كتاب «دائرة الوعي المغلقة»: فاعلية الوعي وتحدياته

2023-05-20

علي لفتة سعيد

يضع مؤلف كتاب «دائرة الوعي المغلقة- مقدمة فيانثروبولوجيا الوعي» الباحث والإعلامي سعدون محسن ضمد منذ البدء أسئلة فلسفية مثلما هي إجرائية من أجل تحفيز المتلقّي لما يروم الكشف عنه.. فهو يريد فتح الدوائر المغلقة ويفكّك محتوياتها ولذا يكون السؤال هو محرّك الأدوات الفاعلة لما يأتي، مثلما هي القادرة على استحصال الإجابة التي يعتقد أنها الأساس في إيجاد العلاقة ما بين العقل والوعي، وما بين الوعي وآليات الاشتغال، وما بين البيئة والاحتمالات.

ففي كتابه الجديد الصادر عن دار نابو يطرح ضمد سؤالا مفاده: ما هو الوعي؟ وهو يضع قبلها سؤالا افتراضيا أيضا.. ماذا لو سألوك؟ وبهذا فإن أولى العلامات هي تحفيز فلسفي ما دامت الفلسفة ذاتها بدأت وهي تحمل سؤالها الأزلي وحتى يجيب على السؤال فإنه يرى الوعي باعتباره الآليَّة أو الأداة أو الجهاز، الذي أخرج البشر من بيئتهم الحيوانيَّة إلى البيئة الإنسانيَّة التي يرى أنها جاءت صناعة وفقا لحاجاتهم. وبهذا فإن الوعي ما دام هو المحرّك الأول إذن كلّ ما هو أوّل جاء عبر الوعي، فدونه لا توجد آلية لصناعة ما هو مقبل باعتبار الوعي هو الذي خلق اللّغة وابتكر الثقافة وكتب التاريخ، وهو الذي طوّع النار وروّض جموح الطبيعة وحوّل فضاءها العدائي الموحش إلى سكنٍ هادئ ومبالغ في ترفه.

يركز ضمد في الكتاب على فاعلية الوعي ويخرجه من دائرته المغلقة في الفهم العام الى دائرته المفتوحة لأنه لم يأخذ بالحسبان من قبل الآخرين، فهو يرى الوعي باعتباره الجهاز الذي فرك المصابيح الثلاثة وأخرج من كلّ مصباح ماردا جبّارا. مارد الدين ومارد السياسة ومارد الاقتصاد. الوعي هو الجهاز الذي يوشك أنْ يستعمر الكواكب، ويشرع باحتلال الكون الفسيح والانتشار فيه. وقد نرى صورة أهمية الوعي مما فكّكه في التفاصيل والمعاني.. فدون الوعي لا يمكن فهم الحالة التي أمامنا كبشر، ولا يمكن القبول بالتحوّل من الحالة الحيوانية إلى الحالة الإنسانية دون وعي، وهو يربطه بالعقل الناضج. فالعقل دون وعي محترم لا يشعر بماهيات الأشياء. ورغم ذلك فهو يعتقد أن الوعي لا يحدّد بأطرٍ تعريفٍية او تعليلية ما دام قد ربطه بما هو موجود، وبما هو مقبل، بمعنى لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن يفعله في المقبل من الحياة الإنسانية، ولأن التعريف صعب ويعتقده خطيرا وعصيا على الفهم، فإنه يمكن أن يكون في حالتين متضاربتين، حالة جمالية مثلما هو حالة عدائية، ويرى أن الإنثروبولوجيا دفعته ليكون بعيدا عنها بمشاكله. ويعلّل ذلك بأن الوعي هو البيئة التي تبلورت فيها الإنسانية، وهو أيضا مرتكزها الأساس ومحيطها العام. ولذا يطالب بعدم الابتعاد عنه، بل إن الابتعاد عنه سبب غير مبرّر من قبل الدراسات، باعتبار أن الثقافة والوعي هما وجهان لعملةٍ واحدة، بل يؤكد أن الثقافة هي وعي البشر بذواتهم وإعادة تموضعها في مركز الوجود وتحويلها إلى محور يدور حوله.

إن القفزات المعرفية التي يراها الباحث كبيرة في الوعي، لكنها تواجه تحديات صعبة جدا.. ويذكر الأسباب من أنها ناشئة من عدم قدرته على الاستمرار في اتجاهين متعاكسين الأول الاتجاه الصاعد إلى أعماق الكون السحيق، والاتّجاه النازل إلى المستويات ما دون الذرّية من الطبيعة. ما يعني حسب رأيه يوشك أنْ يستنفد قدراته، إذا لم يكن قد استنفدها فعلا.

وكل هذا يأتي لأن الوعي البشري محكوم داخل نطاق مغلق على نفسه من القُدْرات التي لا يستطيع إدراك ما يقع خارج مساحة عملها. وكلّ منها يُشكّل حدّا لا يتعداه الوعي ولا تطاله المعرفة. وكذلك لأن الإنسان يعتقد أن مواضيع ما وراء الطبيعة هي التحدي الوحيد الذي يُعجز قدرات وعينا عن إنتاج المعرفة.

إن ما يلفت الانتباه هو التركيز على ما بحثته الفيزياء النظرية، وما تواجهه من تحديات يقول إنها توشك أن تجعل المعرفة التي تنتجها الفيزياء أقرب إلى المعرفة الدينية منها إلى المعرفة العلمية. وهو بهذا، أي الباحث يحاول في كتابه أن يُثبت أن صعوبة إنتاج صورة ذهنيّة عن الجُسيم، لا تقل كثيرا عن صعوبة إنتاج صورة ذهنيَّة عن الإله، وعليه فإن المعرفة المبنية على أي من هاتين الصورتين يجب وضعها في دائرة الثقة نفسها.

الكتاب يناقش وقوع الوعي البشري في مأزق كبير كونه يضطر إلى التخلّي عن الكثير من المسلّمات التي صاغها في وقت سابق، وإنّ هذا التخلّي من وجهة نظره لا يمليه الواقع الموضوعي، بل يمليه ارتباك الوعي البشري بسبب سعيه إلى بناء معرفة حول مواضيع لا يستطيع أنْ يبني عليها أيَّ معرفة، لتخطّيها حدود المساحة التي يستطيع أنْ يغطيها من الإدراك، أو لتخطّيها جميع التجارب الممكنة. هو من هذه الجهة يواجه مأزق عدم الثقة نفسَه الذي واجهه عندما حاول إدراك ما وراء الطبيعة.

هذا المأزق حاول بحثه ليس من زاوية نظر فيزيائيّة، بل أنثروبولوجية، بل كما يرى من وجهة نظره أيضا أن المأزق الذي وقعت فيه المعرفة الدينية هو نفسه الذي تقع فيه بعض أبحاث العلوم الصرفة. وهو ينشأ من عدم فحصنا لقدرات عقلنا على خوض ما نستعمله لخوضه، وكذلك من عدم فحصنا لأدوات الوعي وآلياته في الإدراك. ولهذا فإن الباحث حاول فتح أبواب ما ابتعدت عنه الأنثروبولوجيا، والبحث في الأساس الذي تأسست عليه ثقافة الإنسان، وإلى البحث في الغاية التي سعت إلى بلوغها عمليَّة تطور الإنسان. كما يذكر. ولهذا فإن الباحث يسعى، كما جاء في المقدمة الى إعادة تحديد مساحة الثقة بمخرجات الوعي البشري، عن طريق إعادة فحص قدراتها وترسيم حدودها، وسنختبر هذه الحدود وتلك القدرات عبر فحص صورة الإله التي رسمها الوعي، ويدرس الباحث هذه الفرضية داخل الديانتين «المندائيَّة والبهائيَّة» عبر دراسة نماذج من نصوصهما المقدَّسة. فهذه الصورة لا يتم بناؤها من قبل الأفراد، وإن كانت موجودة في عقولهم، بل يكتسبونها عن طريق التلقين والتربية، فهي موجودة في النصوص المقدسة التي تتم رعايتها من قبل المؤسسة الدينية، حيث لا يُسمح لأحد، لا بتغييرها ولا بالتلاعب في دلالاتها. وهكذا تحفظ الصورة عبر الزمن، أما ملامح هذه الصورة فقد تمّ وضعها من الآباء المؤسسين، سواء أكانوا أنبياء أم ممن تولى تفسير إرث الأنبياء، ووضع أسس الدين وأمور الديانة من بعدهم.

الكتاب ينقسم إلى سبعة فصول، تناول الفصل الأول مناقشة الإشكاليات وتحديد المفاهيم الأساسيَّة. وبحث الفصل الثاني في تأسيس أنثروبولوجيا الوعي، فيما ناقش الفصل الثالث «فرضيَّة دائرة الوعي المغلقة» أما الفصل الرابع فقد تناول نشوء الأديان وسياق تطورها، تمهيداً لطرح الفرضية الثانية في هذا الكتاب، فيما كان الفصل الخامس قد ناقش فرضية نشوء الأديان، والفصل السادس ناقش تطبيق الفرضيتين على الأديان، في حين خصص الفصل السابع لتطبيق فرضية دائرة الوعي المغلقة على فيزياء الكوانتم.

كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي