الحبيب الواعي: اهتمامي بالأدب المقارن هو الذي قادني إلى فعل الترجمة

2023-05-27

حاوره: عبد اللطيف الوراري

الحبيب الواعي (1985) شاعر، عازف ساكسفون، مترجم وأستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة ابن زهر- أكادير (جنوب المغرب). حصل على الدكتوراه في موضوع التلاقي الثقافي الممكن بين رواة طنجة وكتاب جيل البيت الأمريكي (Beat Generation) عبر دراسة حساسياتهم الجمالية وانشغالاتهم الفكرية في علاقتها بالجنسانية والعرق والهوية والانتماء الثقافي والوطني. نشر مقالات وقصائد مترجمة لشعراء معاصرين من الضفتين في مجلات عربية وأجنبية، ومن ترجماته التي نشرها في كتب: «أمريكا أمريكا: أنطولوجيا جيل البيت» (2018) و»حبس إلى أجل غير مسمّى: قصّة كلب» لمايكل روتنبرغ (2019) و»المطر القديم» لبوب كوفمان (2020). كما أصدر مجموعتين بالإنكليزية: «الآن ستعلم السيّدة جونس: قصائد ثائر يائس» (2015) و»جروح نتنة محنّطة بالقطران» (2020). يرى أنّ الترجمة مشروع إنساني نبيل وضروري يهدف إلى نقل المعرفة والفكر الإنساني في شتى تجلياته، من أجل تبديد سوء الفهم وتحقيق العدالة الاجتماعية والتعايش، قبل أن تكون مهنة مدرة للربح أو مشروعا سياسيا ذا نوازع استعمارية. مثلما أنها عملية مضنية، لأنها تتعامل مع أنظمة لغوية معقدة وغير متساوية.

من موقعك كمترجم لآداب غربية إلى العربية، كيف تنظر إلى الأدب كقيمة ونشاط إنساني؟

ولجت مجال الترجمة من باب الدراسات الأدبية، لاسيما من خلفية اهتمامي بالأدب المقارن والأدب العالمي، الذي تعرفت على تاريخه ومدارسه ومبادئه من خلال اطلاعي على كتابات غوته، وويليك، ووارين، وإتيمبل، ودامروش، وباسكال كزانوفا وغيرهم. انبهرت كثيرا بالقيم والمبادئ التي استند إليها الأدب المقارن، وبعده الأدب العالمي، على الرغم من الأزمات التي مرّ منها في تأثره وتفاعله مع نظريات ومنهجيات ومفاهيم أخرى لها علاقة بالانتماء الثقافي والقومي. شخصيا، لم يسبق أن فكرت في الأدب وقيمته كنسق أو نتاج جمالي يرتبط حصرا بقومية أو ثقافة أو جنس أو عرق أو لغة محددة، بل اعتبرته على الدوام حقلا معرفيا يهدف إلى تجاوز تخوم الانتماء وحدود القومية، من خلال تأكيده على أهمية الإبداع كخطاب عابر للقوميات والأوطان. كانت قراءاتي الأولى لمختلف الأجناس الأدبية باللغة العربية في قرية أمازيغية صغيرة، لا تتوفر على مكتبة مدرسية أو عمومية، واطلعت حينها على معظم القصص القصيرة والروايات والدواوين الشعرية التي كنت أشتريها أثناء زيارتي للأسواق الأسبوعية في المدينة المجاورة. بعدها انفتحت على اللغة الفرنسية فقرأت بها أمهات كتب الأدب الفرنسي، التي خطتها أنامل موليير، وراسين، ورونسار، وشاتوبريان، وهوغو، وبلزاك، وفلوبير، وزولا، وكامي، وسيلين، وسارتر، قبل أن أقع في حب اللغة الإنكليزية أثناء دراستي الثانوية. كان للغة الإنكليزية أثر كبير وراسخ في تكويني الشخصي والعلمي، بحيث فتحت لي آفاقا جديدة أطلعتني على ثقافات وشعوب وتجارب إنسانية مختلفة. أصبحت أقرأ لأدباء عالميين ينحدرون من افريقيا وآسيا وأمريكا وأستراليا وكندا، وأمريكا الجنوبية، وجزر الكاريبي؛ أدباء لم تتح لي الفرصة لأتعرف عليهم وعلى انشغالاتهم، وعلى أسلوبهم في الكتابة بسبب عائق اللغات المختلفة. بدا الأمر وكأن اللغة الإنكليزية قلصت المسافات واختصرت الأزمنة وحافظت على الجهد المبذول، بما وفرته من ترجمات للآداب العالمية. كان الأدب في عوالمه المتخيلة يمثل – بالنسبة لي- العالم الذي كنت أتوق إليه، والبديل الممكن لظروف الفاقة والحاجة التي كنت أعيشها. هناك في أحد أركان غرفة كئيبة ومهملة شيدت بلامبالاة على سطح المنزل، كنت أنزوي وأتيه في عوالم شكسبير، ودانييل ديفو، وتوماس هاردي، وأوسكار وايلد، وجيمس جويس، وهمنغواي، وجون ستاينبك، ولانغستون هيوز، وجيمس بالدوين، وشينوا أشيبي، ووول سوينكا، وديريك والكوت، وجميكا كنكيد، وجورج لامين، وبورخيس، وماركيز، وكورتزار، وأوكتافيو باز، وفيرجينيا وولف، وجيرترود ستاين، ودستويفسكي، وتولستوي، وكوغي، وبوشكين، وكونتر غراس، وهولدرلين وريلكه وغيرهم.

كيف تحولت من قارئ يتيح له الأدب متعة التعويض عن عالم مفقود، إلى مترجم بما يعنيه من خلق جسر بينك وبين الآخرين في أمكنة عديدة؟

أدركت مع الوقت أهمية الترجمة كمجهود نبيل يروم تقليص الهوة بين الثقافات والشعوب، كأداة تساهم في توسيع الإدراك ونشر الوعي، فانشغلت بتعميق إلمامي باللغات التي تعلمتها إلى جانب لغتي الأمازيغية. كنت كلما فرغت من قراءة نص أدبي في لغته الأصلية، تمنيت أن أتقاسم هذه الغبطة الروحية واللذة الحسية التي أشعر بها، مع أكبر عدد ممكن من القراء في اللغات التي أتقنها، وفي الوقت نفسه كنت أتمنى أن أقرأ النصوص المترجمة في لغتها الأصلية التي لم أكن أتقنها. كنت أحس بأن كل نص أدبي له تأثير خاص، وهالة جمالية فريدة في لغته الأصلية، يفقد جزءا منها في كل عملية نقل ترجمي يتعرض لها. وهكذا صرت أهتم بالترجمة كمجهود شخصي يسعى إلى محاولة نقل لذائذ الأدب والفن والفكر، باعتبارها مجالات تمثل معينا لا ينضب لأسمى ما يصبو إليه الإنسان من قيم، لتحسين ظرفه الوجودي.

هل تذكر حدثا أو منعطفا حاسما ساهم في اهتمامك الفعلي بالترجمة الأدبية، واتخاذها مشروع بحث؟

أذكر أنه في عام 2013، انعقد مؤتمر عن جيل البيت الأمريكي، وفيه تعرفت على أدباء وشعراء وفنانين كانت تربطهم علاقات وطيدة بأدباء هذا الجيل، كما التقيت آن ولدمان، إحدى أبرز شاعرات مدرسة نيويورك وأقرب صديقات ألن غينسبرغ، فاستدعتني للمشاركة في دروس الكتابة الإبداعية التي يلقيها مجموعة من الكتاب البارزين في مدرسة جاك كيرواك للشعر في جامعة ناروبا في كولورادو كل صيف. هناك سأتلقى دروسا في الكتابة الإبداعية وأنفتح على الترجمة من خلال كتاب ومترجمين بارزين، يهتمون بالإنسانيات المقارنة أمثال آن كارسن المتخصصة في الأدب الكلاسيكي، وجاك كلوم المهتم بالشعريات الإيكولوجية، وريد باي المهتم بالفكر البوذي، وسيسيليا فيسونا المهتمة بالفنون وثقافات الشعوب الأصلية، وإيمي كتانزانوالتي التي تدرس تقاطعات الشعر والعلوم في نظريتها عن «شعريات الكوانتم». من هذه اللحظة، أخذت تتبلور أولى أفكاري عن ترجمة أشعار جيل البيت، ومدرسة نيويورك، ونهضة سان فرانسيسكو وكوليج بلاك ماونتن إلى اللغة. مثلما التقيت الشاعر مايكل روتنبرغ مؤسس حركة «مئة ألف شاعر من أجل التغيير» الذي سبق أن تبادلت معه رسائل عن الكتابة الإبداعية والحياة الثقافية في السبعينيات ومشاكل البيئة، وعن صداقاته مع بعض شعراء جيل البيت (فيليب ويلن، جوان كايغر) الذي كنت أُعدّ وقتذاك أطروحتي الجامعية عنه. في سانتا روزا في كاليفورنيا سيبدأ أول مشروع من سلسلة ترجماتي الأدبية التي أطمح إليها، مع ديوان «قصّة كلب: حبس لأجل غير مُسمّى» لمايكل روتنبرغ (دار أروقة، 2019) الذي كان محكّاً بالنسبة ليّ، بالنظر إلى لغة عالمه الشعري الغرائبي.

من خلال تجربتك في الترجمة، ماذا بوسع الترجمة اليوم أن تفاوض عليه من أجل العيش المشترك وتقريب الثقافات؟

لا أدعي أنني راكمت تجربة مهمة أو حققت منجزا هائلا في ميدان الترجمة، لكن دعني أقول إن الأدب والفكر في علاقتهما بالترجمة وما تحمله من قيم إنسانية مشتركة، كان له تأثير كبير على شخصيتي وتصوري للحياة؛ فقد دفعت بي مجالات المعرفة التي احتككتُ بها إلى الانفتاح على الآخر، وجعلتني أتوق إلى استكشاف ثقافات وجغرافيات أخرى مختلفة عن موطني الأصلي. كافحت بما توافر لديّ من موارد مادية محدودة للحصول على تأشيرات تسمح لي بالسفر إلى دول مختلفة تعرفت عليها من خلال الأدب والفكر، وتتيح لي فرصة لقاء كتاب مبدعين كنت أطلع على كتبهم، وكانت تشغلني مثلهم القضايا الإنسانية التي ترتبط أساسا بالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة والتعايش السلمي والإيمان بالاختلاف. شكلت رحلاتي إلى أمريكا وكندا وتركيا وأستراليا وأوروبا منعطفا مُهمّا في حياتي الشخصية وتحصيلي العلمي؛ فقد استكشفت خلالها مواقع تاريخية وثقافية وأيكولوجية مهمة، وتعرفت على أناس مختلفين وتجارب جديدة. فالترجمة إذن مشروع إنساني نبيل وضروري يهدف إلى نقل المعرفة والفكر الإنساني في شتى تمظهراته من حيز جغرافي معين، ومن لغة معينة، ليجعله متاحا في مختلف بقاع العالم. إنها محاولة إنسانية، قبل أن تكون مهنة مدرة للربح أو مشروعا سياسيا يرجى من خلاله إخضاع الشعوب، كما فعلت قوى الاستعمار في عصور مختلفة. الترجمة نابعة من قناعات الشخص، وتطمح إلى ربط جسور التواصل مع الذوات والألسن والثقافات الأخرى من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والتعايش السلمي.

في المقابل، أليست الترجمة كخطاب ونظام معرفي وافد في إمكانها أن تغير في أبنية اللغة المنقول إليها وتستولد أنماطا جديدة من الوعي والكتابة والتلقي، وبالتالي توجب أدوارا أخلاقية على المترجم؟

الترجمة عملية مضنية، لأنها تتعامل مع أنظمة لغوية معقدة وغير متساوية، كما تقول نظرية سابير- وورف، ويمكن أن تنطوي على تحيزات وتناقضات، كما في التوجه النسوي أو التفكيكي الذي دعا إلى قراءة نقدية مزدوجة لما أنتجه الفكر الغربي من خلال تفكيك مكونات النصوص للوصول إلى المعاني التي تخفيها، متجاوزا مفهوم الحقيقة الثابتة. إنها مجهود فكري يبدو ضروريا ومستحيلا في الوقت نفسه، لأنها تخضع بدورها لعلاقات القوة الملموسة والمجردة، تلك التي تخترق الجغرافيات المتعددة للعالم وتكتسح البرامج السياسية والسياسات الثقافية لصانعي القرار. وفي هذا الصدد، يؤكد جاك دريدا على حاجة المترجم إلى التفاوض مع ما لا يقبل التفاوض، من خلال نسق علاماتي معقد واعتباطي يحكمه سياق معين لترجمة ما لا يمكن ترجمته. كما تؤكد غياتري سبيفاك بدورها أن «الترجمة هي فعل القراءة الأشد حميمية» وفيه يستسلم المترجم للنص بعد أن يحصل على إذن الآخر المختلف للتجاوز والانتهاك والخيانة، من خلال اللغة التي تتجاوز الذات حدودها. لهذا السبب نجد أنفسنا كمترجمين وممارسين لفعل الترجمة مرغمين على دخول ما سمته سبيفاك «حلبة الأخلاقي- السياسي» لأن الترجمة في نهاية المطاف هي «محاكاة بسيطة لمسؤولية أثر الآخر في الذات» وتستدعي تجاوز أغلال الهوية الشخصية أثناء إعادة إنتاج النص، وكأن المترجم يشتغل باسم أو بسند في ملكية الذات الأخرى. يبدو ضروريّاً من الناحية الأخلاقية، استحضار قيم مشتركة من قبيل الحصافة والعدالة والمساواة والديمقراطية والحق في الاختلاف، وحتى الحب الذي تتساءل سبيفاك عن مكانته ودوره في ما هو أخلاقي. يكمن دور المترجم في تبسيط هذا الحب الذي يربط بين الأصلي وظله، حب يسمح بالابتلاء والمجاهدة. لكي يكون المترجم أخلاقيا وسياسيا في الآن نفسه، فإنه يلزمه أن يعي هذه العلاقة الحادة التي تربط المنطق والبلاغة اللذين يمثلان، حسب سبيفاك، شرط المعرفة ونتيجتها؛ فالمنطق يتيح الانتقال من كلمة إلى كلمة بواسطة قرائن مشار إليها بدقة، بينما البلاغة تلتزم بالاشتغال على الصمت الموجود بين الكلمات وحولها بقدر ما تحافظ على أدبية النص ولذّته.

ما هي التحديات الكبرى التي تواجه الترجمة في عالمنا اليوم؟

ينبغي أن نعرف أن الترجمة ممارسة اقتصادية تتأرجح بين الاحترام والاستغلال، لأنها تسعى إلى التملك والاستيلاء الذي يهدف إلى نقل المعنى المناسب من النص الأصلي إلى اللغة الأم بطريقة مناسبة، وبأقل عدد ممكن من الكلمات لتفادي أي خسارة. ويتضح هذا العامل الاقتصادي وتبعاته في طبيعة العلاقة التي تربط بين المترجم والناشر والسوق، بحيث يجد المترجم نفسه في أغلب الأحيان يستجيب لاختيارات الناشر، التي يؤثر أعمالا ألفها كتاب معروفون يمتلكون قاعدة قراء واسعة، ويتخلى عن اختياراته الشخصية التي تحددها غاية نبيلة في تقاسم المعرفة ونشر الوعي، كما يضطر في نهاية المطاف إلى التخلي عن مقابل مادي يكلل جهوده في سبيل تأميم الرأسمال الثقافي المترجم. وفي ظل ظروف الرأسمالية المعولمة، يمكن للترجمة أن تصبح ضحية عندما تغدو مجرد أداة تواصلية للعولمة التي تصبو إلى جعل العالم قرية صغيرة، وفي الوقت نفسه تهدد باختزال اللغات الإنسانية إلى لغة واحدة لأغراض اقتصادية في غالب الأحيان، وهو خطر يجب أن ننتبه إليه كي نتفادى انقراض واختفاء اللغات العالمية التي تحمل في طياتها تجارب ثقافية إنسانية متميزة، وتحمل ذاكرة تاريخية فردية وجماعية. لا مناص من التذكير بأهمية اللغة والثقافة الأم لأي مشروع يهتم بالترجمة، خاصة في ظل ظروف العولمة التي تختفي فيها الخصوصيات الثقافية والممارسات الاجتماعية ذات البعد الكوني. يجب رد الاعتبار للغات الأصلية وللأدب الشفهي والشعريات الإثنية التي تذكر دائما بأهمية الحفاظ على النظام الإيكولوجي المعقد على هذا الكوكب، وعدم تفويت جميع السلط وملكات التفكير الإنساني لآلات ميكانيكية مرقمنة تمارس نوعا من القمع الإبستيمي، دون أن تحترم خصوصيات الذوات الفاعلة وحساسياتها.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي