أماني فارس أبو مرة
في مرحلة الطفولة تتكوّن المعارف والذكريات، يتشكّل الخيال والأحلام، ويكون الأب غالبا في نظرِ ابنه، مربيه لكنّه لا يبوح له بكلِّ شيءٍ، فيأخذ الطفل على عاتقهِ مهمةَ البحث عن معارفة بمفرده، فكيف إذا تم تحفيز هذه الرغبة بالبحث والتساؤل والشك، بصفعةٍ لم يُعرف سببها، جعلت طفلا في عمر 9 سنوات يطرح أول سؤال على نفسه لماذا؟ للتوالى بعد ذلك الأسئلة، وتتفجر في رأسه الصغير. هو المتمرّد منذ طفولته، تعلّم من تجارب والده وخساراته، كيف يخسر؟ بعد أن عيّن عليه من بين أشقائه، وشحن به كل هزائمه واستثمرها فيه، نعيم تلحوق الذي يرى الآن أن «الهزيمة استثمارا ذكيا لمكاشفة المعنى». أخذ في كتابه سردية المعنى «أرض الزئبق)»الصادر عن دار فواصل للنشر عام 2022، المعاني والدروس التي تعلمها. ووضعها في رحلته بالبحث عن المعنى، لتأتي سرديته منافية لكلّ السّرديات العلميّة والأدبيّة والدينية، ركّب وجودا كاملا برؤيتهِ المختلفة، ودوّن روايته الخاصة، بدأها من العدم، طرح إشكاليات متنوعة، تناول حال الرواية العربية التي تقبع في مضمارها القديم، المسجونة في قوالب فكرية أنتجت مساحتها، بينما يراها هو رؤيا وبغيرها لا يستقيم معنى يُجسّد مسار الحركة، ويتناول موضوع القراءة في مجتمعاتنا العربية، وانهيار النظم الأخلاقية التي تحكم مسار الكون، وحال الحراك الثقافي اليوم في ظل اكتساح التكنولوجيا، ووجود مواقع التواصل الاجتماعي، ليكون كتابه لوحة فسيفسائية، مرسومة بروح الشعر، ألوانها معجونة بالفلسفة، فيها الرواية والمسرح، الفكر والثقافة، المونولوج والديالوج والصوفية، حيث تمثّل الفلسفة عنده وحدة الوجود ولغة العالم، ويعدّها سؤالا عن كيف وأين ولماذا؟ ويكون الشعر كيف يبدأ سؤاله؟ وكيف يقول لماذا؟ فيؤثث روايته بالوقائع وباستعادة الماضي، جاعلا أبطالها إناثه سيدات البحث عن المعنى، لؤى، حنين، رغد، ميرا، رندلى، لامار، ميرنا، مريم، ورد، مارال وغيرهن. ومخلوقاته الفضائية أنطوان سعادة، موريس عواد، جوزيف حرب وخالد علوان.. وغيرهم، استحضر شخصيات تاريخية دينية وفلسفية وصوفية، كالحلاج وابن عربي والجاحظ وغيرهم، ملأ فراغات الزمن ليجعل «الحياة التي تحتاج إلى خطأة ليستقيم صوابها» واجهة مرئية من خلال بعض الحدود المفهومة التي تطمئن لها النفوس، وبذلك يمكنه أن يُضمّن الوجود ما يمكن أن يفسر ما حدث ، يضفي معنى على ما سيأتي، باحثا عن معنى لهذا المعنى.
من جرح العدم
جاء في الرواية الدينية أن الأرض كانت خالية إلا من الطبيعة، لا شيء سواها، لتكون أصلا لكلّ شيء، حيث لا وجود للحضور الإنساني أبدا، لينبثق الكون في بدايته الأولى من العدم. وأراد الكاتب في كتابه التلحوقي أن يسرد حكايته الجوهرية حول انبثاق الكون، أن يكشف من خلالها عن اللحظة التي بدأ فيها الكون من العدم، وصولا إلى إبليس اللعين الذي رفض هو وشجرة التوت السجود لآدم. «تجمّع النور الأسمى فوق النور الأنقى، منذ مليارات القرون وراح يجامع سديمه منذ الأزل، حتى استوى على خلق كل الشموس… فعرف أن الوقت حان لينفلق وينفتق.. قال لنوره الأنقى استعد لرحلة العشق العظيم.. شعّ من جرح العدم بركان مذهل وراح إلى مداه».
وليس هناك وسيلة أفضل من السرد والحكي أداة للكشف عن التحول من العماء المطلق إلى الوجود الإنساني، رغبة في استعادة لحظة من لحظات الخلق الغامضة المجهولة، حيث إن «النقاء يكمن في العدم.. في الشغف… حين شُغف العدم كان الله».
الإنسان الجديد
يتناول الكاتب فكرة الإنسان الجديد الذي يتوق إليه، وكأننا أمام فكرة الإنسان المتفوق الذي تنبأ به نيتشه: «إنني آت إليكم بنبأ الإنسان المتفوق، فما الإنسان العادي إلا كائن يجب أن نفوقه، فماذا أعددتم للتفوق عليه؟ ليتبين لنا أن تجربة تلحوق مع الإنسان الجديد «هوت عند أعتاب الفعل».
ثلاثية الخيال والفكرة والشعر
ومن اللافت في هذا الكتاب، تركيز تلحوق على ثلاثية (الخيال، الفكرة والشعر) فيرى أنّ ملكة الخيال هي الأساس من ثم تأتي الفكرة (بنت الخيال) ثم الشعر (حفيد الخيال) فالخيال أهم من المعرفة هذا ما قاله آينشتاين، هو الأدب على حد تعبير باشلار، هو الذي يهب معنى للعالم، ولهذا ينبغي على كل شاعر أن يدعونا إلى ما يسميه باشلار رحلة خيالية، التي يبدأها من الواقع ثم الانفصال عنه، ثم العودة إليه مرة أخرى لينفتح على العالم باطنه، فهو الملكة السيكولوجية التي تميز الوجود الإنساني بوصفه إنسانا، وهذا ما يحاول أن يؤكده تلحوق. غير أنّ هذه الثلاثية تذكرنا بثلاثية باشلارالتي تتجلى في تأكيده على العلاقة الوثيقة بين (الشاعر، الصورة والطفولة) حيث نسجهم في نسيج واحد لا ينفصم عندما قال: «دون الطفولة ليس هناك عالم كوني حقيقي، ودون الأغنية الكونية، ليس هناك شعر» وهذا ما نجده عند تلحوق المتصالح مع طفولته أيضا.
اللغة بيت الوجود
اللغة بيت الوجود كما قال هيدغر، وهي على حد تعبير روسو «خصيصة مميزة للإنسان، ودونها ليس ثمة نشدان للكمال، وهي تولد من الخيال الذي يحفز الشعور والعاطفة أو يثيرهما». أما عند تلحوق فهي النور الأنقى، الله هو النور الأسمى، واللغة هي النور الأنقى، كما يرى أنّ الجسد لغة، الكائنات لغة، والأرواح لغة».
الكلمة
نلاحظ أن الكاتب أولى اهتماما واضحا من بداية الكتاب بالكلمة فقال: ليست الكلمة حروفا، بل موقف وهدف ومآل» فالكلمات التي يكتبها الشاعر هي مفاتيح العالم، وفي كتاب «معنى المعنى» لريتشاردز وأودغن على لسان بولنيوس حينما سأل هاملت: ماذا تقرأ يا سيدي؟ أجابه هاملت: الكلمات، الكلمات، الكلمات. يؤكد ما قاله فيكتور هوغو: «إن الكلمة هي وجود حي، هي الفعل، والفعل هو إله» أي نلتمس فيها الحياة، وهذا ما نجده في كتاب سردية المعنى، حيث في كلماته حضور الموجودات والأشياء.
المرأة
في «أرض الزئبق» نجد الكاتب يتجاذب أطراف الحديث مع المرأة يكتب عنها، وتكتبه، هي في روايته الحياة، وفي رؤيته يرى أن الوجود انبثق منها فيريد امرأة تكونه ليكونها، وكل ما يحتاجه هو «قلب امرأه تستطيعه ولا يستطيعها: «امرأة تعرف فيّ كل شيء ولا أعرف منها شيئا» إضافة إلى أن المعنى الذي يبحث عنه الكاتب «نائم في المرأة التي تحمل كل الأسرار.. إنها معنى المعنى الذي حمل معه كل المحيطات والبحور والأنهار». ومن اللافت في نهاية كل فصل من فصول هذا الكتاب حرص الكاتب على إنهائه بذكر إحدى إناثه أو مخاطبتها، وكأنه يؤكد أن الأنثى بداية كل شيء ونهايته «فالحياة ملك للمرأة أي ملك للموت» على حد تعبير فيليب سوليرس.
الصمت
«السكوت قمة المعرفة، الهدوء والتأمل والصمت أهم عوامل اللغة التي تضيء النص وتفجره» بهذه الكلمات عبر نيتشه عن الصمت، ويتردد صدى هذه الكلمات في سردية المعنى، حيث يرى الكاتب أنّ «الحقيقة في الصمت الذي لم يرشح حروفا» فالكلام كما ورد في «هكذا تكلم زرادشت» «الأكثر صمتا يحرك الزوابع، الأفكار الآتية بأقدام الحمائم تقود العالم».
عناصر الطبيعة
إنّ اهتمام الكاتب بعناصر الطبيعة (النار، الهواء، التراب، الماء، الأرض) إنّما يعبر عن علاقته الحميمية بالطبيعة، وفي ذلك رغبة بالعودة الى الأصل، الذي يتأسس عليه العالم والإنسان، الطبيعة بفطرتها بباطنها بذاتها بطفولتها ببساطتها، بعيدا من التعقيد والغموض.
في سردية المعنى:
واستنادا إلى عوالم السرد والغموض جاء المسار السردي سريعا متتاليا، يراكم أحداثا ووقائع، برعت يد السارد في تصريفها وفق ما يقتضيه بناؤه السردي، وهذا ما يفسّر ربما رغبته في الوصول إلى نقطة ما. ويمكننا القول إن هذا العمل لا يقودنا إلى إشباع سردي كما يتخيّل للقارئ أن يراه، لأن بناءه من الناحية الحكائية مجهض، لا توجد فيه أحداث بالمعنى السردي للكلمة، بل هناك مجموعة من الوقائع يستند إليها الكاتب، ويستعيد حكايات من طفولته عبر تقنية الفلاش باك Flashback كقصته مع والده، وصفعه له، ومع أمه التي كانت لا تريده أن يحلم، وأن لا يبحث عن نفسه في الوجود خوفا عليه، وزوجته التي كانت تطلب منه أن يكون سهلا في كتاباته ليسهل فهمه، ليأتي هذا العمل خزانا لقصص ووقائع مجموعة في نسيج واحد.
كما نلاحظ أن الكتاب لا يعتمد على معرفة لفظية سهلة الإدراك والتداول والاستيعاب، اللغة المفهومة التي عادة ما يستند إليها السّرد التقليدي، إنّما يعتمد على معرفة لفظية تحمل رؤيته المهووسة بالمطلق، التي تنشد الصفاء الروحي والحب، رؤية تسرّب الوعي عبر المشاهد والوقائع، لا عبر الأحداث المروية، فنجد أن لغة الكتاب لغة إيحائية شعرية غنية بالدلالات، وهذا ما أشارت إليه سهير حسانين في كتابها «العبارة الصوفية في الشعر الحديث» «لغة الشعر إيحائية قلبية تتخطى حدود اللغة المعتادة في الخطاب المباشر فهي لغة الخيال، تموج على السطح لتغوص في أعماق اللاوعي، فتمر بذلك من الثبات إلى الحركة، من المحدود إلى اللامحدود ليتحول النص إلى فيض من الدلالات».
أراد الكاتب أن يأخذنا بتجربته العبثية المثيرة وبروح المتصوف، الذي يشكك في الأحداث والأشياء والتاريخ آملا في تمزيق الحجب، إلى رحلة طويلة لا تنتهي، كاشفا برؤيته الخاصة عن علاقات جديدة تكسر الحواجز، وتلغي الفواصل بين موجودات الكون وميراث الإنسان الروحي والمادي، باحثا عن المعنى سائلا إلى أين ذهب؟ وما هو دور الإنسان في هذا الوجود ولماذا خلق؟ طالبا منه عدم العبث بالمعنى، كي لا يصبح إنسانا ملتبسا لأن الالتباس حركة اللامعنى، مشيرا إلى أنّ التساؤل والشك والتجريد، هو ما يحقق وجودنا والمعنى منه، وأن التحول الدائم هو ما يبقينا على قيد الخلق، وبأننا كائنات معقدة، والله نور شعشعاني صامت، بسيط جدا «كن بسيطا كالله، واحترم نبضك كي لا يستقيل وجهك منك» ليكوّن بذلك طبقات من الوعي تحفّز القارئ على إعمال عقله بدلا من إقصائه وتحجيمه.
كاتبة سورية