تحوُّلات المجتمع الفلسطيني: ما قبل 1948 وما بعدها

2023-05-16

أحمد مأمون

كتب عشرات الباحثين والمؤرّخين عن التحوُّلات الكبرى التي عصفت بالمجتمع الفلسطيني قبل نكبة عام 1948، كالتحوّلات الطبقية، وانقلاب المدينة والريف، والمجتمع الفلاحي، والتغيّرات الديموغرافية الكبرى (الهجرة الداخلية والخارجية)، وأدوات وآليات السيطرة والتحكّم التي فرضتها منظومة الاستعمار الاستيطاني على أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل المحتل عام 1948 وفي بقية فلسطين المحتلة عام 1967، ولكن بقيت تلك الأبحاث المهمّة مشتَّتةً ومبعثَرة من حيث أماكن النشر.

كانت المكتبة الفلسطينية تبحث عن كتاب موسوعي يجمع شمل تلك المواد لتكون مدخلًا معرفيًا للقرّاء وطلّاب الجامعات لدراسة القضايا الكلّية عن المجتمع الفلسطيني، فكان أن أخذ كلٌّ من الباحثين في علم الاجتماع مجدي المالكي وحسن لدادوة هذه المهمّة على عاتقهما وأنتجا كتابهما "تحوّلات المجتمع الفلسطيني منذ سنة 1948: جدلية الفقدان وتحدّيات البقاء" (مؤسّسة الدراسات الفلسطينية، 2018)، الذي جمعا فيه حكاية المجتمع الفلسطيني منذ نهاية الحقبة العثمانية إلى يومنا بأسلوب شيّق ومُتحرّر من سطوة التعقيد اللغوي الذي يفرضه بعض الأكاديميّين في كتاباتهم، مع تحليل واسع جدًّا للمجتمع الفلسطيني على المستوى الكلّي؛ الذي يتجلّى بالفضاء الاجتماعي والسياق السياسي العام، والمستوى الجزئي؛ أي تحليل البنى الاجتماعية الصغرى، كأنساق القرابة، والنُّخب، والطبقات الاجتماعية، والتحوّلات الديموغرافية، والأنساق الثقافية القيمية والأخلاقية، والتي تُحدَّد عبر تأثير سلوكيات الفاعلين ومبادراتهم الفردية والجماعية.

يُقدّم المؤلّفان، في الفصل الأوّل من الكتاب، إطلالةً تاريخية واسعة على المجتمع الفلسطيني منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى عام 1948، تفصّل وتحلّل التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على الشعب الفلسطينيّ في أواخر الحكم العثماني وزمن الاستعمار البريطاني الذي هيمن على البلاد عام 1917، مركّزًا على التحوّلات التي أعادت تشكيل ملامح المجتمع الفلسطيني وسماته الريفية والحضرية وبنيته الطبقية نتيجة الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 – 1939)، و"الجهود" البريطانية لتفكيك المؤسّسات الفلسطينية الناشئة لصالح بناء مؤسّسات صهيونية تكون البنية الأساسية لإقامة الدولة العبرية بعد انسحابها من فلسطين.

أمّا في الفصل الثاني، فيرصد الباحثان التحوّلات الكبرى على التجمّعات الفلسطينية التي نشأت بعد عملية التطهير العرقي عام 1948 في دول الطوق (سورية والأردن ولبنان)، والبلدان المجاورة، وفي مجتمع الضفّة الغربية تحت حكم السلطات الأردنية، وفي قطاع غزّة تحت حكم الإدارة المصرية، والأخير في الأراضي القابعة مباشرة تحت الحكم الصهيوني.

شكّل هذا الواقع الجديد، وفق المؤلّفَين، عمليتين متداخلتين: الأُولى هي نشوء خصوصية لكلّ مجتمع تُمايزه عن الآخر ديموغرافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وصولًا لأشكال التعبير السياسي. أمّا الثانية فتمثلت في إعادة إنتاج ما هو مشترك (الهوية الفلسطينية الجامعة، وصولًا إلى إعادة إنتاج الكيانية الفلسطينية)، مدفوعةً بمختلف أنواع محاولات طمس الهوية السياسية، مترافقةً مع اشتداد القمع السياسي، والتهميش الاقتصادي، والعزلة الاجتماعية.

ويذكر الباحثان بعض أبرز هذه التحوّلات بين عامَي 1948 و1967، ومنها:

أوّلاً، ساد الطابع الريفي الزراعي اقتصادَ كلّ من الضفّة الغربية وقطاع غزّة، وعانت المنطقتان ارتفاعًا في نسبة البطالة الظاهرة والمقنَّعة، واتّسم اقتصادُهما بهيمنة قطاع الخدمات، وتهميش الصناعة. ويعود ذلك إلى السياسة التي اتُبّعت في المنطقتَين من السلطة الحاكمة (الأردنية والمصرية)، وإحجامها عن الاستثمار الفعّال في تنمية القطاعات الاقتصادية المنتِجة فيهما.

ثانياً، أدّى تدفُّق اللاجئين إلى كلّ من الضفّة الغربية وقطاع غزّة إلى زيادة الضغوط على مواردهما، وإلى خلخلة التجانُس الاجتماعي المحلّي اقتصاديًا ومهنيًا وثقافيًا.

ثالثاً، حاولت العائلات وسكّان القرى وبعض البلدات إعادة تجميع نفسها داخل المخيّمات، وهو ما جعل هذه المخيّمات استمرارًا للقرى الفلسطينية.

أمّا في الداخل المحتل عام 1948، فمارست "إسرائيل" سياسات محو وإبادة تجاه "الأقلية" الفلسطينية، عبر فرض الحكم العسكريّ حتى عام 1966، أي إعلان حالة الاستثناء التي تُباح وتُقونَن فيها، على يد "صاحب السيادة"، كلُّ الممارسات الاستعماريّة.

يدرس المالكي ولدادوة، في الفصلين الثالث والرابع، التحوّلات بين النكسة واتفاق أوسلو وما بعدها، فبعد الاستفاقة من هول صدمة حرب النكبة والتهجير، ثم هزيمة الجيوش العربية في غضون ساعات أمام "إسرائيل" في حرب يونيو/ حزيران 1967 وشعور الفلسطينيين بالخيبة على من علّقوا عليهم الآمال بالعودة، قرّر الفلسطينيون العمل بأنفسهم لاستعادة أرضهم ومحاربة استعمارهم الاستيطاني بتأسيس روابط سياسية متعدّدة، استكمالًا للمجموعات السياسية السرّية الصغيرة التي ظهرت في خمسينيات القرن الماضي وعملياتها العسكرية الأُولى؛ حيث كانت اللبنة لتأسيس التنظيمات الفلسطينية، التي قادت النضال الوطني لاحقًا، ويُعتبر تأسيس "منظّمة التحرير الفلسطينية" سنة 1964 تجسيدًا وإنعاشًا للوطنية الفلسطينية، وقد اكتسبت هذه العملية زخمًا هائلًا بعد سنة 1967 مع تصاعد العمل الفدائي.

وما بين هاتين المرحلتين، خاض الفلسطينيون، متمثّلين في "منظّمة التحرير"، تجربتهم العسكرية والسياسية، التي أودت بهم إلى عقد اتفاقيات أوسلو مع "إسرائيل"، وعلى أثرها نشأت "السلطة الوطنية الفلسطينية"، والتي كان من أبرز نتائجها السياسية الداخلية أن هُمّشت "منظّمة التحرير الفلسطينية" وترهّلت مؤسّساتها الجماهيرية. وكانت مهمّة السلطة الأساسية هي بناء مؤسّسات شبه دولانية ومدنية وأمنية لإدارة شؤون الفلسطينيين في الضفّة والقطاع، والحفاظ على الأمن في مقابل انسحاب إسرائيلي بالتدريج من هذه الأراضي.

وبحسب المالكي ولدادوة، كان من أهمّ ملامح النظام السياسي الفلسطيني الجديد ولادة مؤسّسات دولانية ضعيفة، وعلاقة مشوّهة بين السلطات الثلاث، واستقطاب سياسي حزبي (فتح وحماس)، واضمحلال أحزاب اليسار، ونظام سياسي زبائني محدث، واعتماد عال على التمويل الخارجي، ومجتمع مدني مشتّت وضعيف التأثير، والتحوّل في سمات النخبة السياسية الجديدة الحاكمة وتآكل شرعيتها الثورية والانتخابية.

رافقت التحوّلاتِ السياسية مجموعةُ تحوّلات اجتماعية واقتصادية مشوّهة، منها فرضُ المستعمر عملية دمج وإلحاق لاقتصاد الضفّة الغربية وقطاع غزّة بعد سنة 1967 باقتصاده، ثم تعزيز وترسيخ تبعية كلا المنطقتين له، إذ التحقت نسبة عالية من القوّة العاملة بسوق العمل الإسرائيلي، وأُغرقت أسواق المدن والبلدات الفلسطينية بالسلع والمنتوجات الإسرائيلية، ورافق هذا الدمجَ القسري قمعٌ سياسي شديد ومراقبة عسكرية واستخباراتية ممنهجة وصارمة فُرضت على كافة مناحي الحياة.

وشهدت القرية الفلسطينية، بحسب تحليل الباحثَين، "عمليةَ تمدين متسارعة صبغت جميع مناحي الحياة الريفية في القرى الفلسطينية، بينما شهدت المدن عملية ترييف متزايدة بعد انحسار نموّها الاقتصادي الإنتاجي وتحوّلها إلى مراكز خدماتية وتجارية محدودة التأثير". وكان للاستعمار الإسرائيلي وسياساته وقعٌ متباين على الشرائح الاجتماعية المتنوّعة، فتعزّزت قوّة بعض الشرائح الاجتماعية، بينما ضعفت أُخرى، كشريحة كبار ملّاك الأراضي وبصورة خاصّة في قطاع غزة، كما برزت شرائح اجتماعية جديدة ولّدتها الصلات السياسية والاقتصادية بـ"إسرائيل"، ككبار التجّار والوكلاء التجاريّين والمقاولين الذين يزوّدون الأخيرة باليد العاملة، وتوسّعت قاعدة الطبقة العاملة المستخدَمة في الأسواق الإسرائيلية، والمكوَّنة من الفلّاحين واللاجئين.

ويرى المؤلّفان أنّ دخول سلطة أوسلو وفّر البيئة السياسية الملائمة لإعادة صوغ علاقة السيطرة الاستعمارية التي فرضتها "إسرائيل" على الضفّة الغربية وقطاع غزّة بما يواكب تغيُّر استراتيجيات السيطرة الإسرائيلية من المباشرة إلى السيطرة بالوكالة، حيث تعمّقت تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي بعد اتفاق أوسلو، وترسّخ خلُله البنيوي وطابعُه الريعي وتضخَّم قطاعُه العام، وازداد اعتماده على التحويلات الخارجية مع عجزه عن توليد فرص عمل، بينما تزداد نسب البطالة والفقر.

يقدّم الباحثان جمال ضاهر وعبد الكريم البرغوثي، في الفصل الخامس، إسهامًا مهمًّا حول الأدب والفنّ الشعبي ومفهوم الثقافة وتحوّلاته في سياق التحوّلات الاجتماعية والسياسية الكبرى في فلسطين، حيث يقرآن الإنتاج الثقافي الفلسطيني باعتباره جزءًا من التراث الثقافي لبلاد الشام، مع الأخذ بالحسبان أنّ وعيًا فلسطينيًا مغايرًا بهذا التراث نشأ مع النكبة، حيث بدأ الفلسطيني يرى في قضيته مأساة لها أثر عميق على سلوكه وإنتاجه الثقافي. فوفقًا لهما، أصبح الإنتاج الأدبي والفنّي يتضمن شعورًا بالتعب والسخط على البلدان العربية، وآخر يتضمّن شعورًا مقاومًا، والثالث يتضمّن شعورًا بالعجز وبأنّ النكبة حلّت بهم من السماء.

ويجد الباحثان أنّه بعد احتلال عام 1967 "التقى الفلسطيني والفلسطيني، واستعاد الناس ذاكرتهم الجمعية، وأصبح ما يحدث للفلسطينيين أينما وُجدوا جزءًا من همومهم الوطنية، صارت مواجهاتهم مع السلطات الإسرائيلية من أجل ذاتهم ومن أجل فلسطينيتهم، وكتب الشعراء والروائيون في حدود الأراضي المحتلّة سنة 1948 عن السجون تمامًا كما كتبوا عن يوم الأرض، وهكذا أخرج السينمائيون هناك أفلامًا عن المقاومة المسلّحة وعن الشهداء وعن معاناة الناس عند الحواجز، تمامًا كما أخرجوا أفلامًا عن التمييز العنصري الذي تمارسه ضدّهم السلطات الإسرائيلية".

ولكنهما يشيران إلى مسألة تفصيلية مثيرة، وهي أنّ منطقتي الجليل والمثلّث شهدتا في الفترة بين 1965 و1985 بوادر ولادة فريدة لفنّ فلسطيني أصيل ذي طابع مستقلّ، واتّسمت الأعمال الفنّية فيهما بعلاقة وثيقة مع الأرض، وكانت علاماتها الأُولى قد تبلورت في نبرة الشعر الفلسطيني المعاصر.

ويلفت ضاهر والبرغوثي إلى حدوث انقسام عمودي سياسي وهويّاتي بين الفلسطينيّين "تبدّى في تشظّي الهوية الثقافية الجامعة والمشروع الوطني برمّته، وتداخُل الفرز الطبقي بين الفلسطينيين، والصراع بشأن التمثيل السياسي والثقافي، ووقع انقسام في الهوية الوطنية يعبّر، بطريقة زائفة أحيانًا، عن الانقسام الطبقي والسياسي، كما ظهر في تنامي دور حركات الإسلام السياسي المزاحمة لليسار على تمثيل الطبقات الفقيرة، المقصاة عن بناء أجهزة الدولة. فتمّ العمل على أسلمة الهوية فلبست برموزها السابقة (الهوية الفدائية والكفاح المسلح والأهازيج الوطنية)، لبوسًا إسلاميًا. وظهرت، في مقابل الأسلمة، تعبيرات ثقافية متأثّرة بفكرة الدولة المستقلّة من ناحية وبأساليب تعبير ثقافية متعولمة من ناحية أُخرى، تعكس سعيًا نحو عادية الحياة، تمثّلت بالمؤسّسات الثقافية الرسمية وغير الرسمية".

باحث من فلسطين







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي