رواية عن زمن الستينيات الأوروبي: غريبة وفكاهية سيرة الشاب الهارب من أهله!

2023-05-28

حسن داوود

صدفة يلتقي الشاب «فيتولد» بالشاب الآخر «فوكس» كانا هاربين، أولهما من الضغط الممارَس عليه من عائلته، والآخر من السطوة غير المحتملة لمسؤوله في العمل. يقرّران الذهاب في رحلة إلى منتجع في زاكوبانه، لكنهما لم يبلغاها. أتعبتهما الطريق فقرّرا النزول في فندق صغير، لكنهما، قبل أن يقرعا بابه للدخول، فوجئا بجثة عصفور معلّقة على شجرة، إلى جانب العصفور تعلّقت خشبة أيضا، بما دعا الشاب «فيتولد» إلى التساؤل حول ذلك طيلة صفحات الرواية المئتين والعشرين. وحين صار الشابان نزيلين، راحا يستكملان علامات ما شاهداه، واعتبراه علامة منذرة، أو سرّا فراحا يفتّشان غرفة الخادمة، متوّهمين علامات إضافية في ما يشاهدانه. وإذ راحا يتساءلان عن العصفور والخشبة المعلّقين في حضور العائلة مالكة الفندق، يظهر القلق على الجميع في مشهد يذكّرنا بما يصيب الشخصيات المعرّضة للقتل في رواية أغاثا كريستي «لم يبق منهم أحد» التي اقتُبست كمسلسلات في عدد من الأقنية التلفزيونية في العالم العربي، كما في العالم (عشرة عبيد صغار).

يتهيّأ لقارئ «كوزموس» وهو بعدُ في صفحاتها الأولى، أنه مقبل على متابعة عمل ساخر موضوعه رواية كريستي. أما في ما يتعلّق بمجمل الرواية فلا يفوت القارئ تذكّر رواية سالنجر «الحارس في حقل الشوفان» التي صدرت في 1945، أي قبل عشرين سنة من الرواية التي بين أيدينا. رواية سالنجر كانت قد عرفت عند ظهورها (حلقات مسلسلة في البداية) رواجا ساحقا استمر إلى أيامنا هذه، كاشفة عن ضيق الجيل الجديد، آنذاك، بتقاليد العائلات وأنظمة العيش الصارمة، «فيتولد» الشخصية الرئيسية في «كوزموس» ساع إلى أن يصنع أفكاره، بل عقله، بنفسه، في ما رفيقه ظلّ خاضعا لهيمنة مديره على مزاجه وأفكاره طوال ساعات الرحلة.

إثر تعرّفه على العائلة مالكة الفندق، أول ما لفته امتزاج شيئين وانطباقهما كأنهما يعكس أحدهما صورة الآخر: فم الخادمة كاتاشيا المشوّه بتدلي طرف شفته العليا على الشفة السفلى، وفم لينا الجميل، لكن الذي لم يعد كذلك في نظر «فيتولد» لأنه لم يستطع أن يراه إلا ملتبسا بفم الخادمة. هذا الارتباط بين المتفرّقات لا يتوقّف ذكره على لسان الراوي الذي يرى أن الأشياء والعناصر والمواد تسعى إلى الالتصاق ببعضها بعضا، مشكّلة، بنوع من الانجذاب المغناطيسي، ما يشبه المجموعات. هذه نظرية «فيتولد» الشاب التي يختبرها في كل شيء يراه، مغيّرا في النسق الطبيعي للفيزياء المحكوم بقوانينها الذهن العادي. بين ما يراه هناك عناصر تتآلف متجهة نحو تشكيل، في لحظة معيّنة، نوعا من الانسجام. هذا السعي نحو التشكّل هو منطق واضح بالنسبة له، وإن كان سفليّا كما يرى: «كل شيء يسهم في تشكيل لحظة معيّنة، مؤلّفة ذلك الانسجام».

وها هو يجد نفسه واقعا في إثر تلك النظرية فيروح، بلا سبب ولا دافع معروف منه، يمسك بقطّ المنزل ويبدأ بخنقه حتى يحوّله إلى جثة قطّ يعلّقها على طريقة ما هو معلّق العصفور. هذا راجع إلى قوة اندماج الأشياء والتحاقها بعضها ببعض. الخشبة والعصفور والقط، ما يجمع بينها ذلك التسلسل العادي، مثل واحد اثنين ثلاثة.. «يا للتناسق». ولكي يُستكمل النسق الذي أدى بـ»فيتولد» إلى خنق القط وتعليقه يعمد إلى قتل زوج لينا وتعليقه مشنوقا بحزامه، لكن ذلك، في الرواية، لا يجري مجرى الجريمة طالما أن الشاب لا يجزم، حتى لنفسه، بأنه هو القاتل، ثم أن لا أحد من المجموعة التي ضمت العائلة وضيوفها يشعر بالخوف من اتهام الآخرين له، فكل شيء هنا غير مفهوم ولا ينطبق عليه المنطق العادي. مثال على ذلك أن الرحلة التي قامت بها المجموعة لا غرض لها إلا احتفال إميل، والد لينا ذات الفم الجميل، بأنه هنا، من ثلاث وعشرين سنة إلا شهرين، لبّى نداء شهوته مع امرأة أحبها، وها هو جاء بالجميع ليحتفلوا معه بذلك.

كل شيء غريب في رواية غومبروفيتش: المنطق والعلاقات والشهوة وكذلك تعطّل الشهوة، ثم إعادتها إلى العمل، حيث استلزم انفكاك شفتي لينا عن شفتي كاتاشيا المشوهـتين شنق زوج هذه الأخيرة. الشاب «فيتولد» الهارب من كل ما هو مجمع عليه، وجد أن هناك قدرا من الشذوذ والعناد لدى الآخرين، حيث إن ما كان شاغلا عقله لن تبزغ بذرته في عقولهم. على الرغم من إصراره المستميت على تركيز منطقه الخاص.. فها هو، من ضمن سخريته ولا معقوليته غير المحدودة، يسعى إلى توضيح كل شيء ونزع الالتباس في ما يقوله وما يصفه، يبدأ ذلك من سعيه اللامحدود لإيجاد الصفة التامة تطابق/ الموصوف كأن ليكون الوصف هو ذاته الموصوف، لذلك يكثر من الكلمات في ما هو يقترب مما يريد تعيينه، كلمة ثم كلمة ثم كلمة أخرى، حيث يكون مع كل كلمة يقترب من الوصف التام المطلق.

رواية «كوزموس» تظل: لغرابتها، مستغلقة على قارئها، لا تتسلسل ولا تتابع ضمن المنطق السردي، حتى في أكثر أشكاله غرابة، إلا أنها تظل مع ذلك متمسكة بقارئها الذي ربما استهواه أن يسعى أحدهم لأن يجد نظاما بديلا يحكم العالم.

رواية «كوزموس» للبولندي فيتولد غومبروفيتش، نقلتها إلى العربية أجنيشكا بيوتروفسكا لـ«منشورات الجمل» في 220 صفحة ـ سنة 2023

كاتب لبناني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي