الرواية الفائزة بجائزة البوكر العربية 2023… «تغريبة القافر» للعُماني زهران القاسمي: أساطير الموت والحياة

2023-05-26

محمد عبد الرحيم

«حدّثته نفسه بأنه من الخطأ أن تخرج بعض الأشياء من سجنها، وأن الماء الذي يُعيد الحياة إلى القرى، كان لزاماً أن يبقى في مكانه، لأنه مصحوب بلعنة منذ القدم. ولمّا قد سمع مراراً أن الماء المحجور في باطن الأرض تحرسه كائنات الأرض السفلية، ظن ما حدث لأبيه انتقاماً منها حتى يتوقف عن ذلك العبث». (تغريبة القافر)

ما بين الضرورة واللعنة والحياة والموت، تدور أحداث رواية «تغريبة القافر» للشاعر والروائي العُماني زهران القاسمي، الفائزة بجائزة البوكر العربية 2023، التي ترأس لجنتها الشاعر والروائي المغربي محمد الأشعري، ذاكراً في حيثيات فوز الرواية بأنها «اهتمت بموضوع جديد في الكتابة الروائية الحديثة، وهو موضوع الماء في علاقته بالبيئة الطبيعية، وبحياة الإنسان في المناطق الصعبة، من خلال تآلف مستمر بين الواقع والأسطورة، وبناء روائي مُحكَم ولغة شعرية شفافة، ومن خلال نحت شخصيات مثيرة تحتل دوراً أساسياً في حياة الناس.. وقد استطاع الكاتب أن يقرّبنا من مسرح غير مألوف للرواية المتداولة في الوطن العربي، هو مسرح الوديان والأفلاج في عُمان، وتأثير العناصر الطبيعية في علاقة الإنسان بمحيطه وبثقافته».

يُذكر أن القاسمي أصدر من قبل ثلاث روايات هي «جبل الشوع» 2013، «القناص» 2014، «جوع العسل» 2017، إضافة إلى مجموعة من الدواوين الشعرية، والقصص القصيرة والنصوص، التي جاءت بعنوان «سيرة الحجر».

مجتمع أسطوري

نظراً لطبيعة المجتمع العُماني وزمن الرواية الذي يوحي بهذا المجتمع قبل تحديثه، فالأمر يستدعي الأسطورة لتحاول تفسير ما يحيط بهذه البيئة، مع ملاحظة تحولات الأسطورة وإعادة إنتاجها في عصور لاحقة، فالحكايات لا تنتهي. وحتى يُشيّد الروائي عالمه غير المطروق ـ روائياً ـ لجأ إلى بطل شبه أسطوري ليؤسس من خلاله حكايته، بداية من ميلاده، حيث أم غريقة فارقتها الروح، ثم نظرة الشؤم التي ظلت تلاحقه من الجميع، فهو لا يستمع إلا إلى صوت الماء الدفين تحت الأرض وبين الصخور، فاعتزل الناس واكتفى بعالمه، وقد شاع أنه يستمع إلى صوت الجن، فكانوا يطلقون عليه (ود الجن) أو (ود الغريقة). فالأمر بدأ بلعنة جعلت من (سالم) مختلفاً، وبالتالي منبوذاً.

«وَلد عبد الله بن جميل يسمع شيئاً في باطن الأرض … استعاد الناس حادثة غرق أمه، وقالوا إن سكان البئر في العالم السفلي أخذوا جنينها ووضعوا أحد أبنائهم بدلاً منه. وهناك من اتهمه بالسِحر، فقال سيكبر وسيسحر الكبير قبل الصغير». (الرواية) ولم تقتصر فكرة الأسطورة والتواصل مع عالم ميتافيزيقي ـ يرضي تماماً المخيلة البدائية ثقافياً ـ على البطل وحده، بل امتدت فطالت العديد من الشخصيات، وربما هي الوحيدة التي تفسر سلوكهم. فـ(الوعري) الذي تغيّرت هيئته طفلاً بعد مرضه، طردته أمه، بعدما فشلت في قتله، وبررت ذلك بأن «الجميع كانوا ضدها وقد تحالفوا ليخفوا عنها الحقيقة الجليّة، حقيقة اختفاء ولدها عند الجن، وأنهم استبدلوا به الولد الجني الذي صار يعيش معها.. فصار يهيم على وجهه في طرقات القرية، ويلجأ إلى الظلال فيندس فيها مختفياً عن أترابه من الأطفال الذين كانوا يركضون خلفه باستمرار، ويشدونه من شعره ويرمونه بالحجارة ويصرخون عليه: ود الجن.. ود الجن». (الرواية)، فهذه الشخصية أيضاً لم تسلم من نعتها بالانتساب إلى عالم الجن.

القافر

(القافر) هو مقتفي أثر الماء، الشخص العليم بأماكن وجود الماء، ونظراً لطبيعة المكان، فهذه المهنة لها مكانة عظيمة، ولكن في الوقت نفسه تحمل في طياتها نذير شؤم وهلاك. الماء مصدر الحياة قد يكون نفسه هو سبب الموت.. «يتحول الصيف فجأة إلى شتاء قارس، تزمجر الرياح الباردة في الحواري وبين الجبال، فيهرب الناس إلى بيوتهم ليحتموا بها، لكن الريح عاتية، فيسقط بعض النخل وتتكسر أغصان الأشجار الكبيرة، وتكاد سطوح المنازل أن تسقط على ساكنيها. تظلم الدنيا ويهبط الضباب على رؤوس الجبال، ويبدأ المطر ينهمر بشدة، وكأن السماء قد دلقت نفسها على القرية. تجرف السيول البساتين وتذوب جدران البيوت الطينية فتتساقط السطوح، ويهرب الناس بأمتعتهم وطعامهم إلى مغاور الجبال ويحتمون بالكهوف الكبيرة لعدة أيام، ويبقون هناك يراقبون الماء وهو يغمر البلدة ويأخذ في طريقه كل شيء، فتصير بيوتهم أثراً بعد عين». (الرواية).

والبطل إثر هذا الارتباط بالماء يحمل فكرة الحياة والموت معاً. فبعد موت أمه وعند دفنها انهمر المطر وكاد يغرق المكان.. «ما إن مشت الجنازة في الدرب الضيق الطويل، حتى بدأت السماء تصب على الرؤوس مطراً ناعماً استمر يُرطب المكان والوجوه.. حُملت الجثة وأُنزلت ببطء، وزاد انهمار المطر فكادت تُفلت من أيدي حامليها، وما عادوا يستطيعون الرؤية، وكأن السماء قد اندلقت بحراً على المكان في تلك الساعة».. (الرواية). وأبوه كذلك راح ضحية مهنته، وفي الأخير هو نفسه (سالم) غاب واختفى.

الموت

فكرة الحياة والموت نفسها تمتد إلى العلاقات بين الشخصيات، فالأم (مريم) التي انتظرت خمس سنوات ليأتي طفلها، تموت قبل ميلاده، وكذلك زوجها الذي انتهت حياته نفسياً بعد موتها. كذلك (آسيا) المرأة التي فقدت رضيعاتها الخمس، فأصبحت جديرة بإرضاع الطفل يتيم الأم/سالم. كذلك هناك علاقات أخرى بدأت في الخفاء واستمرت كذلك حتى نهايتها، وربما هي علاقة كما الماء الساكن تحت الأرض، الذي لم يستطع أحد الوصول إليه، أو الكشف عن مكمنه، فـ(كاذية) عمّة مريم أم (القافر) عاشت دون زواج، واكتفت بكتمان حبها لـ(الواعري)، الذي اكتفى أيضاً بحبها في صمت، فقط عندما ماتت صار يجلس إلى جوار قبرها ـ وفي الظلام حتى لا يكشفه أحد ـ يناجيها ما كان يود حكايته طوال حياتها. فكرة الموت نفسها تحققت في علاقة البطل (سالم) وزوجته (نصرا) التي «سكنت في داخله مثل سكون الينابيع في قلب الحجر» (الرواية)، عندما غاب بدأت في غزل الصوف، رافضة عروض الزواج، مُتعللة بانتهاء هذا الغزل.. «تجلس أمام مغزلها وتفتح باب الأبدية في انتظار الخيط الذي سيأخذها إلى البعيد، كأن كل خيط درب يأخذها لتبحث عن زوجها في الوديان والجبال، بين الأشجار الكثيفة، ومغاور الصحراء والسيوح الممتدة، لعلها تصادف الرجل الذي احتفظت به في ذاكرتها، الرجل الذي طال النسيان كل شيء فيها إلا وجهه» (الرواية). فالنساء في الغالب يعشن حالات مزمنة من الفقد، وهي مفارقة أخرى فهن وإن جسّدن معنى الطبيعة في صورة المَنْح الدائم، إلا أنهن يعشن في محنة وعزلة أقرب إلى الموت.

وفي الأخير .. كانت هذه الأجواء الغرائبية، سواء بالنسبة للأحداث أو الشخوص، أو موضوعات غير مطروقة بكثرة في الرواية العربية، هي سبب فوز «تغريبة القافر» بجائزة البوكر. بغض النظر عن بعض الأشياء غير المنطقية في السرد الروائي ـ بغض النظر عن عالم الرواية ـ كذكر بعض الشخصيات غير المُبرر وجودها، وتضارب وجهات النظر السردية، وبالتالي موقع الراوي من سرد الأحداث، كذلك الاستسلام للحكي، ما يُعطل من الحدث الروائي.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي