتداخلة الخصبة الغنية الولَّادة المتوالدة بلا انقطاع. لا أعرف، للأسف، صاحب الرسمة ـ اللوحة الذي صوّر رأسَ أسدٍ بجسمِ حلزون، لكن يمكنني ـ في معنى ما ـ استكناه عقله بوصفه عقلاً حراً، قادراً على أن يرى للأشياء أبعاداً أخرى، وأن يبدّد مفهوم الكامل الناجز الذي لا يمكن أن يتسلَّل إليه نقصٌ أو حركة، وقادراً على أن يفكّك ـ تالياً ـ المطلق المغلق، ويبيّن أن النسبي المنساب من علاقات التضايف هو الأقرب إلى الحقيقة الحياتية الحيوية النابضة.

أن يكون للأسد جسم حلزون، يعني أن القوة الكاملة الجبّارة التي لا يشوبها نقص أو ضعف، هي مجرد تصوّر زائف، غالباً ما تكذّبه الحياة المليئة بالوقائع والتجارب والمكابدات التي لا تنفكّ تولد وتندلع وتنبع. إن الأسد، في الرسمة ـ اللوحة، هو قوة صلبة غير موجود إلا «من خلال» حلزون رخو؛ ما يعني ارتباطه به بعلاقة تضايف. علاقة يتشارك فيها الطرفان ـ الحدان في تشكيل هوية الآخر وكينونته. أما ليونة الحلزون، زحلقته، لُزوجته ورخاوته، اختباؤه في قوقعته.. كل ذلك أيضاً لا يشكّل هويات مطلقة له، ما دام قد انبثق عنها رأس أسد صلب متين وحادّ، قوي ومتماسك، مشرئبٌّ، ومستفحل في الغابة المفتوحة الشائكة. تتداخل الهويات ههنا، فلا يعود الكامل كاملاً بالمطلق، ولا الناقص ناقصاً بالمطلق.. لا يعود الضعف ضعفاً بالمطلق ولا القوة قوة بالمطلق، ما دامت هذه كلها هويات ـ ماهيات مفتوحة على بعضها، وتستمد نفسها من نفس الآخر في تَضايُف يبدو أنه غير متناهٍ حياتياً وحيوياً ومنطقياً. وهكذا يصير المستحيل ممكناً، فيسكن الأسد قوقعة الحلزون، مثلما يهيم الحلزون في غابة الأسد متخذاً منها بيتاً، في تناغم واحتياج مستمرَّيْن. يحتاج الأسد أحياناً إلى الاختباء في سرّ القوقعة ولغزها وعمقها وإيقاعها اللولبيّ، مثلما يحتاج الحلزون أحياناً إلى الانفلات في إمكانات الغابة وفضاءاتها الكثيفة الشاسعة المترامية الممتدة.. ربما تُلهم علاقة التضايُف هذه بين الأسد والحلزون، عقلَ القارئ أو القارئة، مغامرةَ السفر إلى زمن غابر.. إلى زمن إغريقيّ أسطوري ميثولوجيّ، صُوِّر فيه الحصانُ (بيغاسوس) مجَنَّحاً، فأُفصحَ عن تضايف الركض والتحليق…عن تضايف الملموس والمجرد.. عن تضايف الوجود والمعنى والمغزى.. عن تضايف الأرض والسماء.. عن تضايف الإقدام والعقل.. عن تضايف الفعل أو العمل، والتفكير، التأمل، الخيال، والفلسفة…عن تضايف الواقع أو التجربة والحُلم، التطلّع، والاستشراف.. عن تضايف الآن والأفق..

وبعيداً من الاختزالية المستبدة التي عادة ما تختصر العالم، ناظرةً إليه من منظارٍ أحاديّ واحد وحيد محدَّد؛ يكشف فنّ تشكيل علاقةٍ بين أسدٍ وحلزون؛ عن رؤى مختلفة للعالم مُحاوِرة ومتحاوِرة.. فـهناك «الرؤية الأسدية»، الخطّية غير المتعرِّجة، الثقيلة، القاسية، اللامترددة، اليقينية، المتحكمة.. وهناك الرؤية و»الرؤيا الحلزونية»، اللولبية، المرنة المتزحلقة، المتاهيّة، الحائرة المتشكِّكة أمام العالم وفيه..

ـ تشدّ عقلي هذه الرؤية والرؤيا الحلزونية، صوبَ قصيدةٍ بعنوان «بزّاقة»، أو حلزون، تعود إلى العاشر من شباط/فبراير 1997، للشاعرة الراحلة وفاء شيب الدين، وهي إحدى قصائد كتابها «خطيئة الرمّان»، حيث كتبت تقول:

كلّما راقت للسماء صفنة

باغتَ الغيم ذاك الفيروز

ويبدأ العالم بالثلج

يغلق الباب على الشجر مستحِمًّا

يرتبك الأبيض وهو يحطُّ فوق الرؤوس

والرّموش

وثمة بزَّاقة

تجرُّ فِضَّتها باستخفاف

عند حائط الطُّحلب (المعجوق) بالمزاريب

تَرمقُ الأشخاص راكضين.. مسرعين

ببطء تتابعُ

يُضحكها أن ليس للعالم قوقعة

مع أنها تُثلجُ!

كاتبة سورية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي