أحمد موسى: رسالة الترجمة أَنْ تُنشر روح التعايش المشترك وتربط الجسور

2023-07-15

حاوره: عبد اللطيف الوراري

أحمد موسى (1973) أكاديمي ومترجم مغربي يدرس الفارسية وآدابها في جامعة عبد المالك السعدي في تطوان، صدرت له ترجمات عديدة من الفارسية إلى العربية، كان آخرها: «رحلة شاه إيران إلى إمارة عربستان» للشاه رضا بهلوي و«أمي العزيزة.. ما الأمر» لعلي أشرف درويشيان (2023) و» « عام البلاء» لعباس معروفي و«سووشون: المأساة الإيرانية» لسيمين دانشور (2022) و«من وراء حجاب، النظام الجديد للمؤسسة الدينية في إيران» لمهدي خلجي «»عشق هادئ» لنادر إبراهيمي (2021).

يسعى أحمد موسى من خلال مشروعه الترجمي إلى تأسيس مدرسة مغربية في ترجمة الآثار الفارسية وإبداعاتها، تكون حلقة وصل بين الماضي والحاضر، وهو يرى أنَّ الأدب الفارسي (الإيراني) من أبرز الآداب العالمية في عراقته وغناه، وقد امتدّ إلى الفترة المعاصرة، حيث نازع السرد سلطة الشعر، وجغرافيّته لا تنحصر في إيران، بل تمتد لتشمل آداب كل من أفغانستان وآسيا الوسطى (طاجكستان وجزء من أوزبكستان)، إلا أنه يأسف لغياب التعارف العميق والمتين بين الأدبين العربي والإيراني، وضعف حركة الترجمة من/ إلى، لوجود خلافات حدودية وسياسية وحواجز نفسية وثقافية، على الرغم من الجهود التي يبذلها أفراد من الضفتين. فالترجمة ـ في نظره – فعل حضاري بامتياز لا يمكن فصلها عن المجتمع وثقافته، كما أن رسالتها تتمثل في إشاعة روح التعايش المشترك وتحقيق عملية التثاقف المنشودة وزرع روح الأخوة والتقارب بين الشعوب.

كيف ارتبط مشوار أحمد موسى باللغة الفارسية حتى غدا واحدا من أبرز المترجمين العرب منها إلى لغة الضاد؟

علاقتي باللغة الفارسية وليدة حب انعقدت نطفته مذ درست هذه اللغة في الجامعة المغربية؛ وكانت هذه الصلة الحافز الرئيس الذي دفع بي إلى السفر إلى إيران للغوص في بحر لغتها الزاخر، والنهل من معين أدبها الثري. هناك حيث أكملت دراساتي العليا حتى حصلت على دكتوراه اللغة الفارسية وآدابها من جامعة طهران العريقة. بدأتُ أخطو أولى خطواتي في مسير الترجمة في مؤسسة للترجمة في طهران، ثم تواصل العمل لاحقا بصورة علمية من خلال إنجاز ترجمات لمقالات ودراسات لغوية وأدبية من العربية إلى الفارسية وبالعكس، ونشرها في مجلات إيرانية متخصصة.

هل تذكر حدثا أو منعطفا حاسما ساهم في اهتمامك الفعلي بالترجمة الأدبية، واتخاذها مشروع بحث؟

قبل أن يكون اهتمامي بالترجمة الأدبية من اللغة الفارسية إلى العربية مشروعا علميا أو بحثيا، فهو بالدرجة الأولى، راجع إلى شغفي باللغة الفارسية وولهي بآدابها. هناك أمر آخر فتح شهيتي على الترجمة، وهو مطالعتي لبعض الترجمات العربية لمؤلفات فارسية كنت قد قرأتها في لغتها الأصلية، هذا الأمر أوقد في نفسي ما يسميه بول ريكور بـ»رغبة الترجمة»، التي تصبو إلى ما هو أبعد من الواجب والمنفعة. وهو ما حدا بي لاختيار بعضٍ من مبدعات هذا الأدب لنقلها إلى قراء اللغة العربية، أنشد، من وراء ذلك، مشاركتهم المتعة التي وجدتها في نصوص الأدب الفارسي، والتجوال بهم في مراتعه. وأبتغي نقل تجارب أمة جمعتنا بها الكثير من القواسم ولا تزال. فضلا عن ذلك، وبوصفي خريجا من قسم اللغة الفارسية وآدابها في إيران، ومتخصصا فيها ومدرّسا لها في الجامعة، أشعر بمسؤولية تطوق رقبتي تجاه هذه اللغة وأدبها، لذلك سعيت منذ سنوات إلى وضع أسس لمشروعي الترجمي الذي أروم من ورائه تأسيس مدرسة مغربية في ترجمة الآثار الفارسية وإبداعاتها، تكون حلقة وصل بين الماضي والحاضر، وأيضا استمرارية لما قدّمه المغاربة قديما وحديثا من منجزات في هذا الباب.

ما هي أهمّ النصوص المؤسسة في الأدب الإيراني، التي رسمت هُويّته كخطاب وفنّ وقيم، بل التي جعلت منه ضمن أرفع الآداب العالمية؟ وكيف تنظر إلى جغرافية الأدب الإيراني المعاصر، لاسيما أنك نقلت في السنوات الأخيرة عيونا من هذا الأدب؟

لا شك في أنَّ الأدب الفارسي (الإيراني) من أبرز الآداب العالمية وهو أدب غني ومزدهر. أدب عالمي لأنه قدّم للعالم واحدة من أشهر الملاحم الشعرية المعروفة باسم الشاهنامة لصاحبها الفردوسي (411 هـ). ثم إن هناك نصوصا وأسماء لمعت في سماء هذا الأدب، الذي يدين للأدب الكلاسيكي في تبوئه هذه المرتبة الرفيعة. وهنا نذكر اسم عمر الخيام (517 هـ) الذي فتن العالم برباعياته التي تجاوزت ترجماتها إلى اللغة العربية وحدها الستين ترجمة، وتُرجمت إلى الكثير من لغات العالم، على رأسها الترجمة الإنكليزية لادوارد فيتزجرالد. كما نستحضر أسماء أخرى صنعت المجد العالمي للأدب الفارسي، من أمثال الصوفي الكبير والشاعر الفذ جلال الدين الرومي (672 هـ) الذي يعد، اليوم، شخصية عالمية مؤثرة في الشرق والغرب، بديوانه الشعري الضخم (المثنوي المعنوي) وديوان غزلياته أيضا. وأبرز من ترجمه إلى الإنكليزية رولان باركس. دون أن ننسى شاعري شيراز الكبيرين سعدي (690 هـ) وحافظ (792 هـ) وغير هؤلاء كثير.

أما إذا انتقلنا إلى الأدب المعاصر، فنجد أن السرد استلم مشعل الريادة من الشعر. وأغرى هذا الفن الكثير من الكتاب واتسع لطروحاتهم وتساؤلاتهم، فألفينا الكثير من الأسماء والتجارب في جنس القصة والرواية. ويكفي في هذا المقام ذكر رواية «بوف كور» (البومة العمياء) لصادق هدايت (1951م) الأكثر شهرة في العالم، إذ ترجمت إلى لغات عدة، كما نقلت إلى اللغة العربية أكثر من مرة. وهو الذي اتسعت إبداعاته في السرد لهموم المهمش وحملت مناخا كافكاويا وتأثرت بالوجودية. يتلوها أعمال القاص والروائي بزرك علوي (1997)، وعلى رأسها روايته «چشمهايش» (عيناها) التي ترجمتُها إلى العربية عام 2014. وهو الذي استهوته الأفكار الاشتراكية، رغم انحداره من عائلة دينية، كما اطّلع على الفكر الأوروبي الحديث، وأفاد من الكتابات الماركسية الكلاسيكية. ثم يجب أن لا ننسى كوكبة أخرى من رواد السرد والشعر في الأدب الإيراني الحديث، الذي وصل صيت أعمالهم إلى العالم أجمع، من أمثال جلال آل أحمد، وإسماعيل فصيح ومحمود دولت آبادي وزويا پيرزاد وعباس معروفي. ونيما يوشيج وسهراب سبهري وفروغ فرخزاد ومهدي أخوان ثالث وهوشنج ابتهاج، وغيرهم كثير. 

وجغرافية الأدب الإيراني لا تنحصر في إيران (بلاد فارس قديما)، بل تمتد لتشمل، فضلا عن الأدب الإيراني، آداب كل من أفغانستان وآسيا الوسطى (طاجكستان وجزء من أوزبكستان)، لأن الإيرانيين مرتبطون حضاريا وثقافيا بهذه المناطق، ومشاهير الأدب الإيراني الكلاسيكي الذين أثروا الساحة الأدبية بمصنفات بديعة يشتركون في هذه الجغرافية الواسعة؛ ويكفي أن نمثِّل على ذلك بانتماء ناصر خسرو والرودكي وابن سينا إلى طاجكستان، وجلال الدين الرومي إلى أفغانستان، ونظامي الكنجوي إلى أذربيجان وعمر الخيام وسعدي وحافظ الشيرازيين إلى إيران، بل إن هذا الأدب انتشر في مناطق جغرافية أخرى مثل شبه القارة الهندية والقوقاز وغيرهما. نخلص من هذا إلى أن آداب هذه الجغرافيات المترامية الأطراف، التي تُكتب باللغة الفارسية، تنتفي بينها الحواجز وتذوب فاتحة آفاقا رحبة من الإنتاج والتواصل باللسان الفارسي. غير أن الوضع في العصر الحديث اختلف عما كان عليه في السابق، وأدت عوامل غير ثقافية، سياسية بالدرجة الأولى، إلى حدوث تباعد بين الآداب المعاصرة لهذه المناطق. لكن اهتمامي البحثي والترجمي انصبَّ بالدرجة الأولى على الأدب الفارسي في إيران، بوصفه الحاضن والنبع.

كيف تقيم ترجمة الأدب الإيراني الى العربية في الوقت الحالي، إذا استحضرنا مشكلات السياسة وسوء الفهم الكبير الذي يسود مثقفي الضفّتيْن؟

لا مراء أننا مطالبون، اليوم، في هذا العالم المليء بالنزاعات والفتن، بالانفتاح على الثقافات واللغات الأخرى؛ لأنها تشكّل نوافذ للاستفادة من الفكر العالمي. وفي النهاية فإنَّ الترجمة تتغيَّا المساهمة في الفكر العالمي، وإثرائه بالأفكار البناءة والمفيدة، وهنا يتجلى دورها وأثرها في التفاعل الثقافي، وما ينتجه العقل البشري.

إن الأدب الإیراني بغناه وقيمته والأدب العربي بثراه ورونقه يعانيان، رغم ما بُذل من جهد، من شح التواصل وانقطاع الأواصر، وقصورِ فرص التلاقح والتفاعل بينهما، وها هنا تكمن مهمة الترجمة الكبيرة والمسؤولية الجسيمة التي اضطلعت بها في ماضي هاتين اللغتين وفي حاضرهما أيضا. إن ما يدعو للتأسف في هذا السياق هو غياب التعارف العميق والمتين بين الأدبين العربي والإيراني، خاصة في الحقبة المعاصرة، ما يرخي ظلاله على حركة الترجمة بين اللغتين العربية والفارسية، التي تعرف تعثرا، رغم الجهود المبذولة. بيد أن حالة الانفصال هذه ليست الحدود الجغرافية ولا الخلافات السياسية وحدها المسؤولة عنها، بل ثمة أيضا حدود نفسية وثقافية ومعرفية فعلت فعلها في هذا السياق، ما منع حصول أي تقارب حقيقي على المستوى الثقافي. إذا كانت الظروف السياسية مسؤولة بشكل أو بآخر عن هذا الانفصال أو البعد بين العالم العربي وإيران، فإن المؤسسة الثقافية الرسمية تتحمل غير قليل من هذه المسؤولية، فالمثقف العربي لا يكاد يعرف شيئا عن ثقافة إيران التي تجاوره (ينطبق هذا أيضا على المثقف الإيراني)، ولهذا تظل العلاقة بينهما علاقة جوار لا حوار، في حين لو توفرت مثل هذه المعرفة الدقيقة فلربما أسهمت في أن تكون صورة الآخر أقلَّ تشوشا وأكثر عمقا، وهنا تكمن أهمية الترجمة بوصفها منصة مثلى للحوار الفاعل، القادر على فهم الآخر، وصياغة صورة أكثر واقعية وصدقية عنه. غیر أنَّ مسار الترجمة من الفارسية إلى العربية غيرُ مُرْضٍ تماما. لأن تاريخ ارتباط اللغتين ببعضهما وتواصلهما طوال 15 قرنا، أكبر بكثير من أن يُختصر في مجموعة صغيرة من الأعمال المترجمة من إحدى اللغتين إلى الأخرى، وبالأخص من الفارسية إلى العربية. لكن هذا لا يعني التبخيس أو الانتقاص مما أُنجز، بل یجب التنويه بجهود المترجمين العرب، القدماء والمحدثين، الذين أتحفوا الساحة الأدبية العربية بترجمات قيمة عن الأدب الفارسي الكلاسيكي والمعاصر، وإليهم يرجع الفضل في فتح عيون القراء العرب على فضاءات شرقية فارسية ساحرة، وفي نقل تجارب إيرانية في الكتابة الأدبية.

ماذا بوسع الترجمة أن تُفاوض عليه من أجل العيش المشترك وتقريب الثقافات؟ وبالنتيجة، إلى أيّ حد تستطيع الترجمة أن تستولد أنماطا جديدة من الوعي والكتابة والتلقي داخل اللغة المترجَم إليها؟

إن الترجمة فعل حضاري بامتياز لا يمكن فصلها عن المجتمع وثقافته؛ وعلى عاتقها تقع مسؤولية نقل العمل الأدبي من دائرته المحلية الضيقة إلى دائرة العالمية الرحبة. ولا مراء في أن رسالة الترجمة تتمثل في إشاعة روح التعايش المشترك، وربط الجسور بين مختلف الثقافات، وبالنتيجة تحقيق عملية التثاقف المنشودة، وزرع روح الأخوة والتقارب بين الشعوب، ونبذ الصراعات والتوترات. كانت هذه رسالة الترجمة قديما ولا تزال؛ رسالة نبيلة تنشد الوصال وتنبذ القطيعة. تقرِّب البعيد ولا تغرِّب القريب، تثمِّن تراث الآخر المختلف عنا وتقرِّبه لنا. تجول بنا في دروب ثقافات بعيدة عنا حتى تجعلها أقرب إلينا وفي متناولنا. إسمح لي أن أعكس سؤالك لأقول بوسع العيش المشترك والثقافات المتعددة أن يفاوضا على الترجمة ويراهنا عليها في تحقيق التقارب والتعايش والتساكن وإطالة عمرهم. العيش المشترك يحصل بطريقة تلقائية وحضارية بفعل الترجمة، والترجمة هي أكبر مؤشر على التقارب والتعايش بين الأمم. إذا اتفقنا على أنّ لكل لغةٍ عبقريتها الخاصة وتحمل إرثا ثقافيا معينا وخاصا، فإن الترجمة التي ترحل بنا عبر الأمكنة والأزمنة في جغرافية إنسانية لا محدودة، ستمثل حالة خاصة من احتكاك بين اللغات، قد تساعد القارئ المستقبل للنص المترجَم على التخلص من عاداته الذهنية أو الفكرية السابقة، بمعنى منح المتلقي القدرة على التحرر من قيوده، لتقبل أنواع جديدة من التجارب الإنسانية ومن أنماط التفكير والفهم، وبالتالي توسيع دائرة وعيه بما يحقق له الاستقلالية؛ فالترجمة اليوم يعدها البعض سلاحا لا يقل أهمية عن الأسلحة المستخدمة في حرب استعمار المخيلة والوعي بمختلف أنواعها.

كيف تنظر الى واقع الترجمة بشكل عام في المجال العربي؟

يبدو لي أن الترجمة في المجال العربي لا تزال تعتمد، في الغالب الأعم، على جهود المترجمين الفردية ومبادراتهم الشخصية، ما يجعل هذه الحركة تعاني من تباين التوجهات وتشتت الجهود. وما يزيد الطين بلة هو غياب رؤية عربية أو استراتيجية عربية موحدة في الترجمة ـ كما هو الحال في الكثير من القضايا العربية للأسف. ورغم السياسات التي تنهجها بعض الأقطار العربية والمؤسسات الثقافية غير الحكومية لتحريك مياه الترجمة الراكدة عبر دعم جهود فردية، إلا أنها تبقى محدودة وضعيفة التأثير، والأرقام المتعلقة بالإنتاج الترجمي في الوطن العربي تعكس هذه الحقيقة بوضوح.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي