
هاني بكري
في عام ألف وتسعمئة وتسع وتسعين، كنت طالبا في العام الثاني في كلية دار العلوم، جامعة القاهرة فرع الفيوم، وكان من عادتي أن أخرج من حي الجامعة على أطراف المدينة، وأواصل السير حتى محطة القطار القديمة في منتصف المدينة، التي هدمت للأسف في ما بعد، رغم طرازها المعماري الفريد. كان إلى جوار المحطة كشك لبيع الجرائد والكتب والسجائر، وما تيسر من بسكوت وعصائر. كنت أذهب إليه لتفقد كتب السلاسل التي كانت تطبعها وزارة الثقافة بسعر مخفض، وكان صاحب الكشك بحكم دربته، ووقوع الكشك أمام مبنى قصر الثقافة المبنِي على هيئة هرم مقلوب، يترك محبي القراءة لتصفح الكتب بعضا من الوقت قبل الشراء. في هذه الظهيرة الحارة نسبيا لفت نظري عنوان رواية ضخم «وليمة لأعشاب البحر» لكاتب لم أكن وقتها أعرفه، ولسبب أيضا لا أعرفه انصرفت عن شراء الرواية، رغم قراءتي لصفحة وبضعة أسطر منها، وفضلت التسكع على المقاهي والمطاعم الشعبية التي كانت موجودة خلف سينما عبد الحميد، والتي لا أدري إن كانت موجودة حتى الآن أم لا.
لأتفاجأ في اليوم التالي بضجة على الرواية فاقت كل التوقعات، فهرعت لشرائها، إذ لم تكن خاصية «بي دي إف» متاحة وقتها، ولا سبيل للاطلاع عليها سوى شرائها، لأتفاجأ أيضا أن سعرها وصل إلى حوالي مئة جنيه، وهو رقم كبير في هذا التوقيت، ليس على طالب جامعي فقط، إنما بشكل عام.
والغريب أن مجرد رواية هي في النهاية عمل أدبي محض، تثير ضجة مثل هذه، فقد انتفض طلبة الأزهر بنات أولا؛ ثم بنين لاحقا، بمظاهرات منددة بما سمته حربا على الإسلام، ليلتقط التيار الإسلامي الخيط، ويهب عبر صُحفه ومنصاته منددا بالرواية، لتخرج المظاهرات عن السيطرة ولتواجه بتدخل أمني شديد، أودى على ما أتذكر ببعض الإصابات الخطيرة في صفوف المتظاهرين، وهو أمر ليس غريبا على طلبة الأزهر بشكل خاص، بحكم خلفيتهم الريفية البسيطة التكوين، وبحكم بعدهم عن دراسة الفنون والعلوم الإنسانية والموسيقى والأدب، فضلا عن نظرة قاصرة لدونية هذه المعارف، والأمر ليس غريبا على التيار الإسلامي بشكل عام في مجمل تكويناته المفصوله عن الواقع والراهن التاريخي، والغارقة في قاع السبات الدوغمائي، ناهيك عن الجماهير العامة المستنفرة دائما وأبدا للدفاع عما تراه مساسا بالدين، بشكل مبالغ فيه وحساس، ما أعطى مساحه لخلق سلطة تراتبية وكهنوتية لرجال دين من المفترض فيه بداهة خلوه من التعقيدات والمراسم الكهنوتية، والشكل المؤسساتي التسلطي.
دَخلت على خط الأزمة يومها جريدة «الشعب»، التي كانت تضم خليطا من أمزاج شتى من الكتاب، من فلول اشتراكية، وكَتَبْة إسلامويين،، في خلطة عجيبة غير مفهومة الأبعاد. كتب محمد عباس، حينها على صفحاتها مقالا عجيبا بعنوان (من يبايعني على الموت)، داعيا بفجاجة إلى حرب لا تبقي ولا تذر على مؤسسات الدولة الثقافية، سرعان ما تحول هذا المقال في الدوائر الأدبية والثقافية إلى فكاهة، فمن يبايع من وعلى ماذا؟ فضلا عن استدعاء لغة قروسطية إزاء أزمة فكرية في كل الأحوال، لا تخضع سوى لأدبيات وسجالات التداول الثقافي والفكري، لهذا صار العنوان المنتشر حينها في الدوائر الأدبية (من يبايعني على الموز) أوقع من المبايعة على الموت. كانت رؤية بعض المثقفين ساعتها أن عباس نموذج لبعض الكتاب المكتوين بنار الأدب، والرؤية الدينية المتشددة في آن واحد، ما يخلق صراعا فكريا داخل الكاتب نفسه، غير قابل للحسم ولا التوسط ولا التوفيق، ما يعكس أيضا خللا في البنية المعرفية والفكرية، وهي حالة تشبه حفر نفقين متوازيين مختلفين في العقل. (قابلت محمد عباس بعدها بوقت طويل بحكم عملي في القنوات الدينية، وتأكدت من وجهة النظر هذه).
الآن وبعد كل هذه السنوات، وبعد تقييمي لرواية «وليمة لأعشاب البحر» كرواية عادية ، وليس أفضل ما كتب حيدر حيدر، رغم إعجابي ببنية الرواية الفنية وبالأزمة الوجودية الخاصة ببطلها، لم تكن تستحق كل هذه الضجة فضلا عن السؤال البديهي جدا؛ لماذا تحدث ضجة أصلا على عمل أدبي أو فكري؟ لكن يظل السؤال الآخر المستعصي على الذهن: هل الجماهير المستنفرة دائما للدفاع عما تراه مساسا بالدين والقيم، قابلة على تلقى وقبول سرديات ومدونات التنوير؟
الجماهير المستعدة دائما للخروج والتجمهر والتدمير، وممارسة شتى أنواع التعصب والتنمر والسب بأقذع الألفاظ، سواء على عمل أدبي أو فكري؛ أو حتى منشور على وسائل التواصل يدعو للتفكر وإعمال العقل في ما وجدوا عليه آباءهم، وعدم الهلع من وجهات النظر الأخرى، وهو ما يفضى إلى أسئلة أخرى: هل يُصْنَع التنوير نخبويا؟ وبغير قاعدة جماهيرية حامله لقيمة؟ والإجابة في الحالتين؛ لا. لهذا لا يوجد مؤشر حتى الآن ينذر بحدوث عصر نهضة على غرار النموذج الأوروبي، ذلك لغياب تيار جماهيري – ولو قليل- حامل لقيم الأنوار، ومدافع عنها، ومحتضن لرموزها، فالشعوب في عصور النهضة الأوروبية هي من حمت رموز التنوير من بطش السلطات الدينية والسياسية، وهذا شرط فعلي لتحقيق عملية الإحالة، وهو شرط غير متحقق في منطقتنا العربية خاصة، وعالمنا الإسلامي عامة؛ وهو أيضا تفسير بديهي لإخفاق محاولات الاستيقاظ ليس فقط من نهايات القرن التاسع عشر وحتى الآن على يد رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، لكن من عصور الإسلام التاريخي الأولى، الذي لُفظت فيه علوم الفلسفة والمنطق والكلام، ووصمت بتهم الزندقة والتجديف والهرطقة، ولوحق أصحابها بالنفي والسجن والقتل خنقا وحرقا وذبحا وسط مباركة جماهيرية لا يمكن إنكارها ولا نفيها. ولا يمكن أيضا التغافل عن راهنية وجود هذه الشريحة الجماهيرية، ذات العقل الدوغماتي العابر للزمان والمكان والقابل للتولد والتفرخ والتناسخ جيلا فجيل والرافضة لأي محاولات تجديد أو تطوير أو تنوير، أو حتى اجتهاد فقهي خارج عما ألفوه؛ لهذا وحتى اللحظة هذه؛ لا أمل.
كاتب وإعلامي مصري