اللعبة الحكائية وتنوع القصديات في رواية «غريزة الطير»

2023-06-26

علي لفتة سعيد

لا يبدو العنوان في هذه الرواية هو البوابة التي يدخل منها المتلقي إلى مدينة الرواية، ليسير في شوارعها ودهاليزها وحدائقها ومساحاتها وصحرائها وبحرها ونهرها وجنوبها وشمالها وشرقها وغربها وعاصمتها، بل هو، أي العنوان، حاصل جمع التلقي الكلي لكي يتم فهم المغزى الكبير لعنوان كهذا.

فالتأويل ما بين الغريزة والطير متعدد الوجوه، لا يبدأ بالحرية ولا ينتهي بالطيبة والقلب الكبير، وما بينهما البحث عن المنفى، أو الضعف، أو القدرة على تحمل العذاب والمطاردة، وغيرها من التأويلات. لذا فإن المنتج عبد الزهرة زكي اختار العنوان لا ليكون ركيزة أو عتبة للدخول، بل أراده شطرا تأويليا، ولا أقول شعريا لأن المشكلة إننا نربط المعرفة بالمنتج، لنسير على ما نعتقده له، فيكون الارتباط وثيقا، وإن كان كذلك لكن علينا أن نسير مع النص لا مع العلاقة الشخصية. ولهذا فإن الشاعرية هنا تولدت بجملة العنوان أكثر منها جملة شعرية، قد تحتاج إلى عملية القبض على لحظة القصد لإنتاج المعنى.

يبدو أن اللعبة التدوينية في هذه الرواية تنبني على تعدد المقاصد للأقطاب والأحداث والشخصيات، فهي تُفرَش على مائدةٍ حكائية سردية متنوعة ومتعددة، ما يجعلها تحتاج من المتلقي أن يمتلك القدرة على لملمة الأحداث الموزعة على مساحاتٍ مكانيةٍ وزمانيةٍ عديدة، وكأنها سيناريو مسلسلٍ طويل الحلقات، لذا فإن زكي المنتج قد جعل من كل راوٍ في روايته (وهي رواية متعددة الأصوات) متكلما عما يريد هو أن يحكي ويقول، وإن تحول في بعض المرات إلى المخاطب والغائب في محاولة لإعطاء عملية الروي مجالها الجمالي في التحولات الكبرى، خاصة في تلك المتعلقة بالجانب الذاتي.

إن اللعبة التدوينية في الرواية اعتمدت على استخدام عدد من المستويات الكتابية المتقاربة في المهام، مختلفة في السعي، تفعل فعل الدال لإنتاج المدلول، من خلال ما هو ذاتي إلى العام.. بمعنى أن البناء الداخلي الذي أريد له أن يكون متعمقا في السيكولوجية الفردية للبطل المتكلم/ الراوي كان ظاهرا من خلال حركتين.

الحركة الأولى: الحديث عن الذات والعائلة وما هو متعلق بالشخصية الرئيسية في الراوية التي أخذت على عاتقها الحديث بطريقة الحكي.

الحركة الثانية: الحديث عن الخارج المرتبط بالشخصية، وهو ما أخذ الكثير من المساحات والأماكن والشخصيات. وهذا ما جعل اللعبة التي انتهجها المنتج تأخذ أبعادا مركزية الدائرة، حيث يكون المركز هو الشخصية، ومحيطها الحدث بكل أبعاده الحكائية، في حين كانت أنصاف الأقطار هي الشخصيات التي تبدأ حركتها من المحيط إلى المركز.

الحركة الأولى كانت تبدأ من المركز إلى المحيط، إضافة إلى أن اللعبة، من خلال هاتين الحركتين، قادتا المستويات التدوينية لتفعيل محركات الحكاية من أجل إبقاء صوتها داخل الحركة الدائرية من المركز إلى المحيط والعكس صحيح. ومن هذه المستويات:

المستوى الأول: المستوى الإخباري، وهو المسؤول عن تفكيك الحكاية وتوزيع مهامها، وفق الحركتين المذكورتين، وهو المستوى الأكثر استخداما في الروي: (اختصرت زيارتي لعبد الكريم فاضل جانبا أساسيا من سعيي لتنفيذ ما وعدت به. هذا ما جعلني سعيدا طيلة الطريق). أو (ساعدتنا الطبيعة التخصصية لمستشفانا، أنا وزوجي الدكتور حسين خالد البندر، على أن لا نكون بتماسٍ مع القوات العراقية طيلة وجودها). وهو هنا يوضح أن الشخصيات المحورية المتنقلة في الروي أخذت على عاتقها الإخبار الحكائي لتمثل كل روح الرواية، التي جعلت الراوي هو المسيطر، سواء كان راويا كلي العلم، أو راويا اختفى خلف الراوي الرئيس. لأن هذا التنوع مع الفصول التي تبدأ بمقطع سرد شعري يشير إلى ماهية ما يأتي من فعاليات وصراع وفعل درامي، كلها تعتمد على هذا المستوى المتفاعل والمتفاني مع روح السرد في الرواية التي تعتمد على الحكاية لإنتاج الفكرة.

المستوى الثاني: المستوى التصويري/ الوصفي، وهو مستوى شبه غائبٍ، كون فعاليات السرد قد أخذت على عاتقها ملاحقة الحدث وفق الحركتين السالف ذكرهما. وهذا المستوى يكون منزويا بين زوايا المستوى الإخباري ذاته:

(التقط فوزي أكثر من صورة داخل البيت، ثم انتقلنا للتصوير في الحديقتين الخلفية والأمامية، وبعد ذلك لصورٍ أخرى خارج المنزل على ضفاف شط العرب وزوارقه وأبلامه الصغيرة وسفنه التي غطستها الحرب فيه).

المستوى الثالث: هو المستوى التحليلي الذي كان أشبه بالمسؤول عن تحويل المبنى من كونه حكائيا خالصا إلى صورةٍ سرديةٍ حين تنقل لغة الروي من الخاص إلى العالم وما يحيطها، وهو مستوى كان يقوده الروائي من أجل أن يمنح دفقا عاطفيا مقبولا للمعلومة التي ترد على لسان الراوي، وقد يكون في حالةٍ واقعيةٍ بطريقةٍ مفاجئةٍ تارة، أو حالةٍ مقصودةٍ تارة أخرى، كونه يعبر عن وجهة نظر بما حوله في هذا القسم وفعالياته، أو ذاك القسم وصراعاته:

(يا للموت! الحقيقة الوحيدة الأكيدة بوضوحها حين تختلط الحقائق وتضيع في بعضها).

اللغة ومهام الحوار

إن اللعبة التدوينية اعتمدت كذلك على لغةٍ شارحةٍ إخبارية، ولأننا نعرف المنتج كونه شاعرا وباحثا في الشعر وناقدا له، فقد تميل الكفة إلى أن تكون اللغة في الرواية شعرية، أو أنها تقترب منها، لكنه أي المنتج هنا ابتعد بطريقة شبه كلية عن أن يكون هناك أثرٌ للجمل الشعرية الخالصة، إلا بما هو متوافق مع مقدمة الفصول الخمسة، مقتربا من الوصفيات بهذه الطريقة ـ مبتعدا عنها في ما يخص سرديات الحوادث التي انهمرت فيها الكلمات المتلاحقة عبر لغةٍ راويةٍ للحدث. ونرى أنه استخدم اللغة وفق أربعة معطيات.

المعطى الأول: اللغة التي تمنح الصورة المتخيلة للمتلقي من أنه يقرأ حكاية لشخوصٍ عبر رواةٍ متعددين أو تعدد الرواة. (كان الدمار الذي طال المدينة، ومعه مآسي الناس، أعظم من أن يسمح بالانشغال بمصائر أفراد، يسحق الفرد في مثل فواجع كهذه، لقد بقيت الجثث متناثرة على الطرقات كإهانةٍ للموتى وإرهاب للأحياء).

المعطى الثاني: اللغة التي تنتقل عبر الحدث من شخصٍ إلى آخر ومن راوٍ إلى آخر، عبر اتباع طريقة التصاعد العمودي للشخصية وحدثها، على العكس من الروي الأفقي الذي يأتي عبر الدواخل الذاتية. (كان قصي سعيدا بحيث لم يعبأ بتحذيري وهو يتحدث بطلاقةٍ عن الحرب محسومة النتائج. لقد تخلى فجأة عن تحفظه وتردده في التعبير، فيما بدوت أنا، يوما بعد آخر، متلكئا لا أجد ما أقوله).

المعطى الثالث: اللغة التي تندمج فيها روح المتن مع خاصية الحوار الذي كان مبتسرا وقليلا ومهما، حتى لكأن الحوار جزء من المتن والعكس صحيح. (لكني لم أخرج. فحالما غيرت ملابسي وكنت على وشك المغادرة نحو كافيه قريب، فإن التلفون عاد ثالثة ليرن: «ألو بابا، أنا سهاد».

المعطى الرابع: اللغة التي تقود الحدث الذي يقوده الراوي العليم الذي يمسك بأدواته عبر التزامات الاختلاف الزماني والمكاني، كون الرواية كما ذكرنا تُفرش على أماكن عديدة داخل وخارج البلد، ما يعطي بيئاتٍ عديدة ومتنوعة ومختلفة.. (في المكتبة استوقفتهم الكتب الإنكليزية الأقدم، بعض طبعاتها تعود إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين).

ولهذا فإن اللغة هنا قد تبدو متشابهة بين الرواة، ومتفاعلة مع الحدث، ومتفقة مع نقله، مثلما هي متفقة مع طبيعة الحكاية وطبيعة الإنتاج لها، لكنها أي اللغة لم تكن باستقامة الروي الواحد، فقد حاول المنتج كسر التوقع والتعالق بين الجملة السردية وأصوات الشخوص عبر إنتاج لغة الحوار باللهجة المحلية، وإن كانت غير مغرقة فيها إلى حد كبير، إلا بما يقترح من التغاير ما بين الأنثى والذكر في حرف (چ) (ماذا أحكي؟ والى متى؟ عبثا حاولت دحر دمع ترقرق في عيني حتى سال منهما. أدرت وجهي ومسحت الدمع: «راح أحچي لچ، رجاء لا تنفعلين»). وكذلك ما يمكن أن يفعله الحوار بهذه الطريقة من اقتراب المتلقي إلى روحية المكان ومعرفة اللهجة ومعرفة الشخصية أيضا ودواخلها ومكانها من الصراع.

(- حسين، أنت راضي عن دورك تجاه شعبك وبلدك؟

– اشتبين تكولين؟

ـ أنت تربكني. جاوبني حسين. أنت راضي ع اللي قدمته أنت لشعبك وبلدك في محنته؟).

مما يمكن أن نخلص إليه أن الرواية اعتمدت في لعبتها الإنتاجية على عملية المصاهرة بين الحكاية وفكرتها، وبين الحكاية وشخوصها، وكذلك بين فعاليات التنقل على عدة أماكنٍ داخليةٍ وخارجية. وهو ما يعني توسع في الحكايات وتراكب في المقاصد الذي جعل المستوى القصدي حاضرا، حين يتم التوقف عند النهاية، لربط تفكيك العنوان، وما ضخته من مستويات أخرى انبنت على فعالية العاطفة والعقل. فكانت غريزة الواقع العراقي والطير الذي تنقل بين الأماكن ليعطي إحداثيات الحكاية الروائية.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي