السفر كما عايشه جلال برجس في «نشيجُ الدُّودُوكْ»

2023-05-15

موسى إبراهيم أبو رياش

«نشيجُ الدُّودُوكْ» سيرة روائية، للروائي الأردني جلال برجس، تتوافر فيها المتعة والتشويق والجرأة، وتعد بأجزاء أخرى في المستقبل. وتمتد السيرة من لحظة ولادته التي يتخيلها عام 1970 إلى 2022. وفضاؤها المكاني يتراوح بين حنينا في مأدبا، ومدينة مأدبا، وعمّان، والكلية والمطارات العسكرية، وإسطنبول، والجزائر، وتيبازة، ولندن، وويلز، وكينغتون، وبانكوك، وبريفان. وتحتل حنينا مركز الدائرة، يسافر ويعود إليها؛ فهي مسقط الرأس ومأوى الأهل والأحبة.

في كتابه، مزج برجس السيرة بالمدينة والكتاب، من خلال ثلاث رحلات وثلاثة كتب، في نسيج روائي جميل، يستحوذ على اهتمام القارئ؛ تأكيدا لضرورة الكتاب للإنسان؛ ليتعلم ويتثقف ويوسع أفق تفكيره، وأهمية السفر والترحال لقراءة الكون والناس والحياة، والاشتباك مع الآخر والتعرف إليه وثقافته عن قرب، واكتساب خبرات ومعارف نوعية، وكأن سيرة حياة الفرد لن تكتمل إلا بالكتب والسفر، وإلا ستبقى حياة ناقصة، أشبه بالحياة، لكنها ليست حياة. وقد قال الإمام الشافعي في السفر:

تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلا //  وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ

تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ//  وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ

ويقول جلال برجس: «لا حدث مقنع بأن لهذه الأرض أكثر من أربع جهات، إلا السفر». وسيرة بلا سفر، سيرة فقيرة، نمطية، وتتناول هذه المقالة السفر وطقوسه وما يرتبط به من مشاعر وأحاسيس، كما يراه وعايشه جلال برجس في «نشيجُ الدُّودُوكْ».

حب السفر

يحب معظم الناس السفر والترحال، والتعرف إلى بلدان وشعوب وثقافات أخرى، لكن تقعد بهم ظروفهم ومشاغلهم؛ فتحجب عنهم تجربة وخبرة لا تعوض، وتحرمهم من فرصة لتخصيب حياتهم. وقد تولد حب السفر لدى برجس في سن مبكرة، عندما رأى عمه يعود من رومانيا ثم يغادر، وزاد من ذلك حين عثر على حقيبة لعمه «فيها كل رسائله الورقية، وقد كُتبت بأسلوب أدبي يعلوه الحنين، وامتداح البلدان البعيدة». ودخل المطار لأول مرة وعمره أحد عشر عاما، ولم ير ما كان يتوقعه من حزن في صالة المغادرين وبهجة في صالة القادمين، بل بهجات واضحة رغم البكاء، ويعترف أنه كان لا يأبه بذلك «كنت منفصلا عن أحاسيسهم القروية الساذجة وهي ترى في السفر احتمالات غياب أبدي، ومتصلا بفكرة الهروب ليس فقط من القحط والغبار والألم نحو بلدان خضراء، بل من احتمال عودة ضجيجي الجواني».

يرى برجس في السفر خلاصا وانعتاقا من ظروف حياتية قاسية، ورغبة في ارتياد أماكن تعيد إلى روحه اخضرار الحياة، بالإضافة إلى بحثه الدائم عن سبب ضجيجه الجواني الذي بات أسيرا له منذ السابعة من عمره، ضجيج مصحوب بصوت آلة موسيقية مجهولة، سيعرف لاحقا أنها «الدُّودُوكْ»! ومنذ ودع جلال عمه، وهو في توق إلى السفر، يحلم بالتحليق بطائرة، يسافر إلى أقاصي الأرض، وهو ابن القرية، التي ربما لم يخرج منها إلا مرات معدودة، يقول: «هل كان إحساسا مبكرا بالعطش؟ وأي ماء ذلك الذي ما زلت أعطشه منذ تلك السنة؟ أم أنه ولع مبكر بالقراءة والكتابة والسفر؟ في ذلك العمر كلما رأيت طائرة تحلق في السماء تنتابني قشعريرة ورغبة جامحة باجتياز المسافات نحو أماكن بعيدة». ولما تحقق حلمه أخيرا: «في أول مرة حلقت الطائرة بي مسافرا، شعرت بغصن ينمو في كتفي، وسمعت الماء يخبرني بأسراره الدفينة».

قبل السفر

ربما تكون الحقائب أول ما يحرص عليه المسافر، وقد تكون له أو يستعيرها، ولذا فالحقائب تسافر أكثر من أصحابها، لكن لا أحد يأبه بها. لكن برجس يؤنسنها: «أمرُّ بحقيبة السفر، كائن صامت على طاولة في ممر بيتي، ساهمة بشيء ما. أتأملها، وأتساءل بحيرة شاعر قبالة أغنية تؤديها شجرة وحيدة في العراء؛ عما تحفظه الحقائب من دروس المسافات، وعما يمكن أن نستنبطه من صمت الأحذية أمام سياط الجغرافيا». السفر تحليق، وابتعاد عن مألوف ممل، وتبعات ومسؤوليات، وتوق إلى الجمال والأنس وراحة البال وصفاء الذهن، والتخفف من الأعباء، فلا مطرح للكآبة والمنغصات، يقول جلال: «ما إن أضع قدميَّ على أرض المطار حتى أشعر بكائنات الكآبة تهبط عن كتفيَّ ممنوعة من السفر. تجتاحني خفة لا أعهدها إلا حين تتجه البوصلة إلى بلاد جديدة.

يتأمل برجس الطائرة كمكان، ويتأمل المسافرين محاولا استكناه دواخلهم: «أتأمل الطائرة: حيّز متنقل في ذاكرة جوالة. كيف يمكن للأمكنة أن تسافر بهذا الوعي السريالي؟ أتأمل المسافرين، وأحاول ولوج ذاكراتهم، وأبني حكايات ربما لم تحدث بعد. أرى ذكريات الزوايا المعتمة في بيوت الطفولة، أشم رائحة الأماكن الأولى الرطبة، أسمع صوت أولى قبلات حدثت بكل براعة الشبق المقبل للتو».

شكل إضافي من أشكال الهروب الشرعية في دواخلنا المعتمة، نحو ضوء ينيرها». وهو في صالة الانتظار للمغادرة، يقول برجس: «أمتثل لقلق ما قبل السفر، ولا أعانده. يبدو الامتثال أمام مشاعر لا مناص منها حلًّا مناسبا يجعل أحد طرفي المعادلة ينسحب إلى لجة الصمت». وقلق ما قبل السفر مرهق للنفس، يحاول المسافر أن يداريه بالتدخين وتناول القهوة، وقراءة الكتب، وتبادل الحديث؛ فالسفر غيب مجهول؛ فإن تقلع في السماء، ليس أمرا مريحا، حتى إن كان المسافر معتادا، كما أن وجهة السفر تؤثر في المسافر، فهو يغادر موطنه ومكان أنسه، إلى جهة أخرى، لن تكون له وطنا مهما أقام فيها، ولقي من حفاوة وترحيب. كما أن ترك المسافر لأهله ومألوف حياته يسبب له القلق، فإن تتخلى عن روتين حياتي يومي دفعة واحدة، إلى برنامج جديد مختلف، ليس سهلا وإن كان أكثر راحة ومتعة.

في صالة الانتظار، يتفرس برجس في وجوه المسافرين: «أنظر في وجوه حزينة يثقلها الفراق، وجوه تعلوها بهجة العائد، وجوه صامتة، وأخرى محايدة». وربما هي دقة الملاحظة عند الروائي، الذي تستهويه التفاصيل، والاختلافات، وتقلبات المشاعر، وسلوكات الناس في ظروف حساسة، كيف يدون، وكيف يتصرفون؟ وفي صالة الانتظار، آخر محطة أرضية للمسافر، يترك لعواطفه أن تتحرر وتنساب، فهو في مأمن من عيون تتلصص، فكل من حوله غريب عنه، ووسط الأغراب، لن يتكلف أو يتحامل على نفسه، وفي هذه الصالة يسترجع المسافر لحظات الوداع الأخيرة الدافئة المشبعة بمشاعر الفراق. ويتذكر برجس: «صوت أمي ما يزال في أذنيَّ كهديل حمامة عند الغروب» ويدفعه التأثر والحنين إلى بكاء صامت.

في الطائرة

يتأمل برجس الطائرة كمكان، ويتأمل المسافرين محاولا استكناه دواخلهم: «أتأمل الطائرة: حيّز متنقل في ذاكرة جوالة. كيف يمكن للأمكنة أن تسافر بهذا الوعي السريالي؟ أتأمل المسافرين، وأحاول ولوج ذاكراتهم، وأبني حكايات ربما لم تحدث بعد. أرى ذكريات الزوايا المعتمة في بيوت الطفولة، أشم رائحة الأماكن الأولى الرطبة، أسمع صوت أولى قبلات حدثت بكل براعة الشبق المقبل للتو». تأمل الطائرة وطيرانها، ربما يولد الخوف والتوتر، لكن الأمر عادي تماما لبرجس المتخصص في صيانة الطائرات وأعطالها، ويعرف خفاياها وأسرارها، ولذا فهو مطمئن. وتأمل روائي للمسافرين متعة وضرورة، فكل مسافر جزيرة معزولة، إن لم يشغل نفسه بشيء، فسينسحب إلى عالمه الخاص، يغوص في ذاته وذكرياته وأحلامه، وللروائي أن يتخيل ما يشاء، فهذا ميدانه ولن ينافسه فيه أحد. عند إقلاع الطائرة من عمّان، يصف جلال حال فتاة تجلس بالقرب منه: «تستغرق بالدعاء… توسلات ازدادت مع تسلق الطائرة سلّمَ الهواء، وهي تهتز، وتئن، إلى أن استوت.. فأمسكت الفتاة هاتفها النقال، وراحت تلتقط صورا لنفسها، ولأضواء مدن نمر فوقها». ويعود الخوف والفزع للفتاة عند الهبوط في مطار إسطنبول، وهذه حالة طبيعية، وخاصة لمن لم يألف السفر بالطائرات، فحالة الانتقال من الأرض إلى السماء أو العكس، حالة صعبة حساسة، وعموما؛ فإن أي عملية انتقال من حالة إلى حالة تسبب القلق والتوتر، وربما الفزع والخوف.

ويتذكر برجس كابوسا في رحلته من بانكوك إلى عمان، حيث رأى أن خللا فنيا أصاب الطائرة، فجلس وربط الحزام متوترا مشتتا منتظرا موتا قد يأتي في أي لحظة. وكانت سيدة بالقرب منه ترسم على صدرها شارة الصليب، ومعظم الركاب يبتهلون إلى الله، ويضيف: «أغمضت عينيَّ، أنظر في ما وراء جفنيَّ من ظلمة، وأسمع منها دويّا غير دوي الطائرة، وتأتيني منها أنفاسي وهي تتعالى بوتيرة مرتبكة. شعرت بأني ضعيف بقدر لم أعهده من قبل، وبأني يابس مثل غصن مبتور من شجرة، ملقى في العراء، ورحت أصلي… في البداية صليت بتلعثم وارتباك، ثم في ما بعد مسني الهدوء، رغم ما أشعر به من اهتزاز، وعدم استقرار.. لكن الطائرة هوت مرة واحدة؛ فعم الزعيق والصراخ والعويل، وارتطمت الأجساد ببعضها، وسقطت الحقائب من مخابئها، وراح الذهول يحكم قبضته عليّ بشراسة، بينما الطائرة تتحول إلى كتلة لا قدرة لأحد أن يسيطر عليها، إلى أن ارتطمت بالأرض؛ فأخذت أصرخ مرعوبا، بينما ركاب الطائرة وهي تضع عجلاتها على المدرج للتو ينظرون إلى يستغربون ما أفعل».

بعد الهبوط

في صالة الترانزيت، تمشي بجواره فتاة كانت بقربه في الطائرة «تستجدي شيئا من ونس يقضي عنها شبح الغربة، والخوف من التجارب الجديدة». يجلسان لتناول القهوة، يتعرفان على بعضهما، كما يفعل الغرباء في كل المطارات، فهم مقيدون بين جدران الصالة، وما أسهل الفضفضة للغريب؛ لأنه سيسمع وينسى ولن يتتبع أخبارك. إثر كابوس مرعب مميت في أثناء سفره بالطائرة، جلس في إحدى صالات المطار: «أفكر بكل ما قرأت، وبكل ما توهمت أنها حقائق توصلت إليها. لقد كان قراري بالصلاة خوفا من الموت، لكني حين حملت حقيبتي وخرجت والهواء في تلك الساعة التي تسبق طلوع الشمس طريٌّ، تفكرت بحقيقتي، ثم بروحي التي وجدتها آنذاك مثل عصفور عرف أين هو النهر؛ فشرب». فالمحن والمصائب ابتلاء يمتحن الله به معدننا، والأصيل يعود إلى فطرته، ويؤوب إلى خالقه، فحين ثمة موت، لا ملجأ منه إلا إلى الله، يستوي في ذلك معظم الناس على اختلاف أديانهم وأجناسهم.

عندما هبط برجس في مطار(هيثرو) أدهشه العدد الضخم من المسافرين: «خلته معملا بيولوجيا أنتج آلافا من الأعراق، بروائحهم ولغاتهم، ووجوههم، وأمزجتهم، وثقافاتهم، ثم أخذ يسيرها إلى مراقدها ليحتفظ بها خوفا على عرق آدم من أن يتلاشى إن وقعت الكارثة، بقيت لدقائق مثل وعل مذعور أتلفت حولي، لا أفهم شيئا كعادتي مع لحظات مثل هذه في أماكن تطأها قدماي للمرة الأولى».

وعندما يستجمع نفسه، وتعود إليه بعض ثقة بالنفس: «حدقت وأنا أجر حقيبتي متمهلا في وجوه النساء أكثر مما حدقت في وجوه رجال يسرعون الخطى نحو بوابات الخروج من المطار، كأن حدثا استثنائيا بانتظارهم. وجوه النساء أكثر دفئا، وأكثر حميمية… لم أر وجوها كثيرة من بريطانيا، رأيت خليطا كنت أفتش فيه عن وجوه الإنكليز المعروفة بملامحها». ويضيف: «سحبت حقيبتي ومضيت، أتلفت حولي. لم أجد في مطار هيثرو عناقا حارا، ولا دموعا تسح على وجوه تثير بي رغبة عارمة بالبكاء مثل ما في مطاراتنا العربية؛ كل ما رأيته القليل من العناق البارد، والمصافحات الخفيفة، واستقبال عادي يخلو من عواطف ما تزال تعشش في قلب واحد مثلي في روحه تمتد على رسلها سماء القرية».

كاتب أردني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي