شاعرٌ يُدافع عن وجود الفاتِنات!

2023-06-05

زينب علي البحراني

لم يكُن مُجرد مهووسٍ بالغزل الصريح، كما صورت بعض القراءات السطحية أشعاره والظروف المُحيطة ببيئته الأُسرية والمُجتمعية؛ بل كان شخصية باسِلة وإعلاميا ذكيا اختار أقوى وسيلة إعلامية في عصره لتكون رابطا بين اسمه، وقضيةٍ لا تعرف الخسارة على مرّ الزمان وهي قضية «الوجود الأنثوي» في مُحيطه، قادهُ وعيه بمستوى إدراك الناس خلال تلك المرحلة لاختيار تراكيب تقليدية ذات مُفرداتٍ بسيطة تخلو من الإغراب، لتحظى بفرصة الانتشار بين جموع الجماهير دون حواجز.. هذا ما يكتشفهُ القارئ عن شخصية الشاعر عمر بن أبي ربيعة مع صفحات الفصل الأول من كتاب «نبض النص.. دراسة أسلوبية» لمؤلفته البحرينية رفيقة بن رجب.

النساء أهم من الخليفة!

يحكي التاريخ أن الخليفة الأموي سُليمان بن عبدالملك سأل عمر بن أبي ربيعة: «ما يمنعك من مدحنا؟»؛ فأجابه: «أنا لا أمدح إلا النساء» وهو جوابٌ يُعلن عن شجاعةٍ مُنقطعة النظير، مُسجلا موقفا يرى في مدح الجانب الأنثوي من المُجتمع بما فيه من لُطفٍ ونعومةٍ وسلامٍ وجمال قيمة أعلى من مدح الشخص الذي يتمثل به الكيان السياسي بأوجُهه الدموية العنيفة، كما أنها محاولة واعية ـ على ما يبدو- للنأي بذاته من مخاطِر التورط في همومٍ أشد خطرا وأكثر جدية، لذا تقول رفيقة بن رجب في كتابها عن شعره، إنهُ «شعر الظرفاء، والقصاصين، وتزجية الفراغ، إلا إذا اعتبرنا أن تزجية الفراغ والظرف في حد ذاته يُحدد موقف عُمر من الحياة الجادة ومن الابتعاد عن ذلك».

نساء بذوقٍ مُتحضر

في الفصل المُعنون بعنوان: «الحُقبة الأولى: يُمثلها الشاعر الأموي شاعر الغزل الصريح عمر بن أبي ربيعة (لغة عُمر الجمالية)»؛ تشير رفيقة إلى ما ذكره المؤلف عمر فروخ في كتابه «تاريخ الأدب العربي» عن كون «المرأة التي نجدها في أشعار ابن أبي ربيعة، تمتاز بذوقٍ مُتحضر مُختلف عما كانت عليه أمها وجدتها في العصر الجاهلي» لذا كان يتعامل معها وفق المُستجدات الحضارية للعصر الجديد، ومع ما كان يُعرف به من وسامةٍ وترف؛ كان «لبّاسا، حسن الهندام، رضي الخلق» سهل المُعاشرة، جوادا، عذب الحديث، بصيرا بخطاب النساء»؛ كما يذكر المؤلف رضا ديب عواضه في كتابه «المرأة في شعر عمر بن أبي ربيعة، عمر أبي ريشة، نزار قباني» تلك المرأة هي التي ألهمهُ وجودها الشعر، فقرر الاقتراب من هذا الوجود بلغته، ثم مُحاولة الدفاع عن بقائه بكل ما فيه من غموض وأسرار تستحق سبر أغوارها، ووضوح وإشراق يستحقان مساحات أوسع من الامتداد.

من التي لفتت نظر عُمر؟

يُشير الكتاب إلى أن مزاج عمر بن أبي ربيعة كان مُترفا انعكاسا للبيئة التي عاش فيها، لذا لم يلتفت إلا للمرأة المُترفة المُنعمة التي تتناسب طبقتها وبيئتها الحضارية مع بيئته المعروفة باستخدام الطيب والحُلي وأجمل الثياب، لتكون قادرة على فهمه ومُجاراته في المشاعر والأفكار.. لقد أدرك ببصيرته النافِذة ضرورة هذا النوع من التكافؤ ليصل معها إلى التناغم المنشود القائم على أرضية من المُساواة، وعن هذا يقول الكتاب: «المحاور الغزلية التي تستغرق شعر عُمر، شوقا وصبابة، وذكرى وإثارة، واهتماما بالمرأة، ومناوشتها بالأحاديث الغزلية، وتحريك غيرتها، أو الثناء بإبداء صفات الجمال والشمائل، والمُراسلة والمُعاتبة، والمغامرة في الوصول إليها، وإبداء الدلال والتمنع، ويُدخل نفسهُ عُنصرا في هذا الدلال والتمنع من واقع شعور المُساواة والمُماثلة».

نظرته للجمال الأنثوي:

على مدى 4450 بيتا ورد فيها ذكر اسم أكثر من 40 امرأة يتراوح عدد مرات ذكرهن بين مرة واحدة إلى 57 مرة؛ وصف الشاعر جمال وجوههن 20 مرة، وأفواههن 50 مرة، وعيونهن وأجيادهن 38 مرة، وشعرهن 12 مرة، وأجسادهن 46 مرة، وحركاتهن 22 مرة، وهيئاتهن وصفاتهن 65 مرة، وما يرتدينه من ثياب وحُلي وطيب 47 مرة، ومعانيهن الخُلُقية 23 مرة، لم يكُن «الجمال المادي» وحده المُحرك لاهتمام الشاعر بتلك المرأة؛ بل المواقف الشخصية المُختلفة له مع محبوباته، التي يشعر بها الشاعر شعورا فرديا مُتميزا نابعا من شخصية المرأة وطبيعة العلاقة بينه وبينها «وحينئذٍ يمكن أن يتجاوز إحساس الشاعر به هذا المظهر الجسدي ليرى فيه معاني العذوبة أو الإنسانية أو التعاطف أو الفكر أو الأسلوب الخاص في الحديث، ويُمكن أن يتغير هذا الإحساس من لحظة إلى أخرى ومن لقاء إلى آخر، فيغدو الفم ترجمانا عن حُزن أو سرور أو حُب أو نقص».

لا يُغادر القارئ الفصل الذي اختارته رفيقة بن رجب ليكون ترجمانا لمُعجم الشاعر عمر بن أبي ربيعة في تصويره الجمالي للمرأة، إلا بنظرةٍ جديدة تتماهى مع نظرة رجُل في مثل سنه وطبقته المُجتمعية للمرأة في عصرنا الحاضِر، إنهُ يؤكد أهمية وجودها بطريقة مُباشرة وغير مُباشرة، ويُحاول الدفاع عن هذا الوجود مُستعينا باللغة وما يملكه من بلاغة الكلمات.

كاتبة سعودية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي