دلالات العنونة في رواية «وجه في كرة»

2023-07-11

أحمد عواد الخزاعي

إحدى مهام الرواية الحديثة هي نقل الواقع المعيش برؤية فنية حداثية تحمل طابع التشويق، يكون الواقع فيها أكثر تقبلاً لدى القارئ، وهذا ما سعى إليه الروائي علي الحديثي في روايته «وجه في كرة» الصادرة سنة 2019 عن دار نينوى.. قصة ربما تتكرر عبر متوالية حياتية في أروقة المحافل الأكاديمية في مشرقنا العربي، لكنها اختلفت هذه المرة بالرؤية الناضجة، وارتباط النص مع الواقع بطريقة عضوية، كقول الفيلسوف الفرنسي بول فاليري: (الذئب مجموعة من الخراف المهضومة) إضافة إلى انتهاج الروائي أسلوبا ربما يكون صعباً على كثير من الكتاب الذكور، حين يتقمص دور المرأة في كتابة نصه، تحدث بصوتها، وعبّر عن مشاعرها وأحاسيسها وهواجسها، وهذا ما أشار إليه الكاتب الروسي مكسيم غوركي بقوله: (إن الكاتب الذي يتحدث عن الطفولة، لا يتحدث بلغة الأطفال بحجة الصدق، وإنما يجب عليه أن يتحدث بإحساس الطفولة وبالطريقة التي يفكر بها الأطفال) لكن علي الحديثي استثمر البطلة التي جعل منها ساردا ضمنيا مثقفاً واعياً، كي يمرر من خلالها بعض أفكاره وآرائه بالحياة بصورة عامة والواقع العراقي بشكل خاص.

شابة جامعية مثقفة ذات ماضٍ خالٍ من أي تجربة عاطفية، يقودها قدرها إلى أن ترتبط بعلاقة حب ناضجة، لكنها متأرجحة في الوقت نفسه مع طالب جامعي مثقف، لتكون هذه الواقعة العتبة السردية المركزية، والشاخص الذي يدور حوله النص في ما بعد، والذي أخذ البعد العاطفي والنفسي حيزا كبيرا فيه، عبر مونولوجات داخلية وأحلام يقظة وتداعيات حرة عاشتها البطلة في محاولة منها للتأقلم مع هذه العلاقة الشائكة التي اَلت في نهاية المطاف إلى الفشل، حين أجبرها أهلها على الزواج من ابن عمها الشاب القروي البسيط، الذي شكل الفارق الثقافي وعلاقتها مع باسل حاجزاً نفسياً لديها في تقبله كزوج لها، لكن القارئ سيجد أن النص انحاز في نهايته الدراماتيكية إلى الواقع العام، أكثر من انحيازه لطبيعة العلاقة الصادقة التي ربطت البطلة (سما) مع حبيبها (باسل) فقد شكل الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 محورا اَخر توازى مع النص وتقاطع معه في بعض محطاته المفصلية، وأثر في نهايته بشكل مباشر، لذا تعد رواية «وجه في كرة» أحد مظاهر أدب ما بعد التغيير، وأحد المخرجات السردية التي حاولت أن تعالج الواقع العراقي المأزوم، الذي خلفه الاحتلال الأمريكي وتداعياته الاجتماعية والنفسية والسياسية، حين ارتبط النص بالاحتلال من خلال انخراط باسل في مقاومة الاحتلال، وتعرضه للاعتقال والسجن بسبب موقفه هذا، لتكتشف البطلة ان ابن عمها القروي (فهد) حمل الهدف نفسه الذي امتلكه حبيبها باسل، حين التحق هو أيضا بمقاومة الاحتلال وتعرضه للاعتقال والسجن، هذا التزامن في المواقف، ربما خفف من وطأة النهاية الحزينة للرواية.

محاور النص:

العنونة: يشكل العنوان العتبة الأولى لأي نص، وهو في دلالته يمثل نصا موازيا لمتن الرواية، ومفتاحا لفهم قصديتها، «وجه في كرة» دلالة على ارتباط بطلة النص وجزء من أحداثه بكرة المنضدة التي احتفظت بها البطلة كذكرى من حبيبها باسل، الذي اعتاد على لعب كرة المنضدة في أروقة الجامعة، لتذهب هذه الكرة الصغير في حجمها الكبير في ما تحمله من مغزى ورمزية في رحلة مع البطلة، وتشكل ثنائية معها وبديلا عن باسل في غيابه، عبر تيار وعي باطني، واستحضار لماضيها الجميل معه، استخدم فيها الروائي تقنيات (المونولوج الداخلي والاسترجاع والاستذكار والقفز والتداعي الحر) لتشكل الكرة رمزية لتقلب هذه العلاقة وعدم استقرارها، وحضورا طاغيا وقلِقا لبطلها باسل في ذاكرة البطلة سما: (وجهي في كرة المنضدة البيضاء التي يلعب بها الشباب في زاوية من زوايا ساحة الكلية، تتقاذفها الركتات تتدحرج فوق الأرض بعيدا عن أطرها المحددة لها، الخروج عنها يعني أن هناك خاسرا، فمن الخاسر في تدحرج رأسي خارج إطار أحلامي المعتمة؟).

اللغة: كانت اللغة الوسيلة الناجعة التي استخدمها علي الحديثي في تخريج نصه، والأداة التي مكنته من إيصال ما يريد حين اختار لنصه بطلين مثقفين يمتلكان وعياً مكتسباً مكنهما من التعبير عن مشاعرهما وما يدور من حولهما بطرقة واعية.. ما جعل من وجه في كرة رواية نخبوية في لغتها وطرحها ومعالجتها للواقع، اقتربت لغتها في بعض محطاتها من القصيدة النثرية كما في هذا النص: (أتوه بين متاهات الزمن، أتلمس في شعابه بحثا عن جدار اتكئ عليه، لم يعد صوتي صدى اتكئ عليه.. لم يعد لصوتي صدى انتظره.. أوراق شجرتي تتساقط، أخشى أن يتوقف عزف الهواء في حديقتي يوما، ولا شيء يبقى سوى فراغ يعوي في العدم).

القرين: تأسس البناء الهرمي للرواية على مجموعة من العلاقات الاجتماعية التي مثلت نمطين.. منها علاقات اجتماعية ولدت مع النص وشكلت جزءا من تركيبته البنيوية، مثل (علاقة البطلة بأبيها وعلاقة البطلة بأختها سمر) وأخرى مثلت علاقات طارئة على النص لكنها محورية في تركيب وسير أحداثه مثل (علاقة سما بباسل وعلاقة سما بابن عمها فهد وعلاقة باسل بفهد).. من بين هذه العلاقات الإنسانية، شكلت علاقة باسل مع فهد مفارقة حياتية وسردية جعلت منه (قرينا إيجابيا) ساهم في تغيير حياة فهد نحو الأفضل، حين قادتهم الصدفة إلى أن يشتركا في الغرفة نفسها داخل المعتقل، ما أتاح لهما أن يتبادلا همومهما وتطلعاتهما، واستثمر فهد وجوده مع باسل بأن جعل منه مرشدا له ومعلماً ساهم في تثقيفه، ومنحه جزءاً من وعيه كما في هذا الحوار بين فهد وسما يشير فيه إلى التأثير الإيجابي لباسل في حياته: (فأخذ يحدثني عن أمور شتى.. الحب.. العلاقات.. الحياة.. تعلمت منه فجعلت نفسي رهينة بين يديه أسير معه كمريد صوفي مع شيخه، وصرنا متلازمين حتى لقبنا بين المعتقلين بالصنوين.. كانت لدينا كتب في المعتقل فكان يحثني على أن أقرأ).

التشيؤ: ارتبط أبطال الرواية مع الأشياء التي حولهم بطريقة حسية أثرت كثيرا في أدائهم وردود أفعالهم وتصوراتهم على الواقع المعيش، وقد بدا هذا جليا في طبيعة الأماكن التي زارها بطلا النص، وارتباطهما الحسي والوجداني معها، كما في هذا النص: (نسير في باب المعظم.. شارع الرشيد.. يخبرني عن الأماكن التي نراها تمتعنا بمشاهدة سوق الانتيكة نقلب الحاجيات العتيكة التراثية التي تحمل عبق بغداد).. وهناك علاقة وجدانية وحسية ربطت سما بغرفتها، كما في هذا النص الذي يمثل تداعيا حرا للبطلة: (أنكرني أثاث غرفتي تتهامس قطعه في ما بينها مستغربة من هذا الوجه الجديد الذي عاد طافحاً بسرور مشوب بقلق).. إلا أن علاقتها الفريدة مع كرة المنضدة ذكرى حبيبها باسل، شكلت أهم مظهر لهذا التعالق الحاصل بين البطلة وأشيائها: (ضممت الكرة إلى صدري.. أحسست بأصابع باسل التي لم تزل حرارتها فوق الكرة تلامس نهدي).. هذا التعالق الحسي بين البطلة والأشياء المحيطة بها، عبرت عنه الروائية الفرنسية ناتالي ساروت (بالتشيؤ) وعرفته على أنه: (مجموعة من الردود الحسية والنفسية بين الإنسان والأشياء).

كاتب من العراق








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي