التجاور الزمني في رواية «بساتين البصرة»

2023-06-24

كه يلان محمد

التاريخ مصدرُ لكتابة الأعمال الروائية، ومن نافلة القول أنَّ ليس الغرضُ من طي الزمن بالعودة إلى العصور الغابرة تصحيحَ الأخطاء، في تسلسل الأحداث أو إجلاء الغموض عن المرويات بعينها، ذلك كله لا يقعُ في نطاق مهمةِ الروائي، لأنَّ ما يعتمدُ عليه هو منطق مُختلفُ يطمحُ إلى بناءِ نسقٍ موازٍ يفارقُ موجبات الهيمنة والأعراف المؤطرة للمعطيات التاريخية. وهذا ما يرادُ له البحثُ عن مداخل جديدة لإعادة ترتيب الأوراق على طاولة الرواية. إذن لا يطابقُ المشروع الروائي شكل الهرم التاريخي في سرد الوقائع بقدر ما يتوخى قلب هذا الهرم، أو زحزحته.

ولعلَّ التحدي الأصعبَ على هذا المستوى بالنسبة للروائي يتمثلُ في التموضع وسطَ أمواج من القصص لإمتاح ما ينتظمُ في سردهِ المُعارض. أكثر من ذلك فإنَّ التشكيلة البيئية بروافدها الاجتماعية والسياسية والفكرية تضعُ تجربة الرواية المتواصلة مع التاريخ على المحك، ويكونُ الأمرُ ضرباً من المُغامرة إذا أراد الروائي إنشاءَ مناخٍ تتجاورُ فيه الأزمنة، كما ترى ذلك في «بساتين البصرة» للروائية المصرية منصورة عزالدين، إذ تتناوبُ على وظيفة السرد شخصياتُ من خلفيات زمنية مُتباينة، وتستهوي مؤلفة «متاهة مريم» الاشتغالَ على بنية التوازي في حياكةِ مبنى نصها الإبداعي.

تفتتحُ عبارةُ مشحونةُ بالحس العجائبي شريطَ السردِ، ويُستدلُ على الزمن من خلالِ ما يتلفظ به الراوي، إذ يحيلُ إلى ما يسبق حركة السرد «بالأمس أكلتُ القمر» ويعقبُ ذلك الاسترسالُ في استعادة مشاهدَ كان ينفردُ فيها المتكلمُ بالضمير الأول بدور البطولةِ، فيما الأفرادُ المتناثرون على الشارع بدا وجودهم باهتاً. وما يستغربهُ الراوي هو منظر السماء التي كانت تسكنها ستة أقمار، لكن هذا لا يلبث طويلاً، وتداهم الظلمةُ المشهدَ. ويفسرُ ما عاينهُ من التحول بأنَّ ما أكله في الرغيف الملفوف ليس بيضة مسلوقةً، إنما كان قمراً، بالطبع أنَّ هذا المقطعَ يضاهي الحلمَ في بنيته الغرائبية. وتستشفُ منه الانزياح عن النسق الزمني المألوف. ويؤكدُ توالى الحلقات السردية المنحى التجاوري في بنية النص الزمنية. وكل ما ينبسطُ على مساحة الرواية من الأحداث تقعُ على مفاتيحه في الاستهلال وهذا ما يضفي إيقاعاً انسيابياً على حركة السرد.

شفيرة

تتغلغلُ ثيمةُ الحلم في بنية الحكايات الشعبية والسرديات اليومية. ولا مبالغة في القولِ بأنَّ الحلم جزء من المخيلة الجمعية، لذلك تمَّ توظيفه في النصوص الروائية، ويمكن الإشارة هنا على سبيل المثال، إلى «قصر الأحلام» لإسماعيل كاداريه و»رأيت فيما يرى النائم» لنجيب محفوظ. ومن المعلوم أنَّ الحلم إضافة إلى إرسالياته النفسية والاجتماعية يُعدُ تقنية للمناورة الزمنية في العمل الروائي. تمكنت منصورة عزالدين من كسر الحاجز الزمني بين عصرين، من خلال إدراج الحلمَ ثيمةً في برنامجها السردي، إذ يكونُ الحلمُ شفيرةً لمعرفة الشخصية المحورية وانشطارها بين نسختين، فهي تارةً تُدعى هشام خطاب، الذي يقيمُ في المنيا على شاطئ النيل، وتنسبُ جذورها تارة أخرى إلى مدينة البصرة، حيثُ كان اسمها يزيدُ بين أبيه وهو ينضمُ إلى حلقة واصل بن عطاء، عندما انشق الأخير عن أستاذه الشيخ الحسن البصري. على الرغم من المرجعية الواقعية للأمكنة والشخصيات المبثوثة أسماؤها في الرواية، غير أنَّ الموضوع يستمدُ منطقه الإقناعي من أبعاده الفنية وزخمه الإبداعي. ما يشدُ المتلقي إلى أجواء رواية «بساتين البصرة» هو التماسك الهيكلي والمسافة التي تفصل بين المؤلفة وأصواتُ الشخصيات المفوضة في المتن الحكائي. إذ يلمحُ هشام خطاب إلى ما رآه في المنام عندما كان يتنفسُ هواء البصرة، ولم يتخذْ اسماً جديداً، ولا يتغافلُ في السياق ذاته تفسير الإمام لمفردات رؤياه، فقطفُ الملائكة للياسمين في بساتين البصرة، يعني أفول علماء المدينة، وما إن يسمع هذا التأويل حتى يؤرقه الشعورُ بالذنب، كأنَّه مسؤول عن النكبة التي تحل على المكان. ولا يبوحُ لشيخه بأنَّ الحلم يعاوده باستمرار ويبصرُ شجيرات خلت من الزهور وياسميناً يدوسه المارةُ. يعلنُ الراوي عن رغبته لمشاركة القارئ في مادته المسرودة، بالإشارة إلى تفسير الأحلام الكبير لمحمد بن سيرين، متوقعاً بأنَّ حلمه قد وجد طريقاً إلى صفحاته. يمضيُ المتكلمُ في استعادة ذاته العتيقة، لافتاً إلى مدفنه في بقعة منسية على شط العرب. مع أنَّه كان من بين عداد الموتى، لكنه ما فتئ مقيماً في «تفسير الأحلام الكبير» إلى أنْ يقومَ من رقدته بنسخة حديثة على ضفة النيل، ويكون ابناً لأبٍ مغرم بفن الحكي مفتوناً بالسيرة الهلالية، فيما الأمُ لا يعجبها شيء وتقضي سحابة نهارها في الشكوى والعويل. وما يهمُ هشام خطاب هو البحثُ عن اللغز الذي كان يقض مضجعه في نسخته الأولى، وبذلك يخالفُ نصحية فريد الدين العطار «فلتكف عن البحث فما فقدت شيئاً، ولتكف عن الكلام فكل ما تقول ليس سوى ثرثرةٍ» إلى هنا ما يفهمُ من الومضات التي تعبرُ المشهد السردي أنَّ الحلمَ شفيرة للنص. وآليةُ للترابط بين مكوناته.

التناغم اللامرئي

يتسعُ حزام رواية «بساتين البصرة» للعديد من القصص الفرعية وما يزيدُ من المتانة في تراكيبها والتواصل بين أجزائها هو الإيقاع اللامرئي في الوضع الأخير فتحيلُ نهاية كل وحدة إلى ما سبقها من الأحداث فمصير زيد بن أبيه التراجيدي إذ تتورطُ زوجته في قتله بالمشاركة مع عشيقها مالك بن عدي النساج، وهو يدفن صديقه هائماً باللذة التي يجودُ بها جسدُ مجيبة. يلوحُ في الذهن مع اكتشاف حقيقة المجوهرات المخبأة في الجدار، إذ تسولت النفسُ لابن أبيه بقتل شخصٍ كان في رمقه الأخير ويعاني الأمرين من المرض في سنة الوباء، طمعاً في صندوق صغيرِ قابضاً عليه. تعودُ هذه التفاصيل إلى شبكة التذكر عندما يبوحُ هشام خطاب بضلوعه في إشعال النار في بيت أستاذه المتواري عن الأنظار، لأنَّه كان مستهدفاً بسبب آرائه الجريئة. وهذا يعيدُ إلى الذاكرة لحظة تتزامنُ فيها جريمة يزيدُ بن أبيه مع انتشار خبر وفاة أستاذه واصل بن عطاء. لا ينتهي التناغم اللامرئي وهو أشد تأثيراً وقوةً من التناغم المرئي، حسب رأي هيراقلطس بين مكونات الرواية عند هذا الحد، بل مفاعيله تتجلى أكثر في تقاطع الدروب بين هشام خطاب وبيلا فالأخيرة تثير إعجاب الوافد من المنيا ليس بجمالها الفاتن، أو مظهرها الشبيه بلوحة مارك شاجال الموسومة بـ«بيلا روزينفيلد» فحسب إنما ينجذب إليها عندما يرى تفسير الأحلام الكبير شاهراً عنوانه بيدها. وما يعمق رغبة هشام لمعرفة الأستاذ الذائع صيته بالزنديق، هو الاستفسار عن نسخته العتيقة يزيد بن أبيه غير أنَّ الأستاذ الأزهري يلتبس عليه الاسم قائلاً، إنَّ زياد بن أبيه لم يكن معاصراً للحسن البصري. هكذا فإنَّ الحلمَ هو المحرك لآلة السرد واستباق لكل حدث يتحققُ فالمصير الذي تنتهي إليه العلاقة بين يزيد بن أبيه والخواص، يراها واصل بن عطاء في المنام. كذلك فإنَّ الحلم الذي ترويه مجيبة للنساخ تُشهدُ ملامحه في انسياق المرأةِ لغوايات اللذة. يذكرُ أنَّ قوة هذا العمل الروائي تكمنُ في متانة التصميم والدراية في الترتيب، والإدراك لدور المساحة في بناء هوية النص. زيادة على كل المواصفات المشار إليها آنفاً، فإنَّ التعاطي مع التاريخ كان على النحو الأمثل. لم تتوغلْ منصورة في التفاصيل التي تثقل حركة السرد، بل اكتفت بالتماعات بليغة لمنعطفات تاريخية ألقت ظلالها على حياة المدينة منها، دخول القوات البريطانية إلى البصرة في مطلع الألفية الثالثة، وما عاشته مصر من تحولاتِ مع بداية ما سمي بالربيع العربي. والمعنى المضمر في طبقات هذا النص يعارضُ ما ذهب إليه أتباع مذهب الاعتزال ومحاولتهم لإقصاء دور القدر في حياة الإنسان، صحيح أنَّ ما يترشحُ من الحوار الباطني للشخصيات يؤكدُ الإيمان بإرادة مستقلة للفرد، لكن الوقائع المشهودة في الرواية تفتحُ باب الشكِ حول مصداقية هذا الرأي.

ما يجبُ قوله في هذا المقام إنَّ منصورة عزالدين شغوفة بالمغامرة الإبداعية تكتبُ بنفس الصائغ المتقن وما يشغلها باستمرار هو استنفار طاقة الكلمة لصياغة جملة مكثفة. وهذا ما يلاحظ من عناوين روايتها «جبل الزمرد» و»أخيلة الظل» و»ما وراء الفردوس» و»أطلس الخفاء» فالقارئ غير العربي عندما يتابعُ أعمال عزالدين بلغة أخرى لا يقول: هذه بضاعتنا ردت إلينا. لأنها تستلهم ثيماتها من روح الحضارة الشرقية، معمدُة نصوصها بالحكم الصوفية المأثورة، مقتدية في خيالها بعنفوان ألف ليلة وليلة، لذلك لا يصعبُ عليها حشد الأزمنة في خطها الروائي.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي