سونيا مبروك: علينا أن لا نترك «المقدس» يهجر حياتنا

2023-06-06

موريس كيرنيفن | ترجمة: عبدالله الحيمر

قادمة من جنوب المتوسط، الكاتبة والإعلامية الفرنسية سونيا مبروك من مواليد تونس العاصمة، خريجة المعهد العالي للتجارة في قرطاج ـ جامعة سوربون.

في كتابها الأخير «استعادة المقدس» ترى أن عودة ظهور القداسة في الغرب يمكن أن تمثل وسيلة لإنقاذ الحضارة المسيحية من الانحطاط المعلن عنه، تدعونا لإعادة اكتشاف الجمال الأبدي والحكمة الحقيقية للمقدس في حياتنا. كان معها هذا الحوار حول كتابها الأخير.

يكشف كتابك «استعادة المقدس» إشكالية المقدس في الغرب، كيف نحدده؟ فيما يتعلق بأي فترة يمكننا استنتاج البعد عن المتسامي؟

في تقديري، المقدس يتوافق مع جزء غير قابل للاختزال من الإنسان، إنه يشير إلى ثوابت لا يمكن تجاوزها، بحيث لا يمكن لأي ثقافة إنسانية الاستغناء عن المقدس، أو حتى إنكاره، لكن من الواضح أن المقدس غائب اليوم عن الخطاب العام، على الأقل في أوروبا الغربية، وكأنه لم يعد له مكان في النقاش. ولهذا نحن نفقده، لأننا نعتبره خطأ متناقضا في مجتمعاتنا الحديثة. يُنظر إلى المقدس على أنه شيء عفا عليه الزمن، في رأيي أنه أحد الأسئلة الاستراتيجية المعاصرة التي يجب أن نعيد التفكير فيها. على سبيل الأمثلة أو الأمثلة المضادة، دعونا نلقي نظرة على خطابات السياسيين، قبل كل شيء «القيم» التي يتم استدعاؤها خلال خطاباتهم. القيم، هذه الكلمة الجامدة، التي، بحكم استخدامها في جميع المناسبات، أفرغت تماما من معناها. لكن لا يوجد شيء مقدس في كل هذه الخطب. ومع ذلك، إذا تم التصفير أثناء النشيد الفرنسي، أو إذا تم نهب قبور أصحاب الديانات الإبراهيمية، وإذا تم دعس العلم الفرنسي، فماذا سيقال؟ سيقال إنه تدنيس، وازدراء بقيم الجمهورية الفرنسية. وإذا كان ممنوعاً، ومحظوراً، إذا كانت هذه الأشياء غير قابلة للنقض، فهي بالتالي تعتبر مقدسة في نظر الجميع. ومع ذلك، فإننا نمتنع عن قول ذلك صراحة. لأن المقدّس مخيف، فهو يفرض خطوط حمرا وحواجز وحدودا. إنه ليس طريقا سهلا. يفترض التضحية. في مجتمعاتنا ذات الحداثة السائلة والعدمية، لم تعد التضحية تعني الكثير، باستثناء جنودنا بالطبع.

من الصعب تحديد تاريخ هذا الابتعاد عن المقدس، والمفارقة هي أن المقدس موجود في داخلنا بشكل فردي – تذكر تلك العبارة الرائعة من باسكال: «لا تبحث عني إذا لم تجدني بعد» – وفي الوقت نفسه، فإن الجماعة تطرده بعيدا عن أعيننا وإخراجه من حياتنا، فهي تجعله نوعا من الجنون لاعقلاني لمنظومة للفكر الغربي، لرفض ما يبدو له أنه غير مناسب للمجتمعات الغربية ما بعد الحداثة. ومع ذلك، فإن هذا التخلي، هذا الاستخفاف بفكرة المقدّس نفسه، قد يكون مدمّرا، لأنه يمكن أن يؤدي إلى محو الطقوس والعادات الاحتفالية في مجتمعاتنا.

أنت تكرسين صفحات مثيرة لمختلف اللقاءات التي قمت بها شخصيا مع المقدس. فكيف يعبر عن نفسه؟ ألا يتعين علينا أحيانا الابتعاد عنه لاستعادته من جديد؟

في نظري، إذا قمت بمطاردة المقدس من خلال باب عقلك، فإنه سيعود حتما من خلال نافذة قلبك، لذا فإن الابتعاد عنه – للحظات- يمكن، في الواقع، أن يسمح بالفعل باستعادة معنى إعادة الاتصال بما هو أكبر من الذات، مع شخص بعيد لكنه قريب منا جدا. في هذا المضمار يعتبر المقدس بمثابة مقدس شخصي، وحتى حميمي. وفي النهاية المقدس هو أن تكون قادرا على ملامسة، في بعض الأحيان، الالتهابات الكبرى للأسئلة غير المكشوفة في هذه الحياة. في هذا الكتاب، أتحدث بصوت منخفض عن شيء ضروري بالنسبة لي. إنها ذكرى والدتي في المساء في غرفتي وهي تمرر يدها على شعري بلمسة حنان ووفاء نادرة. في هذه اللحظة بالذات، هنا ينتابك شعور بأن ما يسكن في السماء (بغض النظر عن الطريقة التي تسميه بها، الله أو أي شيء آخر) يميل على سريرك. وحتى لو لم تعد والدتك موجودة، فإنك تشعر إلى الأبد بدفء هذه اليد السماوية التي تتمتع بقوة أكبر من جميع كل الديانات، سواء الوضعية، أو السماوية في العالم. هذا هو أيضا المقدس الذي يقيم الحب بين يد الأم وشعر الطفل. في هذا الفضاء، في هذا المفصل، ما يسكن في السماء يستقر ويتجذر إلى الأبد، أي الحب المطلق. أنا أحاول إضفاء نوع من الطابع الإنساني على المقدس بقول ذلك. المقدس، من وجهة نظري، هو القوة غير المرئية التي في داخلك والتي تقاوم الموت.

إذا، كما تؤكدين، استعادة المقدس يمكن أن ينقذنا، لماذا يبدو المقدس أقل حدة اليوم في مجتمعنا؟ هل هذا من أعراض عدم قدرتنا على قبول غير المرئي؟

كلمة المقدس في مجتمعاتنا الغربية تحمل الكثير من التحيزات والإكراهات المفاهيمية. وتثير الكثير من الاستياء. إنها بمثابة خطوة للخلف عندما نتحدث عنها. كما لو أن الكلمة ضربتها بروق عدم الشرعية، كما لو أنها تحمل علامة ملتهبة لما هو مخيف وغامض. لم نعد نقبل ما هو غير مرئي، لأنه يتعارض مع عقلانيتها. فالأمر لم يعد يتعلق بالعقلانية اليوم! يبدو لي أن ما يميز مجتمعاتنا الغربية هو التبرير المفرط الذي تنتج عنه ظاهرتان: النظافة والاقتصاد. بعبارة أخرى، الاقتصاد، أي صرنا نعبد الاقتصاد والأرقام.. نحن نفكر في الرقم والعدد طيلة اليوم. هذا ليس نقدا، إنه ملاحظة، ومع ذلك، يحتاج الإنسان إلى شيء آخر. إنه يحتاج للتاريخ، إنه يسكن سيرورة الزمن. أنا أدين، أو بالأحرى أشير إلى هذا الترشيد الذي يتدخل في جميع المجالات، والذي يؤدي إلى النظافة التي يجب أن تشكك بنا. وهنا الأمر أكثر إثارة للقلق لأننا لم نعد نتحمل المخاطر، فنحن نطالب بعدم المخاطرة، وفي النهاية نرفض فكرة الموت وبالتالي طقوس الجنازة. نحن ندنس الموت، خلال أزمة كوفيد، كان هناك اضطراب أنثروبولوجي كبير، سنعاني من عواقبه لفترة طويلة. قمنا بتعقيم الموت، ونزلناه إلى دور رعاية المسنين. واعتقدنا كأنصار «ما بعد الإنسانية» أن الموت ليس سوى انهيار في الحياة، وأنه يمكننا إصلاحه، هذا ما أسميه الحل التكنولوجي. نحن بصدد الإيمان بشعار سخيف ومدمر: الموت للموت! يتعلق الأمر بتحرير البشرية من حدودها العادية. هناك غطرسة تقنية مخيفة حقا وتذهب بعيدا جدا. أود أن أقول إنه على العكس من ذلك، يجب علينا مرة أخرى تقديس الموت، لأن النظر في عجزنا هو الذي يشير إلى حدودنا. هذه دعوة حزينة لكنها واضحة لقبول أن الموت جزء من الحياة. إنه قبول ما هو أبعد منا. مجتمع متحرر من كل الحدود، من كل الطقوس، من كل محدودية، لم يعد مجتمعا كليا، بل هو مجموعة من الأفراد. لا يمكننا العيش في عالم دون المقدس. لا يمكن للمرء أن يعيش في عالم دون قدسية. هذا يعني أن الإنسان سيتطور في مساحة متجانسة دون طقوس ودون تمزقات، بحيث لم يعد يفرق في شعوره الداخلي، حينما يهم بالدخول لكنيسة، كما هو الحال بالدخول إلى السوبر ماركت، وهذا هو واقع الحال اليوم بشكل متزايد. وهذا في تقديري مؤسف للغاية.

لقد اعتاد الغربيون على إنكار وجود المقدس. مثلا في أرض الإسلام، تحظى فكرة المقدس باحترام قوي، كيف يتم تدارك هذا التشويه غربيا في نظرك؟

بالطبع هذه التساؤلات وحتى مثل هذا التشويه يقلق بالمنظومة الفكرية الغربية. في الشرق (ليس فقط المسلم، أذكرك أن هناك دائما مسيحيين شرقيين) المقدس مقدس. أهمية الطقوس والاستخدامات هي دائما بارزة. هناك فهم حقيقي لما يجلبه المقدس إلى المجتمع. أوضح مرة أخرى في هذه المرحلة أن المقدس يمكن أن يكون أيضا مصدرا للعنف، يكفي الذهاب إلى مدينة القدس لفهم ما يعنيه صراع الثوابت الدينية، الذي يتوافق مع صراع الأماكن المقدسة في هذه المدينة الفريدة. هذا هو السبب في أنني أدعو إلى إعادة النظر في شكل آخر من أشكال المقدس، دعنا نسميه المقدس المدني. على أي حال، في جميع البلدان، هناك شيء مقدس وهناك أماكن تاريخية من الذاكرة الوطنية التي تعد بمثابة أماكن مقدسة، فمعسكر أوشفيتز النازي، هو في الأساس مكان للذاكرة. لا نتخيل أن هذا المعسكر سيختفي يوما ما. يجب حمايته، يجب استعادته، إنه مقدس بالذاكرة الإنسانية.

حسب رأيك، «إذا كان المقدس هو مستقبل الإنسان، فهو لا يتوافق في أي شكل من الأشكال مع مستقبل الإنسان كما يتخيله البعض، كإنسان متعال عن هذه القيم». اشرحي لنا هذه الفكرة؟

أود أن أقتبس هنا، عبارة الكاتب تشيسترتون: «الإنسان أمام فكرة عدم الإيمان بالله، يصبح عرضة للإيمان بكل شيء». لقد شجب الخطر الأكبر، وبعبارة أخرى الآلهة البديلة. اليوم، إله الاستبدال بالعالم الافتراضي الذي وعدنا به إيلون ماسك. المقدس في النهاية، هو درع أو على الأقل بوصلة في هذا العالم.لاحظت الكاتبة مارجريت يورسينار، في الدفاتر التحضيرية لمذكرات هادريان ـ هذه التحفة الفنية الأدبية والإنسانية ـ قولة للكاتب فلوبير: «في البدء، لم تكن الآلهة موجودة، ولا المسيح موجودا، كانت هناك فقط لحظة كان فيها الإنسان وحده، ابتداء من تشيسترتون إلى ماركوس أوريليوس». ها نحن إذا اليوم أمام هذه الحقيقة، الإنسان المنعزل الهش، القادر على الإيمان بجميع المعلمين الجدد، مع المخاطرة بأن نبدأ في الإيمان بخرافات مثل «ما بعد الإنسانية» الذين يرغب أصحابها في تحرير الإنسان من كل شيء، حتى يجد نفسه في النهاية عاريا من القيم والمقدسات، دون روابط، أو جذور.

تستنكرين ظهور رجل غير حساس لانبثاق السامي في وجوده، وراء مديحك الشديد للإيمان، أليس هناك نوع من النفور للعالم المعاصر؟

لا أعتقد ذلك على الإطلاق، المقدس قضية حديثة بشكل بارز، إنهم «الحداثيون المزيفون» الذين يريد أن يجعلوه فكرة عفا عليها الزمن. يبدو لي أن هذا هو السؤال الأساسي الذي طرحه الكاتب سانت إكزوبيري بطريقة واضحة. إنه يائس من هذه الوضعية، فلم يعد هناك شيء يعانق قلوب الرجال العمياء في هذا العالم، ومنها طرح السؤال التالي: «ماذا يجب أن نقول للرجال؟» إنه تساؤل عميق في هذا العماء الروحي الإنساني، الذي يحتفظ اليوم بكل شدته. يطرح الكاتب بطريقة جسدية هذا اليأس الروحي، يقول إنه لم يعد في إمكاننا العيش دون شعر، اللون أو حب. ويكتب هذه العبارة البليغة :»لمنح الرجال معنى روحيا، وهموما روحية، لا بد من السماء أن تمطر عليهم شيئا يشبه التراتيل الغريغورية». إنه في الواقع بحث عن المعنى الذي يحفر عميقا في كل أعماله كما في رواية «القلعة» ألاحظ ذلك، واستنكره، لا يعني رفض العالم الحالي، بل التشكيك في الاتجاه الذي يسلكه. من وجهة نظري، هناك اتجاه آخر يجب اتخاذه، وهو ما يجعل من الممكن عدم إعادة ربط الإنسان بالسماء، لكن إعادة ربطه بنفسه.

الإيمان ليس بالأمر السهل، يتطلب جهدا في ظل هذه الظروف، أليست الاستعاضة عن المقدس بالمدنس شرعية ؟

المقدس ليس بالضرورة دينيًا، وبالتالي فهو لا يتعلق بالعقيدة هنا. علاوة على ذلك، في هذا الكتاب، أنا لا أدعو إلى استعادة مكان ديني للمقدس.. من ناحية أخرى، أحاول إزالة سوء فهم مهم: المقدس والدين ليسا الشيء نفسه. المقدس ورجال الدين، الأمر مختلف حتى لو كان في إمكانهم الاختلاط بالطبع. وهناك أيضا تاريخ طويل بين المقدس والديانات التوحيدية، لكن المقدس يمكن أن يكون ملحدا أيضا. وقد يصل حتى للإلحاد الأصولي. لا يمكن بأي حال من الأحوال اختزال المقدس في القداسة والإيمان. ولا تحتكر الأديان إدارة المقدس. ليس هناك فقط مقدس بالكنائس والكنيس والمساجد. هناك مقدس مدني، وهناك أيضا مقدس علماني موجود، وهو الأكثر بروزا في عالمنا الحالي إلى حد ما. إن السؤال الكبير المطروح، ليس حول معرفة ما إذا كان الله موجودا، لكن معرفة كم من الوقت سيأخذه الإنسان من أجل الله. هذا المتسامي الذي أتحدث عنه ليس كعلاقة عموديا دينيا فحسب، بل ذلك العمودي الذي يهرب من مستوى الانطواء. من المهم الإصرار على هذا المدني للمقدس، لأن الديني المقدس، من جانبه، حصري وغالبا ما يكون مصدرا للصراعات والعنف. في دولتنا العلمانية وذات السيادة، رفضنا أي مقدس يأتي لفرض قاعدة، أو تسلسل هرمي على المجتمع، لذلك أود أن أتحدث أكثر عن مقدس جمهوري. لكن على أي حال، لا يمكن للإنسان أن يعيش دون طقوس. الإنسان كائن طقوسي يحتاج إلى» الاحتفالية» بما يسمح به المقدس بالطبع، إنها «العقدة التي تربط كل شيء معا» كما يقول سانت إكزوبيري مرة أخرى.

ترجمة بتصرف عن المجلة الفرنسية Revue des deux mondes







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي