
موسى إبراهيم أبو رياش
«سي دي هات» مجموعة قصصية للروائي والقاص المصري ممدوح عبدالستار، صدرت حديثًا في بيروت عن منشورات زمكان في 150 صفحة، وتتضمن خمسا وثلاثين قصة قصيرة وقصيرة جدا، ذات نزعة غرائبية وفانتازية، وتميل للسخرية والعبث، وتتميز بالإدهاش والمفارقة والرمزية. وتشكل بمجملها صرخة ألم وتوجع على واقع فاق الخيال، وأصبح فيه المثقف غريبا، متوجسا، يتمرد عليه لينظر إليه من الخارج في محاولة لفهمه، ورصد التغيرات المذهلة التي تطاله في المجالات كافة، خاصة الاجتماعية والسلوكية والاقتصادية والسياسية، وهي في معظمها تغيرات عبثية فوضوية لا تنسجم مع التطور المنشود والمدنية المأمولة. وتتناول هذه المقالة ثلاث قصص من المجموعة.
الصمت
جاءت القصة في خمس عشرة صفحة، ولكنها أقرب إلى الرواية القصيرة «النوفيلا»؛ بسبب تنوع أحداثها وعدد شخوصها واختلاف أماكنها، والفترة الزمنية الطويلة نسبيا، أو هي رواية جاءت في إهاب قصة قصيرة. والموضوع الرئيس في القصة، هو الصمت المفروض على سكان جزيرة وزوارها، ولا يُسمح الحديث إلا بإذن من الحاكم، وإلا فعقوبة الكلام الموت، وحجة الحاكم أن الكلام ثرثرة تعيق العمل والإنجاز. دخل ماجد الجزيرة مع رفاقه، ووقعوا في قبضة الحاكم بسبب ارتكابهم جريمة الكلام، لجهلهم بالمنع، وحكم على ماجد بالسجن إلى حين إعدامه، وعلى رفاقه بالأعمال الشاقة بعد أن حمَّلوه المسؤولية، ولكن ماجد لم يستكِن أو يستسلم، وبعد جهد جهيد استمال حارسه، واستطاعا بوسائلهما البسيطة المتاحة بث روح التمرد في سكان الجزيرة، وعندما حانت ساعة الإعدام، وقف الشعب في وجه الحاكم، وتخلصوا من حكمه الجائر، فآثر الصمت، وعُيِّن الحارس حاكما جديدا.
السلطة، أي سلطة، تفضل صمت الأتباع، وتتمنى قطع ألسنتهم، ومنعهم من أي وسيلة للوعي والتنوير والفهم. السلطة تريد قطيعا مطيعا، سهل الانقياد، يُجمد عقله، ولا يرى إلا بعيني السلطة، ويسمع بأذنيها فقط، والأمر أمرها، ولا معقب لما تقول. وما الإنسان إن لم يتكلم؟ ما الإنسان دون لسان؟ ألم يقولوا أن «الإنسان حيوان ناطق؟»، ما الفرق إذن بين الإنسان وغيره من الكائنات إن لم يتكلم؟ والقصة لا تقصد الصمت بمعناه الحرفي، بل كل كلام خانع خاضع مستكين مداهن للسلطة وجبروتها وظلمها هو صمت إن لم يكن أسوأ. وكل كلام سخيف عبثي سطحي هو صمت، وكل كلام لا معنى له هو صمت، وكل كلام لا ينطق بالحق ولا يقول الحقيقة هو صمت.
التغيير لا يتطلب معجزات، بل إرادة وعزما وعدم استسلام، فماجد وحده استطاع أن يشعل الشرارة، بعد محاولات عديدة، ونجح في مجتمع لا يقرأ ولا يكتب فيه إلا رجل عجوز من العهد السابق، قرأ رسائل ماجد، ونشرها وحرّض الشعب، فتم المراد، وعادت للناس ألسنتهم وإنسانيتهم وحياتهم.
صاحبي
قصة مؤلمة تصور مشاعر طفل مقعد على كرسي متحرك، يشتهي أن يلعب كرة قدم أو يسابق زملاءه عدوا، ويتصور أن المدرس لا بد أن يشركه في اللعب، وربما يدخره للجولة الفاصلة، وتتبخر كل أحلامه، ولا يجد إلا نظرات الشفقة والسخرية والحنان من المعلم، ويعود إلى البيت رفقة صاحبه؛ كرسيه المتحرك، تدفعه أمه العجوز، كما يحدث كل يوم.
الطفل يكره صاحبه (كرسيه المتحرك)؛ لأنه ملازم له على الدوام، وهو الذي يعلن لكل من رآهما، أنه عاجز لا يستطيع الحراك من دونه، كما أنه يستأثر بنظرات الناس أكثر منه. الكرسي المتحرك يحجب عنه الحياة كما يشتهي أن يعيشها، على الرغم من أنه لا يستطيع الحراك دونه، وهو كره ليس موجها للكرسي في الحقيقة، بل لحرمانه من الطفولة واللعب وأن يعيش كبقية الأطفال دون قيود، وكره لنظرات الشفقة، وكره لأنه مستبعد من كل نشاط، وكره للمسات الحنان من معلمه التي يخصه بها، وكان يشعر بأنها لمسات عزاء، وكره لنفسه لأنه يشغل أمه العجوز به في الرواح للمدرسة والغدو منها، وكره لمجتمع لا يوفر السبل له كي يشعر بأنه مثل الآخرين له مشاعر وحقوق وأحاسيس ورغبات.
تستصرخنا القصة أن نشعر بفئة المقعدين خاصة، والمعاقين بشكل عام، وأن نهتم بهم ونرعاهم، من خلال دمجهم مع أقرانهم، وأن نؤمن بأنهم كغيرهم لهم حقوق وعليهم واجبات، ولكنهم بحاجة إلى شيء من الخصوصية حسب حالتهم، وأن نكون معهم لا عليهم، فيكفيهم ما هم فيه من آلام ومشكلات ومنغصات، وإن لم يقم المجتمع بدوره، فإن هذه الفئات تتضاعف مشكلتها، وتسوء حالتها، وقد تلجأ للانسحاب والعزلة والاكتئاب.
البحث
قصة رمزية تحمل دلالات عميقة ومختلفة؛ فقد اختفت فتاة بكماء صماء، تلبس خفا أسمر، تتحلى بقرط أخضر كبير، وتحمل قربة ماء عذب. وهبَّ الجميع يبحث عنها، ولجأوا إلى العمدة، فذهب معهم إلى الشرطة، وخرجوا جميعا للبحث عنها ليلا على ضوء قناديلهم، وعلموا من طفلة أنها رأت فتاة بكماء صماء مثل أوصافها تسير على شريط القطار، ثم سمعت صرخة مدوية عندما مر القطار. وأخيرًا عثروا على بعض متعلقاتها، ورأوا آثار دم، وأخيرا وجدوا قلبها ينبض، تمسحت به إحداهن فأخذ يكبر ويكبر، ثم انفتح فيه باب، فدخلوا منه جميعا عدا المأمور وعساكره، فقد أوصدوا الباب دونهم، فأمر عساكره أن يقصفوا القلب بالمدفع.
سيجد كل قارئ في القصة دلالة رمزية مختلفة عن الآخر، فهي قد ترمز للحياة، أو الوطن، أو الحرية، أو الإنسانية، أو المحبة، أو.. وهذا الاختلاف يدل على عمق القصة، وتعدد مستويات القراءة لها، وقابليتها للتأويل حسب رؤية القارئ وثقافته، وما يعتمل في صدره من مشاعر وأحاسيس، وما يعانيه من آلام ومشكلات، وما يرجوه من حاجات ورغبات وأحلام.
كما أن القصة تشير بوضوح إلى أن من يبحث يجد، والجهد الجماعي أفضل من الجهد الفردي، وأن التحديد يسرّع الخطوات، وأن السلطة الغاشمة غير معنية بآمال الناس وتطلعاتهم وحاجاتهم، وإن شاركتهم فلتحقيق مصلحتها أولًا وأخيرا، وغالبا للاستئثار بالغنيمة دونهم.
هذا غيض من فيض قصص المجموعة، ذات الرمزية العالية، والدلالة العميقة، والاشتباك بقضايا الإنسان ومشكلاته ومعاناته، ولا تقتصر بالطبع على الإنسان المصري، بل يمكن تعميمها على كل عربي، أو إنسان يعيش على الهامش في أي مكان في العالم. إنها قصص إنسانية الطابع، تغوص عميقا، وتفيض سخرية ومرارة، وتنكأ الجراح، وتنز ألما ومعاناة.
كاتب أردني