هواجس الشعر التحررية في ديوان «بالماء سأكتب»

2023-06-09

 جبر الشوفي

في سلسلة كتاباته المعدّة للنشر، أصدر الشاعر السوري حسام السعدي ديوانه الأوّل «بالماء سأكتب» معتمداً شعر التفعيلة وموزّعا قصائده الكثيفة المتلاحقة على 128 صفحة، تلهج بهواجسه الشعرية، وتضعه في صفوف الاستشرافيين المهتدين بنور الكلمة والمتجاوزين لتلك المقاربات المتوجّسة لمسألة الحرية صنو المسؤولية وقرينتها الاجتماعية، لترسيمها زوّادة فكر وثقافة ودرب خلاص. وبها وبالكناية عنها يفتتح ديوانه بإيماءة غنائية قصيرة على (مفاعلتن) يحدد فيها سمته ووجهته التحررية الخارجة على أساليب من يرسفون في أغلالهم التقليدية، فيقول: «ويسألني.. بغير الماء لن أكتبْ/ ولن أحلمْ / تركتُ معابدَ الكتبةْ/ أنا السحبُ/ تسافرُ نحوها سحبٌ/ وتهجر نفسها عطشاً/ لتولد ألف ساقية… وتسألني عن الصخبِ؟ وبإضافة هذه الإيماءة إلى توطئة سبقتها «سأقول في أثيرالآهات الآن اهتديتُ اهتداء الكائنات إلى البحر» تترسّم ترنيمة تحرّر وانتماء إلى النور الكلّي وتتجلّى مسألة الحرية بأبعادها الدلالية والرمزية ومتعلّقاتها، عبر الذات الشاعرة ومحمولها الميتافيزيقي الوجداني المفعم بالمشاعر والأحاسيس. ولأنّها كذلك، فهي تأخذ سمات شاعرها الثقافيّة والسيكولوجيّة وتتلوّن بذائقته وبأسلوب ملامسته التجريديّة والتصويرية، وفي مسرى غنائيّ ممسوس بنفحة صوفية، تستبطن حوارها وجدليتها بين (الأنا ) و(الأنا الأعلى) باعتباره لغة الضمير، وتعبيراً عن المسؤولية الاجتماعية والإنسانية العامة.

في هذا المحور الشعري التحرري، ينزرع الشاعر ويزرع أشعاره في مقطوعات شعريّة كثيفة ومتلاحقة ولاهجة بمحمولاتها المعنوية والرمزية، وقد أولى لشكل الكتابة وطريقة توزيعها هندسياً في بياض الصفحة عنايته، منطلقاً من انسجام الشكل والمضمون، وليطول توزيعه علامات الترقيم والفواصل والنقاط، وقطع المتلازمين والتسكين، كدلالة على اهتمامه بالحالة التأمّليّة على حساب الشفويّة، ولتتآلف الكلمات والأفكار تعبيراً وإيقاعاً وتوزيعاً بصرياً حول مركز استقطابها، وكأنّما هي ابنة لحظة اكتشافها وحصيلة نزعة الذات نحو التجريب وتوجّسها، واندفاعها في معاقرة قيمها الإنسانيّة وفي مواجهتها الوجودية لوسائل محو الخاص وتغييبه وخصخصة العام وإخضاعه.

هكذا حسمت قصائد رومانسيّة شفيفة وجهتها إلى بحرها الرمزي، وقد اعتمدت الماء وتحوّلاته حقلاً دلاليّاً، يظلّ متوهجاً بالحوارالنشيط بين قطبي الحضور والغياب، والوجود والعدم، وفي التمرّد على كسل الاعتياد على «معابد الكتبة» والانخراط بالجوهر المحدث، مبنى ومعنى. فالبحر.. السحب.. السواقي.. العطش والإرواء.. استنارة بدوال اللغة السيمائيّة ومجازاتها وتحوّلاتها بين المنبع والمصبّ والفروع والأصل. والخلاصة في تمكين المعادل اللغويّ من الإعلان عن انتماء الشاعر الرمزي إلى حرّيته بوصفها خياره الحركيّ المستقبليّ.. وبهذا الحراك وعد بتفجير ينابيع القول، وتجاوز كسل الحلم وصولاً إلى إيقاد جذوة الرغبة التي اهتدت إلى أصلها في المطلق الأبديّ.

وإذا كنت قارئاً، غير معنيّ بالقبض على الفكرة الشعرية المراوغة لإبراز نصاعتها – وهي الناصعة بذاتها – بل بردها عبر رموزها وإشاراتها ودلالاتها إلى متعلقاتها الفنيّة، فلأنّها خاطبتني بالخلب والغمز وردّتني إلى معايير انسجامها وتوافقها، إيقاعاً وتوزيعا هندسيّاً، وحيث يتناغم الأبيض الورقيّ مع سواد الحبر وما يتخلّلهما من أدوات ربط وإفراد للكلمة، أو تسكييت لبعض غنائيّتها، لإبراز جوهرها وكذلك الفصل بنقاط تشير إلى مرجعية كلام لا نهائيّ، لم يُقل، ولن يقال، لأن (أجمل الكلام ما لما يُقل وأجمل القصائد ما لما يكتب بعد).

كذا أقرأ ميتافيزيقيّاً ديوان «بالماء سأكتب» وأتلمّس عواطف هادئة لكنّها عميقة ومشحونة بانفعالاتها ومعبّرة، فكأنّما خرجت من عقل العاطفة، أو عقلنتها، وتحررت من احتقانها بالشعار واحتفائها بصخب المنابر.. كذا شكّلت الإيماءة الأوّليّة والتوطئة، ركيزة حاملة وموصلة لما تلاها وما بُني عليهما من هواجس وتداعيات شعريّة، تَعبُر بالرغبة من كمونها (اللوبيدي ) في عتمة اللّاوعي إلى منطقة الوعي، محمولة باستعاراتها التي تنهض بها كلمات نفض عنها شاعرها غبارها، كما في «يدلّي» أمنياتِه في « غياباتها» و»أشرعة حلم تثقبه أمنيات الوصل»، وحيث الأمنيات والحلم وشاح للرّغبة وإقصاء «كيف أحيا غريقاً تؤجّلني الأمنيات.. عارياً من مرايا البريق أسير. أرتدي من ضياء انكساريَ.. تاج انتصار.. لا ذرى فيه.. لا هاويهْ»، وحيث تتوالى الجموع المؤنثة يغدو الصحو دنوّا من (الموغلات ) في خواطرها «المترفات». وحين يتجلّى الانتماء إلى الحرّية في (سلّة) مشروطاً برجوعها لأن صمت الحادي، برمزية مكانته: «تقوم من إغفائها المسافةْ… تنام الأمكنةْ فتنهض الرغبة بالسرابْ.. خائفة مرتجفة».

ويقودنا هذا إلى أن للشاعر حسام السعدي، تذوّق الحِرِّيفين لخواصّ الكلمة المفردة فنيّاً وتعبيرياً، وكأنما هو مكتشفها في لحظتها أو باعثها من مواتها، شأنه في ذلك شأن أعلام المتصوّفين في إبراز جوهر الكلمة المفردة قبل إطلاقها في سياقها، كيلا تخسر شيئاً من نصاعتها، ولتتنامى مع حرّية الفكر واستقلاليّة الفرد. أما وسائل شاعرنا في ذلك فهو الانتقال من رشاقة التوزيع الكتابي إلى التوقّف اللحظيّ التأمّليّ وتحسّس نبض الكلمة وإيقاعها، مقيّدة ومطلقة ساكنة ومتحركة. فالكلام ليس قشرة للمعنى، بل هو تعالقٌ عشقيّ بين الجسد ونبضه وتدفّق دمه… إنّها وقفة تذخير للمفردة، لترد مواردها وتعود منها رؤية ناضجة منسجمة مبنى ومعنى، وزناً وإيقاعاً (تفعيلة واحدة ثم تتكرر اثنتين اثنتين) حتى آخر الجملة الموسيقيّة: (أنا السحبُ / تسافر نحوها سحبٌ/ وتهجر نفسها عطشاً/ لتولد ألف ساقية.. أتسالني عن الصخب؟

وفي خلاصة قولي: إنّ حسام السعدي هو شاعر متبتل، يحتسي ضوء كلماته الغجريّة ويسري بها مسحوراً ومقارباً للقول (أنا الكلمة والكلمة أنا) كنظير ومعادل للقول (أنا من أهوى.. ومن أهوى أنا).. فللكلمات النيّرة حقّها في العلوّ والارتقاء.. وتكمن قدسيّتها في تحريرها من فجورمن لطّخوا ثوبها أو دنسوا طهرها، ولأجل ذلك يتوخّى الشاعر إعادة مهابتها وإشعاعها التأمّليّ بعيداً عن صخب المنابر ووسوسة القوافي.

هكذا قدّم الشاعر نصّاً شعريّاً حداثيّاً ابن زمانه ومكانه.. معولما بلا عولمة، وهو خاص يسعى إلى اكتماله وحواره بما يستبطنه من أسئلة إشكاليّة مجردة، مرجعها إلى ميتافيزيقيا المشاعر والأحاسيس، الغامضة/ في وضوحها ولها غنج الأنثى وتدلّلها وصلابتها واحتشادها بالصور والعواطف والأفكار. إنها جرعة من ماء بحر، يحتاج إلى قراءة متأنية واستعادة، ففيه الكثير مما يغري ويغني.. وفيه تقانة وأناقة الترتيب والتبويب وسعة أفق التعاطي، مع مسحة الحداثة الخاصة، لأن شاعرها هنا، يشقّ طريقه مستقلّاً بذاته وبصنعته وبهما يجلو هويته بتأنّ وهدوء وبمزاج الشاعر الأصيل.

كاتب سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي