الكاتبة الفرنسية كلود ناتالي توما: الترجمة فتح أبواب أمام الثقافات

2023-05-23

حوار وترجمة: عبد العزيز جدير

كلود ناتالي توما مترجمة فرنسية، أتقنت اللغة الروسية عن أمها، إضافة إلى الإنكليزية خلال سنوات دراستها، ثم درست الإسبانية وعمقت معرفتها بها، ولذلك وجدت توما نفسها تشتغل باللغة، بل باللغات، تتجول بين الأربع لغات كأنها تجوب شوارع طنجة أو باريس، كما تقول، حيث ترى اللغة جزءا من هويتها.

تقيم توما بين باريس وطنجة، وكان بيتها بين منتصف السبعينيات والثمانينيات خاصة، ملتقى الأدباء والفنانين المقيمين أو المترددين على طنجة من كل الممل والنحل.. تنيسي وليامز، جون هوبكنز، رودريغو راي روسا، دافيد هيربرت، مارغريت ماك باي، وجو ماك فليبس. التقيناها فكان هذا الحوار..

كيف تحددين معنى الترجمة من خلال ممارستك لها؟

أعتقد أنها محاولة خلق أو تشكيل تجربة قارئ، مارسناها في حضن لغة ليست هي لغتنا الأصلية، تشكيلها في حضن لغتنا الأم. بالنسبة إليّ، الترجمة هي هذا الصنيع. أن تحاول العثور أو الإمساك بوسائل تنتمي إلى اللغة الفرنسية مثلا، لتنقل إليها تجربة قارئ يقرأ كتاب بول بولز باللغة الإنكليزية. محاولة هذا ما أعتقد أننا يجب أن نسعى إلى البحث عنه؛ إعادة خلق هذه التجربة. الآن، لا يمكن أن نقوم بذلك إلا باعتماد مستوى معين من الدقة. أعتقد أن الهدف من الترجمة الأدبية هو أن نفتح الباب أمام ثقافة أخرى، أمام عناصر (من لغة، ثقافة الأصل) لتصبح جزءا من تلك الثقافة المنتمية إلى اللغة الهدف.

كيف أتيت إلى الترجمة؟

أتيت إليها من خلال كوني أعرف عدة لغات وتابعت دراستي في شعبتي الأدب الفرنسي والإنكليزي وتعلمت اللغة الروسية. وعندما عولت على العمل لكسب لقمة العيش، توجهت طبعا نحو مكاتب تعنى بالترجمة والصحافة. وتبين لي أن ترجمة النصوص الأدبية سيكون أمرا مطلوبا ومُهما، وهو ما قمت به حين سنحت الفرصة.

وما الفرصة التي سنحت؟

كانت تربطني علاقة صداقة بناشر رغب في إعادة ترجمة قصص قصيرة لتشيخوف إلى اللغة الفرنسية. كان فكر في الأمر على الشكل التالي: «هذه سيدة تعرف اللغة الروسية وهي قادرة على ترجمة تلك النصوص». كان ذلك لطفا من جانبه، طلب مني ترجمة حرفية لهذه القصص القصيرة، لأنه لاحظ أن القصص القصيرة المترجمة لتشيخوف إلى الفرنسية لم تنعم بترجمة جيدة، إذ كثيرا ما ينساق المترجم نحو بعض التأويل فيبتعد عن روح نص الكاتب. كان الناشر يرغب في تحسين تلك الترجمة، وهو الهدف من إعادة ترجمة نص تُرجم من قبل. لكنه لم يكن يعرف اللغة الروسية. وفكر أنه انطلاقا من ترجمتي يمكن أن يقدم ترجمة جيدة لقصص تشيخوف!

ما الصعوبات التي تطرحها الترجمة عامة؟

من دون ربطها بتجربة ترجمة نصوص كاتب معين، هناك أولا صعوبات مرتبطة بنقائص تخص المترجم.. كلمات لا نعرف معناها أو معان تفلت من قبضة فهمنا. في الواقع، إنها الصعوبات الأكثر قابلية للتحكم فيها إذ هناك دائما من هو أكثر فهما منا. الصعوبات الحقيقية هي تلك التي تخص سعينا أن ندخل في نظام لغوي عناصر ولدت في نظام لغوي آخر. وتتجدد الصعوبات مع كل نص جديد، ومع كل كاتب جديد. وفي ثنايا أعمال كل كاتب، مثل بولز، أعتقد أن الصعوبات تتغير وتختلف عن بعضها بعضا. كل نص من نصوص بولز، عمليا، يقدم صعوباته الخاصة، وكذلك رواياته فصعوباتها تختلف من رواية إلى أخرى.

هل ترين فائدة من وراء قراءة الكتابات النظرية في مجال الترجمة؟

أعتقد أنه صنيع جيد، حين نبلغ مرحلة معينة من التفكير في ما نقوم به. من المفيد، دائما، أن نعي ونتعرف على أفكار وتأملات الآخرين. في ما يخص الكتابات المغرقة في التنظير، فصعب الاقتراب منها أحيانا بالنسبة لمن لم ينعم بتكوين في مادة اللسانيات أو الفلسفة، ومن ثم يصعب الحكم على مدى أهميتها، لكن على الرغم من ذلك فقد قرأت جورج مونان. واقتنعت بأنه من المفيد جدا أن نتعرف على وجهة نظر مُنظري الترجمة. لكن، أسارع إلى القول، إن ذلك لا يمكن أن يعوض الممارسة. ولست أدري هل يمكن للكتابات النظرية في الترجمة أن تقوي أو تغني الممارسة الترجمية بالنسبة للمترجم. لكن يجب معرفة هذه الكتابات. في ما يخص الترجمة الأدبية، فأنا أواجه النص بالاعتماد على ثقافتي ومعرفتي في مجال المعجمين الفرنسي والإنكليزي، عندما أترجم من لغة إلى الأخرى، وأعتقد أني لست الوحيدة. ويجب أيضا، توظيف هذه الأشياء التوظيف الحسن. فمن المعلوم أن الثقافة وحدها لا تكفي. يجب أن تتوفر، بالإضافة إليها، معرفة معينة، أي القدرة على جعل هذه الثقافة محل تطبيق وتوظيفها أحسن توظيف، كذلك فالاطلاع على الثقافات مفيد جدا؛ ذلك أن كل لغة تعلمناها إذا لم نعرف طبيعة حياة البلد الذي يتحدث بها، وهي لغته الأصلية، ونتعمق في حضارته، سيكون من الصعب علينا تأويل النص تأويلا صحيحا، إدراك الكلمات الحضارية ودلالاتها، فالمعرفة بالحضارة (حضارة بلد نص اللغة المصدر) يمنحنا شعورا بأننا عشنا وسط ثقافة ذلك البلد الذي نترجم عن لغته مؤلفا معينا.. كل ذلك يذلل الكثير من الصعاب.

ما الدور الذي يلعبه المعجم في أدائك الترجمي؟

أعتقد أن المعجم هو الأساس الضروري في عملية الترجمة، كل المعاجم بمختلف أنواعها، لكن، في البداية، المعجم أحادي اللغة: للغة الأم للمترجم. فمن دون هذا المعجم لا يمكن أن نفلح في إنجاز ترجمة حقيقية، ثم يليه في المرتبة المعجم ثنائي اللغة، فهو مفيد من ناحية تسهيل العثور على أفكار. فالإنسان والمترجم لا يتوفر دائما على معجمه طوع بنانه. وإذا ما وقع لنا إشكال مع كلمة أجنبية لا نعرفها، نتجه لحظتها صوب المعجم أحادي اللغة للغة التي نترجم منها، وهذا صنيع يبرز أهمية المعاجم على اختلاف أنواعها ونحن ننجز ترجمة معينة.

هل يمكن القول إن المعاجم الثنائية اللغة تسهل عملك الترجمي؟

كما قلت لك أعتقد أن المعاجم ثنائية اللغة ليست ضرورية جدا كمعاجم تصلح لمستوى الترجمة الأدبية، ذلك نافع ومفيد للتعلم، لكن انطلاقا من اللحظة التي نتحكم فيها جيدا، نسبيا، من المعجم يصبح من الخطر أن نثق في معجم ثنائي اللغة. لقد حدث لي أن ارتكبت خطأ فادحا لأنني بحثت عن معنى كلمة في معجم ثنائي اللغة. وكان للكلمة معنيين. كتب المعنى الثاني على الصفحة الثانية من الورقة، ما جعلني أقترف خطأ فادحا تجاه النص المترجم وتجاه نصي.

يواجه كل مترجم صعوبات الأمانة والخيانة، كيف تنظرين إلى هذه المسألة انطلاقا من تجربتك الترجمية؟

في الحقيقة، أعتقد أن حل هذه المسألة مرتبط، في ما يخص النصوص الأدبية، على الرغم من أن كثيرا من الأعمال الأدبية لا تتوفر على مميزات أدبية تماما، أقول إن الحل مرتبط بالقدرات الخلاقة للمترجم. وأنها يجب أن تجد حلها بطريقة جمالية وفنية وشخصية. فالمترجم هو الحكم.

تطرح الترجمة، أيضا، قضية الترجمة الأدبية والترجمة الحرفية. ما رأيك في الأمر؟

هذا الصراع بين الترجمتين ترجمة المعنى والترجمة الحرفية له أنصاره وخصومه. أعتقد أن هذا الصراع صراع مدارس ترجمة، لكن، حين الممارسة في الواقع، كل المترجمين ينحون النحو ذاته في ما يخص هذه المسألة، ذلك أنه إذا دفعنا بهذه المسألة، مسألة الترجمة الأدبية، إلى أقصاها سنصل إلى نتائج سخيفة جدا. في الإنجليزية هناك طريقة أو جملة مؤداها أن المطر يهطل بقوة وهي («It rains cats and dogs») فإذا ترجمت العبارة على هذا الشكل («Il pleut des chiens et des chats»)، «تمطر قططا وكلابا» فلا معنى لها. لو ترجمناها مثلا بأن هناك كلابا كثيرة تتوافد على المدينة لكان لها معنى. في اللغة الفرنسية يمكن للعبارة أن تترجم على النحو التالي: («Il pleut très fort, il pleut à verse, à flots…»)»يهطل المطر بغزارة…» هناك عبارات مختلفة باللغة الفرنسية لترجمة هذا المعنى، هذا الإحساس الذي يحيل على هطول المطر بقوة. أعتقد أن هذا هو المعنى الذي يجب أن نحتفظ به، من خلال هذه العبارة الدالة على قوة المطر وحبات المطر الضخمة. يجب، في اعتقادي، أن نقدم المعنى على الكلمات. وليس الكلمات على المعنى. إنني أفضل تغليب ترجمة المعنى بدل تغليب الترجمة الحرفية. أعتقد جازمة أن الكلمات فخاخ وأنه لو وجدت كلمة، في اللغة الفرنسية، تعني ما تعنيه أخرى في اللغة الإنكليزية فلن نكون في حاجة إلى لغتين. فلا وجود للتكافؤ بين اللغات.

لو انتقلنا إلى ترجمة نصوص بول بولز. ما هي الصعوبات المرتبطة بتلك الترجمة؟

أعتقد أن الصعوبة الأولى مرتبطة بطريقته في الكتابة، وتكمن في أن بولز كاتب شديد الحساسية، وشديد التعلق بتقديم وجهة نظر شخصياته. وكل ما يحكيه يمر دائما عبر عيني أي رؤيا شخصية أخرى. شخص آخر أو عدة شخصيات. في الكتاب ذاته، يمكن لوجهة النظر أن تتغير. وتتغير على العموم في مكان آخر، إذن يجب المحافظة على وجهة النظر وتوظيف الصورة واعتماد مفردات مركبة، منسجمة مع الشخصية التي تقدم وجهة نظرها. وها هنا يطرح مشكل؛ ذلك أنه يجب أن يوافق كل ذلك المعنى ثم يجب ألا يصدم القارئ أيضا، ولا يخل المترجم بالمعنى أو يشوش على وجهة النظر التي تبناها المؤلف. أعتقد أن هذه واحدة من أهم الصعوبات. الصعوبة الثانية مرتبطة بدقة تفكير بول بولز، التي تجعلنا ننتبه أكثر، نفكر أكثر في ما نحن بصدد ترجمته، ألا ننقاد أبدا وراء ترجمة آلية قد تقود نحو إخفاء دقة كتابة الكاتب. هناك أيضا صعوبات ذات طبيعة تقنية: لبول بولز طريقة خاصة في تدبير مشاكل علامات الوقف (الترقيم) خاصة العلامات التي تمهد للحوار، والتي ليست هي ذاتها في نصوصه المختلفة، لقد بحث عن تبسيط علامات الوقف ويبدو أن الحلول التي توصل إليها لم ترضه كثيرا بشكل دائم، لدرجة أن ذلك يجعلنا نفكر باستمرار في هذا المشكل.

وعبر أي وجهة نظر يقوم بذلك؟

مثلا، إذا عدت إلى القصص القصيرة الخاصة في مرحلة مجموعته «احتفال رأس السنة في طنجة»، لا يعين الحوارات ويعلن عليها، بل يشير إليها فقط عبر بداية الفقرة. إذن في الفرنسية، تعتبر هذه الطريقة مخالفة لطريقتنا في تقديم الحوار، يضاف إلى ذلك إدراج حوار في قلب فقرة مع اعتماد إشارات المزدوجتين، لأن ذلك مباح في اللغة الإنكليزية، لكن لا يمكنك أن تنقل تلك الخصيصة إلى الترجمة الفرنسية من دون إشارات تحيل على الحوار؛ لأن ذلك يطرح مشكلا، لكنني وجدت حلا لكل ذلك عبر تطبيق طريقة الفقرة، بطريقة منهجية لأنها طريقة معتمدة من لدن ناشري تلك المجموعة القصصية، لكن بالنسبة لرواية «بيت العنكبوت» تعتبر هذه الطريقة غير مواتية، ووجب البحث عن حل آخر، فكرت فيه طويلا واهتديت إليه عبر الحديث مع بولز؛ وهو مترجم ماهر ترجم نصوصا عدة من الفرنسية، والإسبانية، والعربية المغربية إلى الإنكليزية. وهذه نقطة إيجابية أخرى حين تظفر بفرصة ثمينة تمنحك الشعور أنك محظوظ لأنك تعرفت إلى الكاتب وتلتقي به. ذلك أن بولز يعي جيدا صعوبات الترجمة ورأيه فيها مهم جدا، على الرغم من أنه يزعم أنه لا يتقن جيدا اللغة الفرنسية، فهو يمكن أن يقدم أو يقترح حلولا أنيقة جدا، أحيانا، أكثر من التي نكون قد عثرنا عليها نحن.

قال بولز ذات مرة إنه تأثر بعض الشيء، خلال المرحلة الأخيرة (من عمره ونصوصه) بالراوية محمد المرابط. أنت جمعت بين الامتيازين: ترجمة نصوص بولز ونصوص المرابط ما الاختلافات بين الأسلوبين.

نعم، بالضبط. أعتقد أن المرابط يقدم الأشياء كما يراها هو، وأن بنية نصه خطية، ونصه مباشر، شديد الحبكة، يحافظ على اهتمام القارئ ويشده إليه. ولكنه لا يتوفر على تنضيد فكرة الكاتب، وتنضيد فكر الشخصيات التي نعثر عليهما في كتابات بولز. كمترجمة، فقد أيقنت من أنه ليس من السهل ترجمة نصوص بولز، بعد ترجمة نصوص المرابط. كنت أعتقد، بسذاجة واضحة، أن أسلوب المرابط هو أسلوب بولز، هناك جانب من الصحة في هذا الاعتقاد لأن بولز هو من ترجم نصوص المرابط إلى الإنكليزية.. لكن عندما نلج عالم نصوص بولز نجد أنفسنا إزاء تعقيد يجعل العمل/النص أكثر صعوبة.

هل يمكن القول، مثلما قال بذلك آخرون بصدد سرود المرابط التي ترجمها بولز، إن الأفكار تعود للمرابط ولكن الأسلوب هو لبولز؟

لم يسبق لي سماع تسجيلات المرابط لفائدة بولز، لكنني سمعت المرابط ينشئ سرودا، نصوصا قصيرة. وأعتقد أن طريقة حديث المرابط تقوم على بساطة لافتة للنظر، استطاع بولز الإمساك بها وتسجيلها، وهي تناسب طريقته هو في الكتابة. ليس من عادة بولز أن يضيف شيئا، أو كلمات كثيرة، حين يتطلب المقام كلمة واحدة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي